حتى أنت، … يا عبدالوهاب؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزيز زرنارة

 

كنت قد اتبعت منذ وقت طويل عادة استهلاكية خاصة، وهي شراء بعض الحاجيات الشخصية والمنزلية من البائعين المتجولين الذين يعرضون بضائعهم على رواد المقاهي أو حتى في الطرقات العامة. وهكذا يمكن أن أجزم بأن كل مشترياتي من الملابس القطنية الداخلية خلال السنوات الأخيرة اقتنيتها بهذه الطريقة إضافة إلى العديد من المعدات الأخرى التي انضافت إلى لائحة المعروضات: مصابيح كهربائية، ساعات يدوية وحائطية، معدات الكترونية، ملابس ومأكولات مختلفة،....الخ. وكنت أعتبر أنه من واجبي مساعدة هؤلاء الباعة حتى لو اقتضى الحال أحيانا بشراء بعض الأشياء التي لا حاجة لي بها بتاتا، لأنهم يبدلون جهديا جسديا كبيرا في التجول عبر العديد من أحياء المدينة لبيع سلعتهم مقارنة مع أصحاب المحال التجارية والذين تكون أسعارهم غير قابلة للنقاش أحيانا. 

ولعل من أهم المعروضات التي تجدها حاليا في كل مكان: أشرطة الفيديو أو الأغاني المدمجة م.ب3 التي تباع بأرخص الأسعار من 5 إلى 10 دراهم مغربية، وهذا ما خلق حالة من الكساد والركود في المجال الفني كان من نتائجها الكارثية إقفال أغلب دور السينما في المغرب، وإفلاس العديد من شركات تسجيل وتوزيع الأشرطة الغنائية.

بالأمس وقف أمامي بائع معروف بالدارالبيضاء وهو يجر محفظة كبيرة مملوءة عن آخرها بالتسجيلات الغنائية لأشهر المطربين العرب والمغاربة، وبعد أن عرض أغلب ما لديه اقتنيت منها 7 أقراص مدمجة كلها م.ب.3 للمطرب محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، ناظم الغزالي، محمد فويتح، المعطي بلقاسم، وآخرين. طلبت منه تشغيل القرص الخاص بمحمد عبدالوهاب للتأكد من جودته، وبالفعل كان التسجيل جيدا. أديت ثمن الأقراص، وانصرف الرجل، وأكملت حديثي مع جلسائي بالمقهى. بعد قليل انتبهت إلى لائحة الأغاني المسجلة في قرص واحد لمحمد عبد الوهاب، فلم أصدق عيني ما قرأت: ما يزيد على 40 أغنية في قرص واحد. شعرت بوخز مؤلم في ضميري: كيف لي أن أستولي على مجهود مجموعة كبيرة من الناس اشتغلوا لإنتاج هذه التحف الغنائية الجميلة، وبسعر بخس لا يتعدى 5 دراهم؟ وشعرت كأني أساهم مع هؤلاء الذين يدمرون صناعة السينما والغناء في المغرب، ويدفعون بالمبدعين من الممثلين والمغنيين إلى الإفلاس نتيجة صناعة القرصنة التي أخذت أبعادا كارثية. وانتهيت إلى أن دوري كمواطن صالح له إمكانية شراء شرائط أصلية عليه أن لا يساهم في هذا الاختلال الذي يعد سرقة موصوفة يعاقب عليها القانون والدين.

كان البائع المتجول قد غادر المقهى لكي أرد له شرائطه واسترجع فلوسي، ولكني شعرت بارتياح لقراري بعدم استخدام هذه الأشرطة وفضلت تركها لصديق ضحك كثيرا على “بلادتي” كما قال. بعد انتهاء جلسة السمر بالمقهى قفلت راجعا للبيت. أول ما أشعلت محرك السيارة انطلق صوت جهاز الراديو وقراءة الأقراص المدمجة، والذي كان فيه، ياللصدفة العجيبة، قرص لأغاني مطربي المفضل محمد عبدالوهاب. بمجرد تشغيل السيارة انطلق صوت محمد عبد الوهاب في مقطع من إحدى أغانيه الرائعة، ولكن الصدفة شاءت أن يغني في تلك اللحظة بالذات مقطعا من قصيدة أحمد شوقي وكأنه يشمت بي ويؤكد ماقاله صديقي عن “بلادتي”. قال محمد عبدالوهاب، وكأنه يكلمني: “ما أقصر العمر، حتى نضيعه في النضال.

……….

*كاتب من المغرب

مقالات من نفس القسم