حاورته: ايمان علي
المكان الذى ظلّ يستقبل زوّاره على مدار 26 عاما، بالكُتب المُتراصة بعناية، على أرفف تُحيط بجنباته، مع إضاءة هادئة، وزرع يستقبل طلّتك من الشبابيك أو البلكون، اكتظّ فجأة بفوضى الكتب، مكوّمة فى الأركان، وعلى الطاولات، وصناديق كرتون محشوّة عن آخرها بالإصدارات، وأخرى فارغة تنتظر أن تملأها الكتب، إيذانا بالرحيل. جلست إلى حسنى سليمان مؤسّس وصاحب دار شرقيّات للنشر والتوزيع، وأصوات أشرطة اللاصق يشدّها العمّال لإحكام غلق الصناديق تطغى على صوته الهادئ أثناء الحديث. الإنزواء، اعتدناه فى السنوات الأخيرة من رجل امتهن النشر بلا صخب زائف. وكانت داره منذ تأسيسها فى أوائل التسعينيات الحاضنة والواعدة بجيل الكتابة الجديدة.
اليوم، طُمّس شعار الدار عن لوحة صغيرة كانت تستقبلك على باب العمارة التى تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضى وتقع الدار فى الطابق الأوّل منها. يُقرّر حسنى سليمان إغلاق داره، كأنما يُقرّر الاستغناء عن غُرفة زائدة فى شقّته. الأمر شخصى تماما بالنسبة إليه. بواقعية شديدة، وبلا إنكار للأزمات التى عانتها الدار، يقول إنه ما زال متفاءلا، البلد تسير فى مسارها الصحيح ولا داعى للتذمّر إلى هذا الحد، هذه إمكانيّاتها وإمكانيّاتنا.
■ لماذا مع كل هذا تقول إنك مُتفائل؟
الصورة الكاملة ليست لديّ. أستقى انطباعاتى وفهمى من المؤشّرات حولى. أؤمن بالقوّة، لأن القوة تعنى السلام. وبلدى الآن قوية، والقيادة السياسية تعرف أنه لزم علينا أن نكون أقوياء. يبقى لمصر القضاء على الفساد. والفساد ليس وليد اللحظة. إنه تراكم السنين. ثقافيا: نحن لا نمتلك إلا «ورقة وقلم». نحتاج إلى نهضة ثقافية حقيقية، مثلما حدث فى عهد عبد الناصر. لأن الثقافة جزء من التقدّم. الأمور ترهّلت كثيرا اليوم. وقتها كنا نشعر بوجود الآلاف من قصور الثقافة، حصّة المكتبة كانت تمتدّ لأربع ساعات. الأنشطة والأشغال تقتطع الجزء الأكبر من وقت المدرسة. إنه طموح الستينيات. اليوم؛ المكتبات العامة قليلة جدا، ونادرة، مُقارنة بعدد القرّاء المفترضين. نحتاج أن يُعاد تنشيط هذه المنظومة من جديد. ويُعاد النظر فى قوانين صارمة ظالمة للصناعة. مثلا تشترط دار الكتب لمنح رقم الإيداع تسليم عشر نسخ فقط من الكتاب، وهذه لا يكفى توزيعها على المكتبات القومية وفى المحافظات، وكثيرا ما ينفد كتاب مهم، ولا يعود عند دار الكتب نسخا متوفرة منه إذا طلبه قارئ جاد. دعك من هذا، طوال سنوات عملى وإلى اليوم، لا أذكر أن أتانى فى الدار أمين مكتبة عامة وقال لى «انتوا بتعملوا إيه هنا بالضبط؟».
■ تُعوّل على المكتبات العامة فى أمور التوزيع وتنشيط النشر!
– هذا ما أفهمه. وعملت فيه من أربعين عاما. أمينا للمكتبة الوطنية بالسويد. هنا فى مصر، عِندنا أمين مكتبة بدرجة أمين مخزن! أمين المكتبة؛ مهمّة شخص مؤهّل بحيث يكون أحرص الناس على تزويد القرّاء بكل جديد، يُتابعهم ويُلبّى رغباتهم. أتيت بخبرة من بلاد، كانت قوانينها تقضى بأن يُفتتح فى أيّ مكان زاد عدد سكّانه على خمسة آلاف نسمة، فرعٌ لمكتبة عامة. كنا نجتمع كأمناء مكتبة كل 14 يومًا فى المكتبة المركزية. ونُحرّر دوريّة تُشرف عليها الهيئة القومية للخدمات المركزية. نحصل على نسخة من الكتاب قبل صدوره، ونَعهد به إلى متخصص مشهود له فى مجال الكتاب لتقييمه، فى تقرير مكتوب لا يزيد على 25 سطرا. إن كان التقييم إيجابيًا ننشر تنويها عن الكتاب فى المجلة. أمّا إن كان سلبيا فنرسله إلى متخصص آخر لتأكيد الرأى. أمين المكتبة يعنى يقرأ نبض المكان.
■ ثمّ جئت وأسّست «شرقيّات» مُحمّلا بكل هذه التصوّرات الوردية.
لا.. لا. «مكنش عندى وهم». كنت أعرف أنى مُقدم على أمر مُهمّ. لكن بالأخير أنا كنت «داخل أعمل حاجة بحبّها». لم ألتفت إلى آخرين لأنافسهم. كنت أعرف حجم طموحاتى وأسير باتجاهها مُحبّا وقارئا فى الأوّل والأخير.
■ ماذا حدث إذن، كيف ترى تغيّر الأوضاع، منذ بدأت شرقيّات حتى اليوم؟
– فى ذلك الزمان، كان شباب التسعينيات مُحمّلاً بهذه الشُحنة. تعرفين. والكتابة عبر النوعية التى مثّلها إدوار الخرّاط. كانت هناك شبه جماعات أدبية ظاهرة وملموسة. الوضع كان مُشجّعا تماما. قضينا وقتا جميلا. فى ورش القراءة، رغم ما يمكن أن يكون قد رآه البعض من تدخّل منّى كناشر، كانت أجمل اللحظات. أظنّ أن فترة التسعينيات، تلك الفترة الانتقالية، «عملت حاجة». اليوم التسعينيين، تجاوزوا ذلك كلّه، أو يبدو هذا. وربما المشكلة عندى. اليوم ومنذ مدّة يظهر حرث جديد فى أرض الأدب، ويبدو أننى كبرت فى السن، ولم أعد لائقا لاستقبال الأدب الجديد والكتابات الجديدة.
■ لكن التطوّر سمة الأشياء، وأغلب الظن أنه لم يكن يعوز حسنى سليمان الإيمان والثقافة الكافيان لمجاراة التطوّر!
– الإنسان ليس حُرّا فى بعض الأحيان، إلى هذا الحد. ربما كان هناك ما يُكبّلنى. فى بعض الأحيان، لا يمكننا أن نتغيّر بالسرعة المطلوبة. قامت شرقيّات على يد كتّابها. كنت خادما لكتابات هذا الجيل. ربما هم كبروا، كبرنا معا، فاختلف الوضع! ستسأليننى: طب والكتّاب الجُدد؟ سأقول إننى أشعر بواجب القراءة فقط تجاه إنتاجهم وما يكتبون. أنا فى البداية والنهاية، قارئ. كنت قارئا، وعملت فى النشر قارئا، وسأظل. لم تنته مهمّتى كقارئ بعد.
■ هل استسلمت للعوامل المادية وسوء التوزيع كأحد المُكبّلات؟
– لم أستسلم. ما زلت مُحبّا لما بدأته وما عملت فيه. صحيح عامل الاقتصاد مؤلم جدا. ولكن أنا واقعى تمامًا. المكتبات الخاصة كمنافذ للتوزيع عددها قليل، وسياساتها مختلفة. ولن تقبل أبدًا أو تغامر مكتبة خاصة بعرض كتاب تعرف أنه لن يُباع. كناشر، قبل التوجّه إلى مكتبة خاصة لتوزيع كتبى، أسأل نفسى، «احنا عايزين نبيع ولّا ننشر ثقافة؟!». نشر الثقافة المهمّة الأولى للمكتبة العامة. نشر الثقافة هى مهّمة الدولة.
■ بدت شرقيّات مؤهّلة ومهمومة بالنشر كهمّ قومى، وكانت فى هذا واحدة من أندر دور النشر الخاصة التى تُفكّر وتُصدر طبعات شعبية وأسعار رخيصة، بدأت هذا فى سلسلة «شرقيات للجميع» ثم توقّفت.
– كانت تجربة لا بأس بها. لكن يمكن القول إن أسبابا شخصية وراء الكفّ عن هذا المشروع. مثلا، لم يستسغ محيى الدين اللبّاد أن تُطبع أغلفته التى يُكلّفها تصميما ورسما، فى طبعات شعبية، مهما كان، لن تكون فى زهوة طبعات الدار التى كنّا حريصين عليها منذ البداية، كجزء من حق القارئ ومن قيمة الكتاب والكتابة التى ننشرها. الآن أفكّر، إشراك المؤلف فى نشر كتابه، ولو بمبلغ بسيط، إحدى حيل التغلّب على مشاكل النشر. وللأسف لجأت إلى هذا الأمر مرغما. هذا مبدأ خطأ أساسا، ومؤذى نفسيا.
■ يسكت وقبل أن أبدأ بسؤال جديد، يبادرنى:
سألتنى لماذا أنا متفائل. هذا هو الواقع. هذا هو كل ما لديك، وما تملكه. أحيانا لا يجب عليك أن تتذمّر إلى هذا الحد وتلعب دور الشهيد، «لأن ده اللى عندك». هذه إمكانيات بلدنا. لمّا أنظر إلى دولة مثل الصين، التى كسرت كل هذا الحصار، أقول إن مصر ليست أقلّ من الصين. لذا فأنا متفائل بالمستقبل. الاستسلام ليس أمرا مُحبّبا. وأنا لم أستسلم. يمكنك القول إن الأمر برمّته «نهاية عمر ومرحلة». أحببت مثلما بدأت أنا الحكاية، أن يكون أنا من يضع نقطة النهاية. هناك عالم جديد ظهر، الكمبيوتر، والميديا. وأنا «مش شاطر فى التوزيع» وفى مجاراة كل هذا. جزء من المسألة عيوبى أنا. «مش حاسس بفقدان قوي». من الجائز أن تكون هذه أنانية منّى. تجهيز مكتبة عامة فى قرية أهم من شرقيات وعشرات مثلها.
………………
*نقلاً عن مجلة روزاليوسف