“حجاب الساحر” والفكر الإنساني من الأسطورة إلى المنطق

حجاب الساحر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.سلوى جودة*

طالعنا الشاعر الكبير أحمد الشهاوي والدار المصرية اللبنانية في الثلث الأخير من سنة 2022 بصدور رواية “حجاب الساحر” التجربة السردية الأولى للشهاوي بعد أكثر من ثلاثة عقود من الإصدارات الشعرية والنثرية التي حازت على جوائز إقليمية ودولية وبعد ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات منها الإسبانية والإيطالية والتركية والإنجليزية ، وفي “حجاب الساحر” فتح الراوي في أحمد الشهاوي خزائنه ، وكشف أسراره المختبئة بعيدا في ماء قلبه ، وأخذنا في رحلة غرائبية فيها الشعر والحب والصوفية والرحلة والتجربة ،

وأدخلنا عالم السحر والطلاسم والرموز فالرواية عامرة بالتيمات والخبرات المعرفية والتجربة الشخصية والعامة وبحياته في كفر المياسرة -التي أصبحت تذكِّرني بأثينا والأكاديمية academy التي تخرَّج فيها أرسطو وأفلاطون -وبالأماكن ودلالتها وذاكرتها أيضا وعند الحديث عن المكان وأثره يحضرني إي إم فورست في روايته ” مكان تخاف أن تطأه الملائكة” عندما قال على لسان أحد أبطال الرواية إن “البشر أهم من المكان” ولكن المكان عند الشهاوي كيان واحد آسر يضم البشر والشجر وكل الموجودات الحية وغير الحية ، السائرة على أربع أو اثنتين أو حتى الزاحفة التي شكلت ذاكرته المكانية والمخزون الجمالي والنفسي والمعرفي له.

وتحكي “حجاب الساحر ” عن شمس حمدي المرأة الخمسينية العاشقة الجميلة المثقفة الذكية التي عانت في ظل مجتمع برجوازي لم يقدِّرها كما ينبغي مع أصحاب الطاقات الاستثنائية بل عانت من شرورعائلتها ومن أحد أفرادها الذي أسقطها في براثن السحر الأسود والمرض والتعاسة فهي تعيش بين أسرتها على أنها “سخمت ” الربة في الميثولوجيا المصرية القديمة ، و”سخمت ” تعني القوية وتظهر كسيدة برأس لبؤة وجسد امرأة جالسة على العرش تمسك بيدها مفتاح الحياة ففي الليل “تنامُ شمس مع صديقاتها من الربَّات ، حيثُ يجتمعن ويتحلَّقن حولها ، ويمنحنها الكثير من النصائح لا تُفوِّت ليلةً دُونما أن تهديَها ربَّةٌ إحدى جواهرها ، خُصُوصًا الخواتم المُحلَّاة بفصُوصٍ من الجواهر الكريمة أو النقُوش المحفُورة ، التي تعطيها القُدرةَ على قيادة الشَّياطين أو الجِن ، والحديث مع الحيوانات والطيور ، والهداهد منها على وجه التحديد ، والقُـدرة على فتح الأبواب ، والدخُول إلى المغاور وكشف الكُنوز ، و الـدخُول إلى الفِردَوس ، فلا يعُود يمتنعُ على شمس حمدي شيءٌ في البرِّ أو في البحر” ويظهر عمر الحديدي العاشق الذي يراها بكل النساء فهي ليست واحدة بل كثيرات:

” فأنوثتها كافيةٌ لأن تحذفَ قُبحَ العالم ، كافية لأن تتوزَّعَ على النساءِ جميعًا ، كافية لإقناعي بألَّا أنظرَ إلى امرأةٍ سواها “

وتمر رحلته معها للشفاء من السحر بسلسلة من المكابدات مع السَّحرة والبقاء لليلة داخل الهرم الأكبر ، والسفر إلى جزيرة سقطرة ، ومقابلة ملك الجن والدوائر والمُثَّلثات والخطوط والأحجبة ، وفي ظل ذلك الألم والوجد والخوف لم يتخل الشهاوي عن شاعريته فهو يعزف شجنه على نايات السرد وهوالساحر العاشق المأخوذ بكليته إلى معشوقته:

“اعلمي أنَّ الأرضَ لم تعُدْ تبتهجُ لي

كأنَّ قلبِي نائمٌ في يديكِ

مياهُكِ جاريةٌ ، تتدفَّقُ بين جنبيَّ ، وهي ذخيرةٌ حياتي.

سيقفُ العالمُ طويلًا أمام عينيكِ اللتين علَّمتَانِي السَّعْيَ إلى تغيير الأبجدية” . وسيقف فن السرد طويلا بالتحليل والتفنيد والتدقيق أمام شخصية شمس حمدي والربة سخمت التي تلبَّستها فهي وعاشقها في مواجهة قوى غير مرئية لايمكن إخضاعها للفحص والتجريب ، كأن الشهاوي بهذا التناول لرحلة شمس حمدي وعمر الحديدي قد رصد بقصد أو بغير قصد حركة التاريخ الإنساني وتاريخ الأفكار في الانتقال من سلطة الأسطورة mythos إلى سلطة العقل/المنطق logos

وتحول العلاقة بين الإنسان والطبيعة من علاقة أفقية خاضعة مستسلمة لتقلبات المواسم إلى علاقة رأسية متحدية تجريبية ومستقبلية تؤمن بالعلم وبالتجربة والخطأ وكانت حاجة الإنسان في العصور القديمة إلى الأسطورة ملحة كمرجع أساسي يهدف إلى شرح الأسئلة الأساسية حول الكون وأصل المادة والحياة ولفهم الظواهر الطبيعية ولاستكشاف طبيعة القوى التي تحكمة والتي تتحكم فيه وفي أسباب بقائه على الأرض سالما ؛ ولأن الإنسان لايستطيع الحياة بدون تفسير وفهم واستبصار وإجابة عن  أسئلته الوجودية ظهرت الأساطير وعاشت معه وفيه وحوله ومدَّت المجتمع بسياق يجعل حياته اليومية منطقية ليس ذلك فحسب بل وتجذَّرت فيما نسميه العقل “اللاواعي” للبشرية كما أشار إليه فلاسفة الصورة الأوليه من أمثال يونج ونرثروب فراي والأساطير هي قصص خيالية غير حقيقية تكررها الأجيال ، وتضيف إليها ، وغالبا ما تحتوي على درس يتبنَّاه إنسان زمانها و تتحدث عن مخلوقات بقدراث استثنائية لديها القدرة على الطيران والظهور والاختفاء والإتيان بسلوك خارق بعيداعن القدرات البشرية العادية ولقد استغلها الحكام لتثبيت دعائم ممالكهم وفي إخضاع شعوبهم والترويج لضرورة الحفاظ على الوضع الراهن في مقابل رؤى مستقبلية ثورية متغيرة فكانت الآلهة البدائية مثل إيثر إيثر في الميثولوجيا الإغريقية ونيكس وهي روح الكون وأصل كل ماهو حي وهي الهواء الذي تتنفسه الآلهة وكاوس هي الربة الأولية لهذا الكون وهي الربة التي تجسد المكان غير المحدد والمادة التي لا شكل لها ، والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف، و كاوس بالإغريقية القديمة معناها الفراغ والظلام أو ما يسمى أيضا السديم الكوني الأولي وسجلت الإبستومولوجيا آلهة مثل كرونوس وهو أب زيوس وإيريبوس ويمثل العالم السفلي وايروس في الميثولوجية اليونانية هو إله الرغبة والحب وأورانوس وهو يمثل قبة السماء وهو أحد الآلهة الاغريقية وأول زوج لجايا ربة الأرض وعرفت الميثولوجيا القديمة أفروديت وهيرا وأنتيجون وألكترا وممفيس ونيوب وميدوسا وفينوس وهيلين وإيزيس وسخمت في الميثولوجية المصرية القديمة والآن شمس حمدي.

ومع ظهور الإنسانويّة في عصر النهضة في القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر تركزت اهتمامات الفلاسفة بشكل متزايد على الاستجابة للمآزق الدنيويّة، وبدأت الفلسفةُ في إظهار الإتّكال المتزايد على العقل بدلا من الأسطورة وأتت التغيرات في المواقف تجاه المعرفة جزئيّا مع توافر النصوص اليونانيّة والعربيّة المترجمة ووقعت أزمة العلاقة بين العقل والأسطورة لكوبرنيكوس وجاليليو وكبلر وتوالت حركات المطالبة بإرساء سلطة العقل والمعرفة عند رينيه ديكارت وجون لوك وتبعتها المطالبة بالحريات والحقوق مع فولتير وجان جاك روسو وقد حوّل المفكرون الفرنسيّون، بمن فيهم أوجست كونت التجريبيّة إلى نزعة وضعيّة، أي الاعتقاد بأنّ المعرفة تقتصر على ما يمكن التحقق منه وهذا يعني أن الميتافيزيقا والفكر الأسطوري يجب أن ينسَى.

وعلى الرغم من هذه الرحلة الممتدة لا يزال مزيج الأسطورة والمنطق حتى يومنا هذا ما يميز تفكير المواطنين العاديين والعلماء المشهورين والأيديولوجيين والسياسيين, وقد يتغلغل حتى في تفكير العلماء الذين يميلون إلى نشر “الأساطير العلمية”ولكن البحث عن الانسجام بينهما يأخذ مسارات مختلفة بالنسبة لعلماء مثل أينشتاين أو وينر ،وفي هذا نشير إلى أنه لم تكن الحدود بين أنواع المعرفة المختلفة مثل العلم والدين والأخلاق وعلم الجمال جامدة ولكنها ظلت مرنة تمامًا ومنفتحة على الإبداع والخيال.

أما عن “حجاب الساحر” فهي تجسيد لهذه الرحلة التاريخية الممتدة من الأسطورة والخرافة إلى المنطق عبر بلدان وملوك وفلاسفة ومفكرون وأدباء ومستشرقون والتي تحمل بطلة الرواية شمس حمدي رمزها ومفتاحها كما ورد في أسطورة سخمت الجالسة على العرش وفي يدها مفتاح الحياة والأسرار والرحلة العامة التي خاضتها الإنسانية والخاصة التي عانتها شمس حمدي هي محاولة البحث عن السعادة في مطلقها “أريدُ أن أرتاحَ ، أنا التي ازدوجتُ وتكاثرتُ، وراودتني الأشباحُ عن نفسي كل ليلة ، ولن يتحقَّقَ لي ذلك بذاكرةٍ مُكوَّنةٍ من طبقاتٍ ، فيها الحوادث تتكرَّرُ ، ومكتُوب في خريطتها أنها مُقاوِمَة للنسيان . أحتاجُ أن أجتازَ حدُودي كي لا أسقطَ في الهاوية ، وأضيعَ أكثر ممَّا أنا فيه من تيهٍ وخذلان ، وابتعاد عمَّن اختاره قلبي حبيبًا” ويحضرني سؤال وجودي وماذا نحتاج نحن معك يا شمس في رحلتنا هذه غير ذلك ، هل كان الشهاوي يكتبك أم يكتبنا جميعا نحن أبناء الصراعات الكونية اللامحدودة واللامنتمية وفي كثير من الأحيان اللامرئية؟

أما عن عمر الحديدي الذي حاول أن يجمع شتاتها فكان يسعى منذ البداية إلى أن تكُون شمسه “صحيحة في كل شئ بلا كسرٍ واحدٍ في رُوحها” فهو رمز لتبادل الأدوار التاريخية بين إيزيس وأوزوريس وهو النسخة المحدثة لأوزوريس العاشق الذي فتح مستودعات حكمته وخبراته المعرفية والحياتية لإنقاذ إيزيسه هذه المرة وينتصر الشهاوي للعقل وسلطته ولو على لسان ملك الجن مخاطبا شمس:

استمسكي بمن يحبك وكل مشكلةٍ حلها في قلبك فاذهبي حيثُ يقودك”

وسواء كانت شمس حمدي ربة من ربات الإلهام والعشق أو أنثى بشرية مقدسة عاشقة ومعشوقة أو دولة كبرى من أصحاب الحضارات فنجاتها في البحث الجواني وفهم ذاتها والمعاني وراء كل حادثة ،كأنه كانط وهو يعلن في عصورالتحولات الكبرى لسلطة العقل و التنوير بأن ” كن جريئا في إعمال عقلك” ولامانع ياكانط في إعمال قلبك أيضا, ويرى عمر الحديدي أيضا أنَّ النجاة في “الاعتزال والخلوة؛ فالوحدة جليس الصديقين ، وربما تعرفين جُوَّاك أكثر، وربما ترين أيهن أنتِ من بين النساء اللواتي يعشن فيك ، ويتبادلن أدوار البطولة في حياتكِ” وستخلد أسطورة شمس حمدي كما أراد الراوي ، وستحكى سيرتها لأجيال قادمة على أنها ربة الإلهام والعشق والتحوُّلات الكبرى.

……………………….

* أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم