حريق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الأصيل.
تميل الشمس نحو المغيب، تتوارى، تفقد حرارتها تدريجيا، تخترق خيوطها الغابة الكثيفة، فترسم بداية غسق جميل ودافئ.

هام على وجهه لساعات، مشى على غير هدى وبدون هدف، أطلق العنان لخطواته وهواجسه، مشى بهدوء وإصرار، ثم بين الحين والآخر يتوقف، يسترجع أنفاسه، يستريح قليلا ثم يمضي.

توقف أخيرا عند نقطة عالية، تشرف على الوادي وتهيمن على الأفق.

بدا متعبا.
أسند ظهره إلى جدع شجرة عجوز، ومدد رجليه على البساط الذي شكلته أوراق الخريف اليابسة، تهب ريح من الجنوب، يستشعر عبق أشجار العرعر والصنوبر نديا وممزوجا برائحة التراب. 
أخرج علبة السجائر من الجيب الداخلي لسترته، فتحها، كانت السيجارة الأخيرة، ثم في حركة لاشعورية، أعاد العلبة الفارغة إلى جيبه، أشعل السيجارة، يعب منها نفسا عميقا، يمتص الدخان بمتعة ظاهرة، يحبسه للحظات، ثم يحرره، ينفثه، يرسله بعيدا، يطرده من أنفه وفمه على شكل أعمدة قوية ومستقيمة.

يشعر بخدر لذيذ يخترق تفاصيل جسده.
مال برأسه، أسنده إلى جدع الشجرة، أغمض عينيه، وانخرط في لحظة بياض قوية، لحظة طويلة وممتدة، حالة تشبه الغيبوبة.
عندما عاد إلى نفسه، كانت السيجارة قد احترقت، استشعر حرارتها تقترب من أنامله، امتص منها نفسا أخيرا، رفعها، أمسكها بين سبابته وإبهامه، سددها، وقذفها على بعد خطوات، وراح ينظر إلى الفراغ.
بقي هناك يفكر بصمت، يمضغ هواجسه، يتأمل خيط الدخان الرفيع وهو يخبو تدريجيا.

يخاطب نفس.

  • إنها تحتضر، إنها تموت، تلفظ أنفاسها الأخيرة… 

مرت لحظات…

كانت السيجارة قد انطفأت أو تكاد.
ثم يحدث أمر عجيب.

هبت نسمات خفيفة من جهة البحر، انتعشت جذوة السيجارة من جديد، عادت إليها الحياة، تنفخ فيها الريح روحا جديدة، يعود الخيط الرمادي الرفيع وكأنه ينبثق من العدم، ينبعث، يرتفع، يتعالى مرة أخرى.
لسبب ما يجهله تبددت كآبته تدريجيا، تفاعلت بداخله مشاعر متناقضة، خليط هو مزيج من الهدوء واللامبالاة، استعاد صفاءه الذهني وقدرته على التأمل.
بدا له العالم مشعا وشفافا.
استحضر الشحنة الرمزية للنار في حياة البشر كما تقدمها الكتب والأساطير.
نار الحب
نار الرغبة
نار الشهوة
نار الفتنة
نار الغيرة
نيران الغضب
نيران الحقد
نيران الحسد
جذوة برومتيوس
نيران المجوس
نيران الهندوس
نيران الجحيم…

ابتسم، ارتسمت ابتسامته ثم انمحت، وحلت محلها ظلال وخطوط لتعبير غريب، تعبير يستعصي على التصنيف، شيء يشبه الألم.
للحظة، بدا له التاريخ البشري عبارة عن نيران وحرائق، نيران وحرائق لا تخبو إلا لتستعر من جديد.
تساءل.

ـ من أين تستمد النار كل هذه السطوة على الروح والجسد؟

انتصب، رفع يديه إلى الأعلى، مط جسده في حركة يوغا هادئة، نظر في كل الاتجاهات.
من بعيد، وعلى الطريق السيار يلوح موكب من شاحنات حمراء، يسير الموكب شمالا في اتجاه الغابة، يقترب، يقترب أكثر.

تبين له أنه أسطول لشاحنات إطفاء، أبواق، ألوان، إشارات ضوئية…


أرخى الليل سدوله، غاب الأفق وبدت المدينة حفنة من الضوء تشع من بعيد.

توقف عند الجسر الحجري العالي.
تحت الجسر يجري الواد في اتجاه البحر، ينظر باستغراق إلى حركة الماء الجارفة، يستعيد علاقته المبهمة بالماء والبحر والأودية، علاقة هي خليط من المشاعر المتناقضة، فرح طفولي، إعجاب، تماهي، توجس، وخوف مرضي من الغرق.
يستحضر المرات الكثيرة التي استسلم فيها لفكرة الموت وسطوة الماء، مرة أو مرتين، ربما أكثر – لم يعد يذكر – كانت حوادث غرق حقيقية، المرات الأخرى يحضر فيها الموت في شكل صور، استيهامات، هواجس وأحلام يقظة غامضة ومستغلقة.
توقف شريط الذكريات، أوقفه، عاد إلى نفسه، نظر بالتناوب في كل الاتجاهات.

يمينا، تبدو المدينة هادئة ومستسلمة.

إلى اليسار وعلى مشارف الغابة، تتعالى ألسنة اللهب تلتهم الأخضر واليابس.

توقف هناك للحظات، ينظر، يتأمل مهرجانا من الألوان وهو يرتسم في الأفق، أبيض، أحمر، أصفر، أزرق…

للحظة بدا مترددا، بدا وكأنه يفكر أو يحدد وجهته، شد إليه ياقة سترته ومضى.
في الخلفية بعيدا، يسمع صوت البحر.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال