حجازى.. ملامح إنسانية

حجازى.. ملامح إنسانية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 محمد بغدادى

لا شك أن تقديم شهادة عن الفنان الكبير أحمد إبراهيم حجازي أمر بالغ الصعوبة.. إن لم يكن مستحيلا .. فمهما ادعي أي واحد منا ــ نحن الذين اقتربنا من حجازى وعالمه الساحر ــ أنه قد عرف حجازى حق المعرفة فهو واهم .. فحجازي عالم مغلق ومجهول ومتسع .. وقد يحسبه البعض أنه غامض .. فيما هو شديد العمق .. وقد يحسبه البعض أنه سهل ومتباسط .. فيما هو شاهق الارتفاع .. شامخ النفس شديد الاعتزاز بذاته .. مخلص بلا مواربة في انحيازه للفقراء والبسطاء ..يمتلك قناعة وخلق بريء عن الهوى .. وكأنه نبى أو ملاك .. لم يضبط ذات يوم يتحدث بسوء عن أحد .. ورغم زخم هذه الشخصية المتفردة فكل منا عرف حجازي من زاويته الخاصة .. والتي سمح له بها حجازي .. وحجازي نفسه عرف كل واحد منا بطريقته الخاصة . 

 

والآن ونحن نقف على مسافة ليست بالقريبة من ساحة الحزن ومأساة الرحيل .. قد يكون من غير المجدى الآن الحديث عن حجازى الفنان .. فرسومه التى ملأت الصحف خلال تلك الأيام التي أعقبت رحيله وكأن الصحافة المصرية استيقظت فجأة وأعادت اكتشاف هذا الفنان العظيم ..وكأننا تذكرنا جميعا الآن قيمته الفنية .. فكل ذلك كان في حد ذاته تأكيدا على تفرده باعتباره أحد أهم الرواد المؤسسين لفن الكاريكاتير المصرى الحديث .. والكتاب الذى أصدرته عام 1995 وضم مجموعة كبيرة من رسوماته .. تصدرتها مقدمة ودراسة موسعة عن أعماله.. كان كفيلا بوضع الفنان حجازى في مكانته الرفيعة .. ورغم أهمية الحديث عن رسومه الرائعة .. وكائناته المدهشة .. إلا أن الحديث عن حجازى الإنسان قليل جدا .. ومن اقتربوا من حجازى بالقدر الكافى لرؤيته بلا رتوش لا يعلمون تماما أسرار عالم حجازى الغامض والبسيط فى ذات الوقت .. ولكن من سمح لهم حجازى من اقتحامه والدخول إلي عالمه والاقترا ب منه بهذا القدر الكافى لمعرفته عن كسب قليلون جدا .. وربما يعدوا على أصابع اليدين بدون مبالغة .. لأن حجازى فنان مرهف .. وإنسان ذو طبيعة خاصة جدا نادرا ما يحرك شفتيه ليتكلم إلى أحد .. لا يهاتف أحد .. ولا يرد على أحد إلا نادرا .. له عالمه الخاص الذى نجح فى تحديد ملامحه فى بساطة متناهية .. ورسم حدوده بدقة صارمة.. ويبدو أن صمت حجازى النبيل أخذه عن والده .. فوالده كان صامتا دائما .. ونادرا ما يتحدث حجازى عن نفسه أو عن والده .. فإذا تحدث فببساطة مفرطة .. واعتزاز كبير .

ويحكى حجازى عن صمت والده الذى كان سائقا للقطارات فيقول :

” .. أبى صامت مثلى .. ولكنه كان يكلمنى أحيانا عن الأوضاع فى عمله .. وكان يكتب شكاوى كثيرة لمظالم يتعرض لها فى العمل  .. وأحيانا يقرأ لى بعضا من شكواه عن تأخر قطاره دقيقتين مثلا لأنهم فى الورشة لم يسمعوا نصيحته بضرورة إصلاح ( الباكم ) .. كانت مشاغبات صغيرة .. ولكنه كان يكتبها باهتمام كبير واعتزاز بمعرفته بالكتابة بخط جميل .. يحلق ذقنه ثم يكتب الشكوى شاعرا أنها أهم شيء فى حياته .. وفى فترة الصيف يصطحبنى أبى معه فى القطار ( أبو فحم ) وأبيت معه فى استراحات السكة الحديد .. رأيت مصر كلها عبر نافذة القطار .. أجسام السائقين المكدسة على الأسرة .. الأكل على رزمة الجرايد .. طعمية وجرجير غير مغسول جيدا ” .

كان لحجازى طقوسه الخاصة فى الحياة .. فهو محدد للغاية يعرف ما يريده من الدنيا .. فلم يطمع يوما أن يأخذ أكثر مما كان يريده بالتحديد .. فى تمام السادسة صباحا يكون على مكتبه فى مجلة ” صباح الخير ” .. يخرج أقلامه .. وأوراقه البيضاء .. يشرب القهوة .. يدخن بشراهة بلا توقف .. قبل أن تأتى الثامنة يكون قد انتهى من كل أعماله .. يغادر مبنى ” روز اليوسف ” قبل أن يمتلئ بالموظفين .. والكتاب والمحررين .. ينطلق فى شوارع القاهرة .. عينه الراصدة كزرقاء اليمامة تلتقط ما لا نراه نحن البشر العاديون فهو يرى أكثر مما نرى .. وأبعد مما تصل إليه العيون .. ينتقى ويختزن ويملأ ذاكرته  بآلاف الصور والمواقف والشخصيات .. يجلس على مقاهى مصرية بعينها .. يرتادها بسطاء ولكنهم حقيقيون .. مرة فى مقهى ” إيزافيتش ” .. ومرة فى ” قهوة البرابرة ” .. ومرة فى ” الكاب دور ” .. بعض هذه الأماكن أزيلت .. وبعضها تغير نشاطه وتحول إلى شركات سياحية …. وبعضها ظل كما فيما تغير رواده وزبائنه.. ففقدت تلك الأماكن هويتها وملامحها المصرية الحميمة .. وفي نهاية الثمانينيات قرر أن يستيقظ فى السادسة صباحا ويجلس إلى مكتبه فى منزله بالمنيل .. يرسم ويأتى ” عبد العزيز خطاب ” يأخذ الرسومات ويحضرها إلينا فى مجلة ” صباح الخير ” .. وبدأ فى عزلة اختيارية .. لا يستقبل أحدا طوال الأسبوع .. وصباح الأحد يفتتح ” اليوم المفتوح ” في منزله .. نجلس عند حجازى كل يوم أحد .. فتجد مائدته عامرة بكل أنواع اللحوم والطيور والأسماك وفواكه البحر .. فهو كريم بلا حدود .. وبسيط بلا اصطناع .. يفعل ما يحب أن يفعله .. لا يستطيع أحد أن يجبره على شيء .

جاء ذات يوم إلى مكتبه فى مجلة ” صباح الخير ” .. وكان رئيس مجلس الإدارة ” عبد العزيز خميس ” .. وكنت أجلس مع حجازى وهو يواصل رسم لوحاته .. وطلبنى رئيس مجلس الإدارة وسألني عن حجازى .. فقلت له موجود .. فقال سأحضر فورا لأراه .. فلم يكن قد رآه من قبل .. وقالوا له أن يأتى فى السادسة صباحا ويغادر فى الثامنة .. وسألنى حجازى : ” من الذى كان يتحدث معك “.. فأخبرته .. فما كان من حجازى إلا أنه لملم أوراقه وأقلامه بسرعة .. وأخذها معه.. وقال لى أرسل لى ” عبد العزيز ” خلال ساعة سأكون قد انتهيت من الرسومات.. قلت له : والأستاذ خميس ماذا أفعل معه ؟؟ .. ضحك قائلا : ” اجلس معه أنت.. واطلب له قهوة على حسابى .. أنا فى حياتى لم أرى رئيس مجلس إدارة .. ولست على استعداد أن أجالسه .. سلام “..

ومضى  حجازى .. وجاء عبد العزيز خميس بعد دقيقة واحدة فلم يجده .. تعجب وراح يسألنى عن أسباب عدم انتظاره له .. فقلت له إنه حجازى !! .. ولا أحد يستطيع أن يجبره على شيء .. ولا تعليق لدى .

ذات يوم زرته ومعى الناقد د. عبد الرحمن بسيسو سفير فلسطين فى بلاد التشيك الآن .. وكان ذلك فى نهاية الثمانينات حين كان بسيسو بصدد إصدار مجلة للأطفال تسمى ” فرح ” .. وكان معنا رجل الأعمال رفيق عبد الناصر شقيق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الأصغر .. وعرضنا عليه العمل فى المجلة .. وقال له بسيسو كلاما طيبا .. ووعده بأن كل طلباته مجابة .. وتحدثنا جميعا .. وأطلنا فى الحديث والإغراءات .. وظل حجازى صامتا يضايفنا بأدب جم .. ويضع المأكولات والمشروبات بانتظام .. وفى نهاية اللقاء تحدث حجازى بعد صمت طويل فقال : ” بصراحة أنا عندى شغل باعمله لمجلة ماجد .. وبعد ما بشتغل باخد الفلوس اللى اشتغلت بيها لكى أستمتع بصرفها .. وكل الوقت المخصص للشغل يستنفذ فى رسوماتى لمجلة ماجد .. ولا يصح أننى بعد أن أشتغل .. أشتغل مرة أخرى .. الإنسان بعد ما يشتغل ياخد الفلوس اللى اشتغل بيها ليدخل بها سينما ويشاهد مسرح .. وياكل ويشرب وينبسط !! “

هذا هو حجازى الذى يفعل ما يريد .. ويعمل ما يحب “

ظلت علاقتي بحجازي ممتدة من خلال موقعي في مجلة صباح الخير ثم روزاليوسف .. كمدير فني للمجلتين .. أستقبل رسومه وأنسق صفحاتها أو أحتفي بها على أغلفة المجلتين .. إلي أن جاءت فكرة عمل كتاب أضم فيه أعمال حجازى وأوثقها عبر سببين رئيسين .. الأولى عشقى الشديد لحجازى ورسومه من قبل أن ألتقى به .. وأقترب منه بالدرجة التى توقعك فى حبائله وتصبح من ضحاياه ودراويشه .. والسبب الثانى ظهر عندما توليت مسئولية المدير الفنى لمجلة ” صباح الخير ” عام 1980 .. ومنذ ذلك اليوم وجدت أن هناك معركة تدور فى صمت بين عدة أفراد من أجل الحصول على أصول رسومات حجازى والاحتفاظ بها واقتناءها.. لجماله الآثر .. وروعة ريشته .. خاصة وأن لوحاته الأصلية كانت شديدة الدقة .. فهو بارع فى تصميم لوحاته وخاصة ما أطلقت عليها فى كتابه ” منمنمات حجازى المصرية ” وكان فرسان هذه المعركة .. شيخ رسامى الكاريكاتير زهدى العدوى الذى كان يأتى كل صباح إلى قسم تجهيزات الأوفست الدور الرابع ويجمع أصول كل الرسامين ويقتنيها ويأرشفها بعناية .. وبين المهندس عزيز المصرى رئيس قسم التجهيزات الذى كان يعشق حجازى إلى حد الهوس .. وكان من أصدقائه .. إما الفارس الثالث فهو رفيق عمره الشاعر فؤاد قاعود الذى كان يعتبر أنه هو الأحق بلوحات حجازى خاصة التى كانت ترسم خصيصا مصاحبة لأشعاره ..  أما صاحب هذه الرسومات فهو حجازى نفسه فلم يحتفظ فى حياته بأى لوحة رسمها وكان يقول لى :

– أعوذ بالله .. وهل أعلق رسومى أمامى على الحائط لأراها كل يوم ..!!

وعندما تأملت هذا المشهد المركب اكتشفت أن حجازى هو رسام الكاريكاتير الوحيد الذى ستندثر رسومه ولن يصبح لدينا اىة مرجعيات لتوثيق أعماله الهامة التى كنت أرى أنها تسجل ( التاريخ السرى للإنسان المصرى البسيط ) وأنها سجل اجتماعى وسياسى واقتصادى  لحقبة امتدت لأكثر من أربعين عاما من العطاء بدأت عام 1955 .. وحتى يوم صدور الكتاب عام 1995 .. وعندما راودتنى الفكرة كان ذلك فى بداية عام 1990 .. ورحت أجمع لوحاته على مدى خمسة سنوات إلى أن اكتملت لدى مجموعة تمثل مجمل عطائه عبر أربعين عاما .. وكان البحث عن هذه الأصول وتبويبها أمرا يكاد يكون مستحيلا .. ناهيك عن المشقة والتعب اللذيذ .. وفى النهاية كان لا بد من عمل دراسة فى بداية الكتاب .. وإطلالة على مسيرة حياته فطلبت منه مرارا أن أجلس معه وأسجل قصة حياته ليرويها هو .. لكى تكون وثيقة للاجيال القادمة .. ولكنه كان يتهرب .. فأرسلت له رسالة عاتبة في شكل رباعية .. فأرسل لي هذه الرسالة مداعبا :

” الصديق العزيز محمد بغدادى

تحياتى وتمنياتى بالصحة والتوفيق وشكرا على رسالتك الشعرية الرقيقة .. وشكرا على الكتب التى أرسلتها لى .. وقريبا سوف أتصل بك لتحديد موعد أراك فيه لأنك واحشنى جدا .. وأنا طبعا مش قافل الباب فى وجه الأحباب أبدا ..  وبالمناسبة :

أنا مش بعيد ولا بتبغدد .. كله إلا دى ..

مين دة اللى يقدر يتبغدد على بغدادى ..

وشكرا لك وإلى اللقاء . “

حجازى

وعندما طلبت منه أن أحضر جهاز التسجيل .. ونبدأ فى عمل الحوار أرسل يقول لى :

” يا بغدادى .. أشكرك على رقتك واهتمامك .. وطبعا يسعدنى أن أراك فى أى وقت لكن بلاش جهاز التسجيل لأنى بصراحة مش شايف إنى رسام مهم ولا أى حاجة .. الحكاية كلها إنى جيت من طنطا للقاهرة أشوف شغلانة آكل منها عيش وسجاير .. وطلعت الشغلانة فى الصحافة .. لأنى كنت فى ثانوى بعرف أرسم شوية .. بس كدة

تحياتى وحبى لك وإلى اللقاء .. “

حجازى

إلى هذا الحد من التواضع ..كان حجازى عازفا عن التكريم وقد روى لى حكاية عن عدم احتفاظه بأصول لوحاته فقال : ” كنت ايام الزواج وكانت زوجتى ــ وهى السيدة سلوى المغربى ــ .. قد بدأت فى جمع أصول رسوماتى وعمل أرشيف لها وملفات .. وكنت لا أرغب فى ذلك .. فلما انفصلنا .. أخذت هذه الملفات وألقيتها فى القمامة على باب شقتى فى المنيل .. فجاء جامع القمامة ووجدها مرتبة ومنتظمة فشك فى الأمر .. فدق جرس الباب وقال لى : ” لقد وجدت هذه الرسوم على الباب .. ربما تركها أحد لك ” .. فقلت له ضعها على المكتب فوضعها .. وبدأت كل يوم أمزق كل ملف إلى قطع صغيرة وألقيها فى القمامة حتى لا يردها لى الرجل مرة أخرى !! ” .

حجازى.. ملامح إنسانية

هكذا كان حجازى ذلك الفنان العظيم يتعامل مع رسومه بهذا القدر الذى لا يمكن فهمه .. إلا إذا عرفنا لماذا كان حجازى يرسم .. إذ كان شغله الشاغل هو تغير الواقع برسومه.. فقد قال لى عن علاقته برسومه : ” إن علاقتى باللوحة تنتهى تماما بمجرد أن أنتهى منها .. وبعد أن تنشر لا أتأملها .. ولا أنظر إليها مطلقا .. وأشعر أحيانا أننى فى غاية الخجل عندما أطالع رسومى وهى مطبوعة فى المجلات .. لذلك لا أتوقف أمامها وأعبر صفحاتها دون أن أراها ” .

ظلت علاقة حجازى برسومه على هذه الوتيرة وأذكر أننى بعد أن انتهيت تماما من إخراج الكتاب وتبويبه وكتابة المقدمة أخذت كل الرسم و ( الماكيت ) والغلاف وذهبت إلى حجازى بالمنزل .. وكان يجلس معه الزملاء .. الكاتب الصحفى عادل حمودة والفنان عبد العال .. والفنان طه حسين .. ودخلت ووضعت كل عناصر الكتاب على الطاولة .. فقلت له لا بد أن تلقى ولو نظرة أخيرة على محتويات الكتاب .. فنظر إلى بدهشة وقال لى : ” أى كتاب تقصد ؟! ”  قلت له : ” كتابك .. رسومك !! ” فقال لى : ” لملم أوراقك أتا لا أريد كتب .. وهذا كتابك أنت .. إذا كنت مصمما على عمله فهذا شأن خاص بك !! ”

فقلت له : ” طيب أرجو أن نتفق على اسم الكتاب ”

فقال : ” وهذه أيضا أمور ليس لى دخل بها .. وعرضت الأمر على الصديق عادل حمودة .. وكنت قد قررت أن يكون عنوان الكتاب ” كاريكاتير حجازى ” .. فتأمل حمودة العنوان قليلا واقترح إضافة صفة للفنان حجازى .. وقال لى : ” فليكن كاريكاتير حجازى .. فنان الحارة المصرية ” و بالفعل كان اقتراحا رائعا وقبل ان أغادر منزل حجازى طلب منى بعض الرسومات وجزء من المقدمة ينشرها على أربع صفحات كاملة فى مجلة روز اليوسف اول مجلة تحتفى بكتاب حجازى على هذا النحو الرائع و توالت الصحف فى مصر و خارج مصر تواصل الاحتفاء بهذا الكتاب .. ليس لاننى بذلت فيه جهد كبير و لكن لاننى نجحت فى إقناع حجازى فى ان يكون له كتاب يضم إعماله وللأسف الشديد ان المجلة الوحيدة التى لم ننشر سطر واحدا عن كتاب حجازى هى مجلة (صباح الخير ) التى كان حجازى وانأ نعمل بها وكان رئيس التحرير وقتها ( رؤوف توفيق ) الذى قال لى عندما قدمت له نسخة هدية من الكتاب فلم ينظر الى الإهداء .. إنما نظر إلى قائلا : ” إن كنت عايز تكتب خبر عن الكتاب اكتبه انت وهاته علشان انشره بس يكون خبر صغير ” فقلت له : ” اعتقدت انك صديق حجازى فجئت لك بنسخة هدية ولا اريد ان انشر هنا اى شئ عن الكتاب فقد نشرت عنه كل الصحف و المجلات المصرية والعربية عشرات المقالات .. وتم الاحتفاء بحجازى بطريقة تليق بهامته العظيمة “.

وكل هذا لا يهم الآن .. ولكن الأهم هو التحول الذى حدث فى حياة حجازى .. فقد فوجئت به يدعونى لسهرة خاصة ليحتفل بصدور الكتاب بعد أن تلقى مكالمات تليفونية من عدد كبير من كبار الرسامين والفنانين والمفكرين المصريين والعرب يهنئونه على الكتاب .. فذهبت إليه وسهرنا نتجاذب أطراف الحديث وأردت أن اسأله عن رأيه فقال لى : ” لقد كنت مثل الكلمات المتقاطعة .. حروف مبعثرة لا معنى لها .. الآن أصبحت جملة مفيدة ” .. وضحكنا .. وتداعت الأحاديث حول الفساد والظلم .. والنهب المنظم الذى تعيشه البلاد .. فإنتابتنى حالة من الاكتئاب .. فنظر إلى ساخرا .. وقال : ” لأ .. أنت هاتكتئب من أول الليلة .. إحنا جايين هنا عشان نحتفل .. فقلت له : إننى خائف على مصير مصر .. وماذا بعد ؟ ” ..  فقال ضاحكا : ” لا .. لا تخاف على أى شيء فى مصر .. مصر طول عمرها يحدث لها ما هو أفظع من ذلك .. وتظل مصر باقية .. ويزول الظلم بحكامه .. ولو رجعت إلى كتاب ( النجوم الزاهرة فى سماء مصر والقاهرة ) ستجد أن كل ما يحدث لنا الآن سيأتى فى سطر واحد يقول ” ( وقد حكم مصر حاكم ظالم اسمه حسنى مبارك.. من سنة 1982 حتى عام ….  كذا .. ) .. وستبقى مصر هى مصر رغم كل شيء ”

.. ولكن للأسف توقف حجازى بعد ذلك بقليل عن تقديم رسوم كاريكاتورية للكبار .. وقال لى : ” أنه لم يعد لديه أمل فى الكبار وأمله كله فى هذه الأجيال الجديدة .. فربما تصنع شيئا مفيدا .. وبالفعل عاش حجازى حتى رأى الجيل الذى رسم له فى مجلة سمير وماجد وهو يغير وجه الواقع ..

وقد سألت حجازى سؤالا محدد .. : ” لماذا نتوقف أحيانا عن الرسم .. ” .. فروى لي حكايتين بعد كل منها توقف لفترة طويلة :

الأولى : كنت قادما من منزلى فى المنيل قاصدا مكتبى فى صباح الخير .. وكانت هناك جمعية تعاونية فى شارع أمين سامى .. وكان ذلك فى منتصف السبعينيات .. وكان حسن فؤاد رئيسا للتحرير .. ووجدت طوابير الناس الفقراء يقفون منذ ساعات قبل أن تفتح الجمعية أبوابها من اجل الحصول على دجاجة مجمدة .. وليس للمواطن الحق فى أخذ أكثر من دجاجة .. وعندما مررت على شارع ( أفراح الأنجال ) وهو المتاخم لمؤسسة روز اليوسف .. حيث يوجد الباب الخلفى للجمعية .. اكتشفت أن هناك عربات مديرى المصالح الحكومية تقف والسائقين يضعون فراخ الجمعية بالكرتونة .. وعرفت أن هذه الفراخ المدعومة يذل عليها المواطن ..وياخذها الكبار بهذه السهولة .. فتوجهت إلى مكتبى ورسمت مجموعة من الكاريكاتير اللاذع جدا أدين به هذا الفساد .. وكانت نكات ساخنة جدا .. وعندما عرضتها على حسن فؤاد وهو الاشتراكى واليسارى المنحاز مثلى إلى الفقراء .. وهو الذى سجن فى معتقل الواحات من أجل هؤلاء الفقراء .. فما كان منه إلا أنه أخذ يضحك ويقهقه بشدة حتى دمعت عينيه .. وقال لى : ” هايل يا حجازى .. برافو .. رائع ثم طلب محمد سليم المشرف الفنى آنذاك .. فقال له : ” أنا عايزك تفرد رسومات حجازى على أربع صفحات .. وخد منهم واحدة على الغلاف ” ونظر إلىّ وقال لى : ” تشرب إيه يا أبو الحُجز !! ” .. بالطبع بعدها توقفت أكثر من ثلاث سنوات عن الرسم .. ليس لأن حسن فؤاد تعامل مع الرسومات بهذه الطريقة بالعكس .. ما فعله حسن فؤاد .. أفضل احتفاء يمكن أن يحظى به فنان .. ولكن ما جعلنى أتوقف هو أن حسبة الكاريكاتير اختلفت .. وأصبحت رسومى مادة للفكاهة تزين بها صفحات المجلة .. وأنها عاجزة حتى عن أن تغير الواقع .. أو حتى تغير مفهوم رئيس التحرير الذى توقعت أن يرسل فريق عمل من قسم التحقيقات لعمل ملف عن الفساد فى المجمعات الاستهلاكية .. فأدركت عدم جدوى رسومى .. فتوقفت “

فسألته : ” والمرة الثانية ” .

فقال : ” المرة التانية عندما كنت أعمل فى جريدة الأهالى وكان سقف الحرية قد ارتفع كثيرا عن الرسم فى مجلة صباح الخير وروز اليوسف .. ولكن بعد قليل اكتشفت أننى أكثر براءة منهم فى جريدة الأهالى .. فاعتذرت عن مواصلة العمل ” .. فسألته : ” كيف هم أقل براءة منك ؟ ” قال لى سا خرا : ” وأنت أيضا أكثر براءة منهم .. وإلا ستكون أكثر سذاجة .. وأنا أعرف جيدا أنك لست ساذجا إلى هذا الحد”.

الحديث عن حجازى ذو شجون وهو لا ينتهى ولكن كنا جميعا نضحك على رسومه ونستمتع بها .. ونحتفى بنشرها فى كل مكان .. ولكننا جميعا لم ننتبه إلى أنه كم كان يتألم مرة من الواقع ومرة من المرض ومرات عديدة من الإحباط الشديد الذى عاشه جيله وجيلنا أيضا .. نحن أبناء ثورة يوليو التى كنا نشعر دائما بأنه لدينا مهمة وطنية وأننا مهمون .. وسنكون ” الحدث القادم  ” الذى سيغير الواقع .. ويرفع الظلم على حد تعبير حجازى نفسه .. ولكننا ظلمنا جميعا ولم يتغير أى شيء .. أما ( الحدث القادم ) فلم يكن لنا بل كان للصوص والفاسدين والداعرين والقوادين فى السياسة والحياة على حد سواء ..

   وإلى أن نلتقى يا صديقى العزيز .. فليكن العالم فى مثل جمالك .. وعطائك العظيم .

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم