كنا في شتاء عام 2009 وكان الحدث هو مؤتمر أدباء مصر المقام في الإسكندرية وأمينه العام حبيبنا البديع الشاعر فتحي عبد السميع الذي خاض بصحبة بعض المتحمسين في أمانة المؤتمر سجالاً رهيباً بكل إصرار وتصميم انتهى لصالح اختيار قصيدة النثر موضوعاً لمؤتمر ثقافي حكومي مصري لأول مرة وهكذا اجتمع الكثير من شعراء هذه القصيدة ومن مختلف الأجيال معاً في مكان واحد وكان مزاحنا أنه إن سقطت علينا قنبلة واحدة فقط فسيرتاح الجميع وتهدأ الأجواء وتقر عيْناً !! وجاءت إقامتي في غرفة واحدة مع صديقنا الشاعر البهاء حسين وكنت التقيته مرات محدودة وسريعة جداً قبل هذا العام لكني كنت مطلعاً على تجربته وأذكر أنني حصلت على ديوانه الأول “نفس البحر” من محافظة مطروح نفسها عن طريق صديق أوصل الكتاب لآخر وهكذا حتى وصلني الكتاب بعد فترة مرعبة لم أَكَلّْ فيها ولم أمَلّْ ..كنتُ في هذه الفترة متحمساً لدرجة الهَوَس ..المهم فاجئتني تماماً شخصية البهاء لدرجة أني أحببته في ثوان قليلة ..كان شاعراً في كل شيء ..حيث أعلن أمام الجميع منذ اللحظة الأولى أنه لا طاقة له على المؤتمرات وأنه ما جاء هذا المؤتمر إلا إكراماً لفتحي عبد السميع والأهم أنه كتب عن جدته قصيدة جديدة بحساسية جديدة ويريد أن يسمعها للأصدقاء ليشاركوه هذا الهَوْل!.. وهكذا انتحى بكل شاعر يثق فيه على حدة وألقى عليه القصيدة في كل مرة بإحساس صادق يصل به أن تدمع عيناه الضيقتان ..كنت أرقبه سعيداً بكل هذا الصدق الذي كان يتأكد مع نقاشاتنا قبل أن نخلد للنوم ، كان حديثه مرتباً لكن على دُفعات! فكان يقول رأيه في جزء من الموضوع وهو واقف والجزء التالي وهو بجوار النافذة وقبل أن يكمل يفتح الباب ثم يغلقه مع جزء آخر وهكذا إلى أن أسقط نائماً وأنا أقول لنفسي هذا رجل من فرط تركيزه في كل جزئية ينسى كل ما حول الموضوع كمكانه هو أو زمانه ،وهو نفس الإحساس الذي ترسخ منذ اليوم الأول الذي علَّق فيه بنطاله على الشماعة وخلع منه الحزام فسألته لماذا لم تترك الحزام مع بنطاله فتعجب من تعجبي حيث أن الحزام جديد ولابد من إكرامه! وضحكت لكني وجدته يلبسه كلما خرج ويعود يخلعه مربتاً عليه بحنوٍ عجيب! خمنت أن هذا الحزام من المؤكد قد أهدى إليه من زوجته التي هي حبيبته وشخص بهذا الصدق خليقٌ بأن يعيش الحالة الروحية في كل تفاصيلها ويحملها معه دوماً دوماً.. إلى أن استيقظت باكراً وهو يمسك بحزامه في يده ويخبرني أنه ذاهب لمقابلة أصدقائه السكندريين الشباب ليسمعهم القصيدة .. كدت أسأله لماذا لم يضع الحزام في البنطال وهو نازل لكنه كان بادي الانشغال فصمتّ ..غاب اليوم بأكمله وعاد مساءً بلا حزام ،لحظتُ الأمر لكني لم أسأل لكنه سألني أول ما صعدنا الغرفة عن الحزام فتعجبت وجعلت عيوني تتسع وتتسع ولم أنطق أما هو فأخذ يهز رأسه وهو يقول أنت أطيب إنسان أنا قابلته لكن كن شريراً وأخبرني عمن فعل هذه الجريمة وأنا والله لن أخبره وسأسامحه ولن أقتله! وقفت قدرتي على المقاومة عند هذا الحد فانطلقتُ في نوبة ضحك متخللة إخباره بفكرة أنه خرج وهو في يده والمنطقي أنه نسيه في التاكسي أو في المقهى حيث قابل الأصدقاء ..تفاجأ تماماً بهذا الاحتمال وبدا عليه التصديق لكنه إلى أن خلد إلى النوم كان ينظر لي بشك ويقول من يداري على المجرمين يصير منهم ! وأنا أضرب كفاً بكفٍ ثم أضحك …
في هذا المؤتمر أمضيت وقتاً جميلاً خاصة مع الأصدقاء محمود قرني، عاطف عبد العزيز، عماد غزالي إذ كنا معاً على الدوام وكانت جلستي في الشهادات مع عاطف والبهاء وكانت جلسة حامية لأن التحفز كان هو سمة الجمهور الذي كان جله من الأصدقاء شعراء القصيدة العمودية والتفعيلية الغاضبين من عنوان المؤتمر وموضوعه ومنا طبعاً حتى أن الشاعر الجنوبي الكبير قام وهاجمني بعنف أحسست معه بكراهية مرعبة لشخصي وهاجم قصيدة النثر والأيام السودة دي! فكان لرسوخ البهاء وعاطف أجمل الأثر في أن أرد بهدوء بدون إحساسي بأنني المضروبُ لا محالة ! على الغداء اقترب مني هذا الشاعر الكبير فجأة فكدت أقوم وأعدو ناظراً ليده خوفا من وجود سكيِّن مثلا لكنه أحاط بي بجسده الضخم وهو يضحك ويقول “وحياة رسول الله ما تزعل مني ..بصراحة حسيت إنك غلبان ففشيت غِلِّي من قرف قصيدة النثر فيك انت، سامحني وحياة رسول الله ” فضحكت وسامحته وحياة رسول الله..
أتذكر هذا الآن بعد أن أتيح لي أن أقرأ ديوان “ترنيمة لأسماء بنت عيسى “لمحمود قرني وديوان “شئ من هذا الغبار ” لعاطف عبد العزيز وديوان ” يمشي كأنه يتذكر” للبهاء حسين وهي دواوينهم الأخيرة وأهز رأسي معجباً بالنضج والخبرة الواضحيْن بجلاء في مشاريع شعراء هذا الجيل…وأستعيد ما كان بعد كل هذه السنوات حتى أنني ظللت أردد “والله العظيم يا بهاء لا أعلم من أخذ حزامك” كذلك دمعت عيناي وأنا أقرأ ديوانك يا صديقي من فرط الصدق العجيب في القصائد خاصة قصيدة “جدة”…