حاوره: معتصم الشاعر*
حسين حبش شاعر حاز على شهرة عالمية، شارك شهر أكتوبر في مهرجان الشعر العالمي بالأوروغواي، التقيته لإلقاء الضوء على تجربته الشعرية والمهرجانات التي شارك فيها. وهو كردي من ناحية شيه/ مدينة عفرين/ كردستان، ويقيم في ألمانيا منذ عام 1996.
صدرت له دواوين شعرية عديدة، منها: ـ غرقٌ في الورد/ دار أزمنة، عمان ودار ألواح، مدريد 2002 ـ هاربون عبر نهر إفروس/ دار سنابل، القاهرة 2004 ـ أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال/ دار ألواح، مدريد 2007 ـ ضلالات إلى سليم بركات/ دار الزمان، دمشق 2009 ـ ملاكٌ طائر “نصوص عن أطفال سوريا”/ دار مومنت، لندن 2013، شاركَ في مهرجانات شعرية عالمية كثيرة، في كولومبيا، نيكاراغوا، المغرب، كوستاريكا، المكسيك، ألمانيا، السلفادور، الإكوادور، ليتوانيا، مقدونيا، كوسوفو، فرنسا، بورتوريكو، بلغاريا، رومانيا، سلوفينيا، كوبا، تايوان، الصين، نيويورك سيتي، السويد، سراييفو، اليونان، ألبانيا وقبرص. وهنا نص الحوار:
-قرأت لك قصائد كثيرة باللغة العربية، ورغم أنني لا أعرف اللغة الكردية، إلا أنني حين أستمع أحيانا إلى قصائدك التي تلقيها عن عفرين، أحس بشيء غريب، هنا تتحول اللغة بالنسبة إليّ، إلى موسيقى كونية، يتجسد فيها إحساس حزين وحب لا مثيل له للأرض، أحيانا أحس بعلاقتك بعفرين قد تجاوزت علاقة الإنسان بأرضه إلى علاقة أعمق لا أجد ما يسعفني من اللغة لوصفها، ما هي عفرين بالنسبة إليك، وما سر هذا التعلق الخارق؟
شكرا على هذا الرقي في الاحساس يا صديقي.. نعم، عندما أتحدث مع أمي، بالتأكيد أتحدث معها بالكردية لأن الكردية هي اللغة الأولى التي تعلمت النطق والتكلم وتهجئة حروفي الأولى بها عن طريق أمي، لذلك للكردية دفء خاص، وهي تشبه دفء الحليب المتدفق من أثداء الأمهات الكرديات، وهي دائما في قلبي وروحي وعقلي ووجداني ولا تغيب لحظة واحدة… وعفرين بالتأكيد هي أمي أيضا، هي الأم/ الأرض التي ولدت منها وفيها، شممت رائحة ترابها وركضت في أزقتها وشوارعها وحقولها وأحلامها وخيالها وغيومها وأمطارها وترابها وتدفق ينابيعها وأنهارها وشلالاتها وشموخ جبالها… وهي مسقط رأسي وقلبي وروحي، ومصدر بقائي دائما على قيد الحنين والاشتياق والحب… إذن، هي الحب، هي الأم، هي الأرض المقدسة التي تمتد ملايين أشجار الزيتون أمام شرفاتها العالية. جبت قارات وبلدان ومدن كثيرة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لكن حنيني دائما وأبدا كان وما زال إلى تلك الأرض المقدسة التي دنسها الغزاة والطغاة من أحفاد أرطغرل وبعض الأذناب من السوريين الذين باعوا أنفسهم بأرخص الأثمان لقاء تدنيس أرضهم وأرض عفرين الطاهرة. كيف لا أتعلق بها هذا التعلق الخارق كما سميته، وهي كانت وما زالت الأم والروح والقلب والحب؟ كيف لا أتعلق بها وهي الآن تئن من الجراح والآلام والطعنات التي غارت وتغور عميقا في جسدها دون رحمة؟
-لقد أصابت عدوى عفرين شعراء عالميين، وقد أعددت أنطولوجيا شعرية عالمية بالإنكليزية والإسبانية، بعنوان “السلام لعفرين.. السلام لكردستان”، من إصدارات دار سَريرا في برلين في العام 2019، ما هي نظرتك للشعر ودوره في التقريب بين الشعوب والتعبير عن قضاياها؟هنا لا بد من الحديث عن هذه الأنطولوجيا قليلا، ففي عام ٢٠١٨ عندما أصبحت عفرين وقراها ال ٣٦٥ في خطر حقيقي، وبدأ احتلالها فعليا من قبل الغزاة الترك، أطلقت نداء إلى كتاب وشعراء العالم للتضامن مع المدينة التي أصبحت منتهكة ومباحة بكل معنى الكلمة، فوقع على النداء أكثر من ألفين شخصية عالمية من كتاب وشعراء ومفكرين وفنانين وفلاسفة وسينمائيين وممثلين ومسرحيين وتشكيليين… لم أكن أتوقع حجم هذا التضامن الهائل مع مدينة شبه منسية وغائبة عن أنظار العالم! وبعد احتلالها بشكل تام وتهجير سكانها الأصليين، أي الكرد (بمن فيهم أهلي وعائلتي…) أطلقت نداء آخر إلى شعراء العالم للكتابة عن المدينة المنكوبة والمستباحة، فلبى النداء شعراء كثر من مختلف أنحاء العالم وكتبوا عنها وعبروا عن تضامنهم الكبير معها، فكانت هذه الأنطولوجيا التي رأت النور في برلين تحت عنوان السلام لعفرين.. السلام لكردستان عن دار سريرا. طبعا هنا لا بد من أن أشكر الشاعرة التايوانية مياو يو تو التي ساعدتني في إعدادها. أما ما هي نظرتي للشعر، فالشعر هو مصدر وجودي وبقائي على قيد الحياة، وهو الذي يحقق لي التوازن مع نفسي ومع العالم، وهو آخر الكائنات الجميلة التي تعطي معنى للحياة وسط هذه الحروب والكوارث التي تغطي وجه الكون، لذلك ضحيت وما زلت أضحي من أجله بالغالي والنفيس، وبالمقدس والمدنس على حد سواء. أنا لا أعطي أي وظيفة للشعر سوى أن يُكتب بجمالية شاهقة وأن لا يتنازل عن فنيته وعن كونه شعرا حقيقيا، لكنني رغم ذلك، أعتقد أن له دور كبير في خلق مساحات شاسعة من الحب والجمال والتقريب بين الناس وتقليص الهوة بينهم بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم وآرائهم ومعتقداتهم وفلسفتهم في الحياة… الشعر في حالة يقظة ونباهة دائمة لخلق الألفة والمحبة والتضامن وردم الهوة وتقريب وجهات النظر بين البشر، وهو يقظ ولا يغفل عن جراحنا، جراح الشعوب المضطهدة التي تعاني من الظلم والقمع والقتل والقهر والتنكيل… يقول رينيه شار إن المضطهدين يعرفون أن الشعر هو شقيقهم الأكبر. نعم، أن الشعر هو شقيقنا الأكبر وأختنا الكبرى والبوصلة التي توجهنا في محنة هذا الوجود!
– أنت الآن تعيش في ألمانيا، لا شك أن الغربة قد ضاعفت من إحساسك بالوطن، ورغم ذلك ربما للغربة فوائد أيضا لمشروع الأديب أو الشاعر أو المفكر، ماذا أضافت لك الغربة، كيف تأقلمت معها؟ وبماذا أنت مدين لها في مشروعك الشعري الكبير؟
في بداية المنفى يكون الوضع كارثياً، حيث يعاني المبدع من الانكسار والخسران والتمزق والعجز والألم والإحباط والعزلة والخذلان وعدم التأقلم مع المحيط بسهولة، سواء مع البشر أو اللغة أو المجتمع أو نمط الحياة الجديدة والمغايرة. يكون عقله وخياله وروحه وكل تفكيره مركزاً على الماضي والذكريات، على العائلة والأهل والأصدقاء، على الأرض والبشر والحجر وعالمه الذي تركه هناك، فيشعر بعجز شامل يكبح جماح إرادته، إرادة الحياة والكتابة والإبداع… يودُّ في لحظة ما تحطيم كل شيء من حوله، لكنه يدرك بأنه لا يستطيع إلا تحطيم نفسه فقط، وأنا لم أكن استثناء من هذه الأقدار. لكن مع مرور الزمن يتأنسن هذا المنفى رويداً رويداً في داخله، وتتحول كل تلك الصدمات والخيبات التي تلقاها إلى حيوية وطاقة محرضة تدفعه نحو الكتابة والقراءة بجنون للتعويض عن كل ما فاته سابقاً. فتصبح الكتابة وطنه البديل، ولا يرى نفسه إلا في إبداعه ولغته وكلماته، بعد أن يكون قد تعلم وأدرك وخبر أشياء كثيرة لا غنى عنها. وعلاوة على ذلك فقد وهبني المنفى لغات جديدة ووهبني متعة السفر والجنون وعبور القارات. مكنني من الاطلاع على ثقافات العالم وحضاراته المتنوعة بمنتهى الحرية دون قيود أو عوائق أو خوف أو تابو يعيقني عن الكتابة بحرية مطلقة والانطلاق نحو المدى الواسع للعالم. فإن لم يكن الشاعر منفياً دوماً وإن لم يعش في الحافات القلقة من العالم كيف له أن يبدع ويكتب ويستمر…؟ وأكاد أقول أن الشاعر يبقى منفياً في الزمان والمكان أينما كان وحيثما ذهب.
أحيانا كشعراء وأدباء نستطيع أن نرى بلادنا أو العالم في صورة أرفع من الواقع المعاش، ونحس بالخطر القادم أيضا أكثر من غيرنا، مثل زرقاء اليمامة، وهذا سر قلقنا الدائم، أو ذلك التوتر الناتج عن تفاعلنا مع الواقع والمأمول، والذي يسميه بيتر سينج بالتوتر الخلاق، ما هو شكل العالم الذي يحلم به حسين حبش وما شكل كردستان فيه؟
نعم، هذا صحيح يا صديقي، بالفعل أننا نرى بلداننا بصورة أرفع وأفضل وأوضح حين نكون بعيدين عنها، أعتقد أن هنريك إبسن قد أشار إلى ذلك أيضا بشكل أو بآخر. أما العالم الذي نحلم به جميعا، هو عالم ينبغي أن يكون عالما آمنا وهادئا لا حروب فيه ولا أسلحة ولا أدوات قتل وفتك وتدمير.. عالم يحترم فيه الإنسان أخاه وأخته الإنسان بغض النظر عن اللون والعرق واللسان والدين والمعتقدات.. عالم مزدهر، يعيش فيه الناس سواسية، لا فقر فيه ولا جوع، ولكل بيت وسقف وعمل وكرامة… عالم يحترم الطبيعة والحيوان.. عالم نحلم به ونحلم حتى يصبح على شكل قصيدة مكتوبة على وزن الحب والجمال! أما بخصوص كردستان، كان وما زال حلم أحلامي قيام دولة كردستان، دولة مستقلة وحرة، ويكون فيها الكرد أسياد أنفسهم وأسيادا على تراب آبائهم وأجدادهم، يعيشون فيها وعليها أحرارا وبكرامة. هذا هو العالم الذي نريد.. هذه هي كردستان التي أريد..
-تعاملتُ مع مثقفين أكراد، وما لاحظته أنهم أناس على سجيتهم، أو أناس يألفون ويُؤلفون، أحس أحيانا أنني أتعامل مع أناس من بلدتي الصغيرة، ومع ذلك أرى أنهم يعيشون في شبه عزلة، الإعلام لم يبرز عنهم الكثير، ولذلك لا يعرف عنهم الكثيرون في العالم العربي أي شيء، ربما لأنكم ضمن ما يسمى ثقافيا بالهامش العربي، أو لأسباب أخرى، في رأيك ما سبب هذا التغييب؟
شعورك هذا حقيقي وصادق يا صديقي، شكرا لك.. نعم، نحن نشبهكم ونتطابق في الكثير من الصفات والخصال معكم، ولا شيء خارج إطار المحبة والاحترام في التواصل بيننا. نفتح قلوبنا لكل من يفتح قلبه لنا بصدق. يقال أن من يحب الكردي ليوم واحد سيحبه الكردي لشهر ومن يحب الكردي لشهر سيحبه الكردي لسنة ومن يحب الكردي لسنة سيحبه الكردي إلى أبد الدهر. هذه هي صفاتنا وخصالنا يا صديقي. أما سبب تغييب المثقفين الكرد، ربما يعود إلى النظرة الاستعلائية من بعض الإعلام العربي أو من بعض المثقفين العرب أو ربما لأسباب عنصرية من البعض الآخر أو ربما الخوف من بروز كتاب كرد على حساب بعض الكتاب العرب، لا أدري بالضبط.. لكن بجميع الأحوال قطار الثقافة الكردية يمضي ولا أحد يستطيع أن يوقفه مهما كان حجم التعتيم والتغييب الذي حصل ويحصل!
-إذا سألتك عن الخارطة الأدبية والشعرية الآن، كيف ترسمها، وما هي أشهر النجوم التي تزين سماءه، وهل هنالك حركة للترجمة من الكردية إلى العربية توازي المنتوج؟
الخارطة الأدبية والشعرية شاسعة ولا يمكن إبداء رأي متوازن حولها. دائما، وفي كل الأوقات وفي كل أنحاء العالم كان هناك أدب رفيع وجاد وحقيقي، وهو قليل ونادر الوجود كالجواهر النادرة، وبالتأكيد هذا الأدب له قيمة حقيقية، ويقوم بوظيفته على أكمل وجه، يؤدي إلى رفع الذائقة ويدعو إلى التفكير ويطرح الأسئلة ويغيرنا في العمق… وهناك أدب غث، وهو موجود بكثرة حواليك وفي كل مكان، وهو يركض أمامك ويسير بجانبك في الطرقات والشوارع والأزقة، لكن عليك تفاديه ولا تمر عليه حتى مرور الكرام. أما هل هناك حركة للترجمة من الكردية إلى العربية توازي المنتوج، أبدا لا! هناك حركة بطيئة جدا للترجمة من الكردية إلى العربية أو إلى اللغات الأخرى، وأعتقد أن هذا الأمر يعود إلى عدم وجود كيان كردي مستقل وغياب المؤسسات الجادة التي تهتم بهذا الأمر، وكذلك غياب الوعي بأهمية الترجمة وتعريف الآخر بأهمية ما لديك من أدب حقيقي وهام…
-لكل بيئة سمات خاصة تظهر في أدب أبنائها وفلسفتهم في الحياة، في رأيك، ما الذي يميز أدب كردستان؟
أعتقد أن ما يميز أدب كردستان هو المعاناة والألم والجراح المفتوحة على اتساع المدى! الشعب الكردي تعرض إلى كل صنوف الاضطهاد والعذاب والقهر والتنكيل والتهجير والابادة، واستخدمت ضده كل أنواع الأسلحة من أصغر سلاح وصولا إلى الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا! وللأسف الوضع لم يتغير، وما زال مستمرا حتى الآن! كل هذا انعكس على الشعر والأدب والثقافة والأغاني وكل الفنون الكردية الأخرى.. الحزن والألم والغضب والمعاناة والفقدان والاكراه والنزيف والخطر والادانة ورائحة الدم كل هذا لا يغيب عن الأدب الكردي، كل هذا نتيجة الوضع الاستثنائي واللا إنساني الذي يعيش فيه الشعب الكردي منذ عشرات السنين! كل هذا انعكس على الآداب والفنون الكردية… لكن هذا لا يعني أبدا بأننا حصرنا الأدب الكردي في هذه الدائرة فقط ولم نخرج منها، بل بالعكس أنتج الأدباء الكرد أدبا رائعا عن الفرح والحب والجمال والطبيعة والانسان والحياة والعالم والوجود… إذن هناك أدب كردي شاسع ومترامي الأطراف، لكن كما أسلفت كتب الكثير الكثير وما زال عن الحزن والألم والمعاناة التي لا تفارق حياة الكرد والأدب الكردي أبدا! أحيانا أقول: حتى إذا ضحك الكردي فهذا برأيي من أساليب المقاومة! كيف لشعب قضى حياته كلها في العذاب والقهر يستطيع، رغم ذلك، أن يضحك، أليس هذا بطولة؟!
– يقال أن لكل شاعر آباء شعريين سبقوه ونقلوا إليه جيناتهم الشعرية، بمن تأثرت من الشعراء الأكراد أو العرب أو الشعراء العالميين؟
في البداية تأثرت ببعض الشعراء وتجاربهم المختلفة، لكن هذا التأثير خف وانتهى مع مرور الزمن والكبر في العمر واكتساب التجارب والخبرات والتغييرات التي حدثت وما زالت تحدث في الذائقة الشعرية… والتأثير هنا لا يعني مطلقا الكتابة مثل أولئك الشعراء أو تقليد أدواتهم في الكتابة، فالأمر ليس كذلك، لكن يمكن أن تحدث علاقة ود واحترام ومحبة بينك وبين تلك التجارب المهمة وتستمر في قراءتها، مثلا ما زلت أحب شعر شيركو بيكس ورياض صالح الحسين وسليم بركات وفرناندو بيسوا وريلكه وهولدرين ونيتشه الشاعر، وكذلك آنا أخماتوفنا ومارينا تسفيتايفا وآن سكستون ووالت وايتمان وبودلير ولوتريامون ونيكانور بارا وأسماء آخرى مهمة لا يسع المجال لذكرهم جميعا هنا.
-لقد حظيت أعمالك بترجمات عديدة إلى لغات عالمية، وقد صدرت لك دواوين عديدة بلغات عالمية، لن يمروا، ديوان بالإسبانية من إصدارات مهرجان الشعر العالمي في بورتوريكو 2016، أشجار ثملة، ديوان بالرومانية، من إصدارات دار أرس لونغا، بوخارست 2107، شجرتان، ديوان بالإسبانية من إصدارات مهرجان الشعر العالمي في السلفادور 2017، أزمنة الحرب، ديوان بالإسبانية من إصدارات مهرجان الشعر العالمي وبيت الشعر في كوستاريكا 2017، ملاكٌ طائر نصوص عن أطفال سوريا بالإنكليزية عن دار بوغداني 2015، الثلج الأحمر، ديوان بالصينية صدر في تايوان 2019، وردة إلى قلب الحياة، مختارات شعرية بالإنكليزية من إصدارات دار إينير تشايلد بريس إنترناشوينال في الولايات المتحدة الأمريكية 2021، قطيع الوعول يموت من الظمأ عن دار لاهامارتان في باريس 2024 وغيرها من الدواوين واللغات، إضافة إلى مختارات من قصائدك مترجمة لأكثر من ثلاثين لغة، ووردت قصائدك في أكثر من 150 أنطولوجيا عالمية، ماذا أضاف لك كشاعر هذا الرصيد العالمي والإنساني المتميز؟
هنا لا بد أن أعبر عن شكري وامتناني الكبيرين لكل من ترجم شعري إلى اللغات الأخرى وأوصل كلماتي إلى كل مكان تقريبا، فلولا ترجماتهم الرائعة لما وصل شعري إلى العالم، إلى الآخر المختلف لغويا وثقافيا وحتى شعريا! أما ماذا أضاف لي هذا، لا أدري بالضبط، لكن ما يسعدني حقا أن شعري قد دخل إلى بيوت كثيرة في العالم ولي قراء بمختلف اللغات. أحيانا أتلقى بعض الرسائل من أماكن مختلفة من العالم يخبرونني فيها بأنهم قرأوا لي وأعجبهم هذا الكتاب أو ذاك، أو هذه القصائد أو تلك. ويحدث نفس الشيء في بعض الملتقيات والمهرجانات الشعرية التي أشارك فيها.. وهذا يدعو للفرح بالطبع. شكرا للقراء، أولئك العشاق، عشاق الكلمة الذين يعطون معنى لما نكتبه وننشره ونضحي من أجله… شكرا للشعر أيضا، فلولاه لما كان للحياة، حياتي على الأقل، من معنى!
– بالنسبة للعيش في الخارج والسفر وحضورك المهرجانات الشعرية العالمية التي تحل ضيفا عليها، هل هذا هو سبب ثرائك اللغوي، فأنت تتحدث لغات عديدة وتكتب أيضا بأكثر من لغة، هذا من باب الضرورة أم لديك منهجية واضحة وقصدية من تعدد الألسنة؟
برأيي، ينبغي على المبدع أن يمتلك أكثر من لغة حتى يتمكن من قراءة الآداب من منابعها الأصلية. وأنا بحكم إقامتي الطويلة في الغرب تعلمت بعض لغاته… مثلا أن تقرأ ريلكه ونوفاليس وهولدرين وباول تسيلان وروزا أوسلندر وإريش فريد وإنغبورغ باخمان باللغة الألمانية أهم بكثير من قراءة ترجماتهم. ثم أنك إذا حضرت مهرجانا أو لقاء أدبيا عالميا ولا تمتلك لغة عالمية فكيف ستتواصل من الآخرين، مع الناس ومع الزملاء الكتاب والشعراء؟ إذن من الضروري على المبدع أن يمتلك أكثر من لغة حتى يتمكن من التواصل مع الآخر بسهولة ويطلع على الثقافات الأخرى من منابعها الأصلية دون عوائق.
– يقال أن الترجمة تنتزع من الشعر روحه الكامنة في لغته الأصلية، وهذا باب جدل كبير، كيف تنظر إلى أعمالك المترجمة، وكيف كانت تجربتك الشخصية في ترجمة أحلام في الجدار للشاعر الألباني جيتون كلمندي إلى الكردية 2015، ما الذي توصلت إليه بشأن ترجمة الشعر وعلاقتها بروح النص في لغته الأصلية؟
هناك أقاويل كثيرة عن الترجمة وحولها، فبعضهم يعتبرها خيانة وبعضهم الآخر يعتبرها صورة بالأبيض والأسود من الأصل الزاهي والملون، واعتبرها أمبيرتو إيكو بأنها فن الفشل، بينما قال عنها خوسيه ساراماغو بأن الكتاب يصنعون أدبا قوميا بينما المترجمون يصنعون أدبا عالميا. أنا أميل إلى رأي ساراماغو. مثلا لولا الترجمة لما قرأنا أدب أمريكا اللاتينية العظيم، لما عرفنا هؤلاء الشعراء الكبار خوان خيلمان ونيكانور بارا وروبيرتو خواريث وجيوكندا بيلي ونيكولا غيين وإرنستو كاردينال وخوسيه أميل باتشيكو على سبيل المثال… والأمر ينسحب على الأدب الياباني والأدب الروسي وآداب أفريقيا المتنوعة وكل آداب المناطق التي كنا نجهلها. أعتقد أن قصائدي مترجمة بشكل جيد، ولا بد أن أكرر شكري لكل من اقترب من شعري وأحبه ومن ثم ترجمه إلى اللغات الأخرى. أما تجربتي الشخصية في الترجمة هي تجربة متواضعة لا تتعدى ديوان الشاعر الألباني وقصائد متفرقة لبعض الشعراء الألمان، وانتهيت من ترجمة ديوان للشاعرة السويسرية ألكسندرا نيكود، سأحاول نشره قريبا. إذا تصدى للترجمة مترجم حقيقي، يمكن أن تتفوق الترجمة على النص الأصلي، لكن للأسف في الآونة الأخيرة أصبحت الترجمات الرديئة والمستعجلة منتشرة في كل مكان! وهذا الأمر يدعو للحزن…
-في السابق كان الشعر ديوان العرب، والآن نرى هجرة جماعية نحو الرواية، يقول البعض أن مجد القصيدة ذاهب للأفول، هل فكرت في كتابة الرواية؟ وكيف تنظر إلى حاضر الشعر ومستقبله؟
لا، لم أفكر في كتابة الرواية وأعتقد بأنني لن أفكر بكتابتها، رغم أن هناك أفكار كثيرة وكبيرة تتزاحم في رأسي، ويمكن أن تنتج عنها أكثر من رواية، لكنني لا أستطيع أن أدير ظهري للشعر وأذهب إلى كتابة الرواية لمجرد أن هناك أوهام وأقاويل تقول بأن مجد الشعر في أفول والزمن هو زمن الرواية! أعتقد أن شعاعا حقيقيا من ضوء الشعر يمكن أن يضيء حياة بأكملها، ويمكن أن تغنيك عن كل شيء آخر. الشعر سيبقى ما بقيت الحياة وهو آخر الكائنات الجميلة التي تعطي معنى للحياة وسط هذا الخراب الشاسع الذي يلفنا من كل حدب وصوب. الشعر هو مستقبلنا كما كان حاضرنا وماضينا، على الأقل بالنسبة لنا نحن المشغولون بالجمال في العالم والمحافظة على ما تبقى منه، لنحافظ على إنسانيتنا وطراوة أرواحنا من اليباس والجفاف، لنحافظ على شرف الكلمة، لنحافظ على الشعر، شعورنا العظيم تجاه الحياة والعالم وأنفسنا أيضا.
– ما هي نصيحتك للشعراء الشباب؟
نصيحتي للشعراء الشباب هو أن لا يردوا على نصيحة أحد، وأن لا يأخذوا بها، وهذه للأسف أيضا نصيحة! ينبغي عليهم التعلم بأنفسهم وشق طريقهم لوحدهم بدون سند ولا وصاية ولا مواعظ ولا حكم ولا نصائح ولا آباء ولا أمهات… ينبغي عليهم أن يخوضوا بحار الكتابة بدون قوارب ولا مجاديف ويغوصوا عميقا فيها… ينبغي عليهم أن يعرفوا جيدا أن الكتابة موهبة ربانية لا يمكن تعليمها…
– بالإضافة على حصولك على جائزة الشاعر الكردي الكبير حامد بدرخان من الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد. حصلت على عدد من الجوائز العالمية منها، جائزة ستيتشاك البوسنية الدولية للشعر، التي يمنحها اتحاد كتاب البوسنة والهرسك.. كيف تقارن بين شهرتك العالمية وحضورك الشعري في العالم العربي الذي أصدرت عددا من دواوينك بلغته؟ وما هو سبب عزوفك عن الكتابة باللغة العربية منذ عهد طويل نسبيا؟
لا أدري! أنا لا أهتم فيما إذا كان لي حضور في العالم العربي أم لا! كتبت عدة دواوين بالعربية، وأعتقد أن النقاد والأصدقاء الشعراء والمتابعين أخذوها على محمل المحبة والجد والاحترام… أما سبب عزوفي عن الكتابة باللغة العربية يعود إلى عدة أسباب أولها أن اللغة الكردية هي لغتي الأم كما أسلفت، هي أول لغة لفح دفء كلماتها أذني، وأول لغة نطقت بها حروفي الأولى، وهي لغة الروح والقلب والأذن واللسان والحواس، وبالرجوع إليها أكون قد رجعت إلى المنبع والأصل، رجعت إلى حليب أمي تحديدا. ثانيا، وهنا السؤال المهم، إذا كتب كل أو أغلب الكتاب الكرد بالعربية أو أي لغة أخرى، فمن سيحافظ على اللغة الكردية ويصونها ويطورها ويبقيها حية؟ من سينتج الشعر والأدب والفكر والثقافة والمعرفة بها؟ من سيحميها من الانحدار والاندثار؟ إذن هو واجب على كل الكتاب الكرد القادرين على الكتابة بلغتهم الأم الكتابة بها، واخراج الجواهر المخبأة في أعماقها. ينبغي هنا أيضا قول الحقيقة دون مواربة بأن اللغة العربية كانت مفروضة فرضا على الكرد ولم يكن لهم خيار في تعلمها، واللغة الكردية كانت ممنوعة ومقموعة من الدول الغاصبة لكردستان، وبالتالي الكتابة بالعربية لم يكن خيارا منذ البداية، بل كانت اللغة الوحيدة المفروضة علينا فرضا! هناك تحدي كبير للكتابة باللغة الكردية ورفع الظلم الذي وقع على كاهلها، وكذلك اعادة الاعتبار لها ولوجودها…
– حين يصل الكاتب إلى شهرة عالمية، يكون مطالبا من شعبه أن يكون متحدثا باسمهم، وقد يصل البعض إلى مرحلة الترصد، فيتتبعوا إغفال الكاتب عن بعض الأحداث، هل مررت بهذه التجربة وكيف تعاملت معها؟
نعم، هذا صحيح تماما… في بعض الأحيان يسألني البعض (طبعا محبة) هل تحدثت عن القضية الكردية وماذا كان رد فعل الناس؟ هل تحدثت عن اللغة والشعر والأدب الكردي؟ هل قرأت بالكردية أم بلغة أخرى؟ هل يمكنك أن ترسل لنا صورا أو مقاطع فيديو وأنت تقرأ بالكردية؟ وأسئلة أخرى تصب في نفس الاتجاه… ويكون جوابي دائما بأنني أفعل ما أستطيع فعله وأكثر أحيانا! وإن حدث بعض التقصير، بالتأكيد يكون قد حصل سهوا وليس عمدا. وأخبرهم دوما بأن الشعر هو من أولى أولوياتي، وكل الأمور الأخرى مرتبطة به. بالتأكيد، سواء طرحت علي هذه الأسئلة أم لا، الكل يعلم بأن القضية الكردية بكل مظلومياتها وارهاصاتها من صلب اهتماماتي، وأحملها على كاهلي إلى كل مكان لأنها قضية تستحق أن يعرف العالم عنها وعن الحيف والظلم والمعاناة والاضطهاد الذي تعاني منها. أقول دائما بأن المطلوب من الشاعر والأديب الكردي أضعاف مضاعفة من شعراء البلدان الأخرى… ينبغي على الشاعر الكردي أن يعرف الآخر باللغة الكردية المنسية، والأدب والشعر الكردي المجهولين، والقضية الكردية التي لا أحد يتحدث عنها، وكأن كل العالم قد أدار ظهره لها… كل هذه الأشياء تقع على عاتق الشاعر الكردي، وبالتالي ينبغي عليه نقلها إلى الآخر والتعريف بها قدر الإمكان.
– لديك خبرة واسعة في التعامل مع المؤسسات الثقافية العالمية، إذا طلبنا منك أن تقدم نصيحة لنظيراتها العربية، ماذا تقول؟
لست مؤهلا للجواب عن هذا السؤال، لكن الذي أعرفه هو أن المؤسسات الثقافية العالمية (ليست الكل) تعامل الثقافة بشكل محترم، حقيقي وجاد. وتتعامل معها بحرفية عالية، وتقدمها على أنها قيمة ذات أهمية قصوى للارتقاء بالوعي وبناء المجتمعات وإحداث التغييرات على أسس بناءة وخلاقة…
ـ في الختام أشكرك على هذا الأنس، وآمل أن نلتقيك في مساحات أخرى، كلمتك الختامية؟
الحب، هذه الكلمة التي تخلق مساحات شاسعة من الجمال في هذا العالم، هذا العالم الذي يركض بقدمين سريعتين جدا نحو الهاوية. إذن ليكن الختام حبا، شكرا وامتنانا أيضا.
……………….
* روائي وكاتب من السودان