تهامة الجندي
يصّدمنا للوهلة الأولى عنوان المجموعة الجديدة للشاعرة المصرية إيمان مرسال “حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، سيما أن معظمنا يقضي جلّ عمره في السعي وراء امتلاك مفاتيح بيت، يؤوي شظايا روحه المبعثرة على دروب الخيبات… لكن العنوان الصادم والصدامي يحمل في طياته واحداً من أكثر القرارات جرأة وقسوة، بما يعنيه من أن تدير ظهرك دفعة واحدة لكل أسباب الاستقرار والألفة، وأشكال الخصوصية والطقوس الشخصية، لتذوب في المجهول، حيث تفاجئك الحياة بما تشاء وتقبل المفاجآت السّارة منها والحزينة على حد السواء من دون اعتراض. إنها لحظة الصفر، أو كما تكتب الشاعرة: “حياة كل منا كثيرة، ولكنها تبدو في لحظة كهذه بلا تاريخ ولا مستقبل، مثل زجاجة صغيرة من المياه، نشربها على عجل ثم نلقيها في أول سلة مهملات” (ص21).
والشيء بالشيء يذكر، أن غصّة السوريين منذ عامين، هي أن الكثير منهم غادروا منازلهم مرغمين، وأغلبهم آثر البقاء تحت وابل قصف لا يرحم ولا يميّز، كي لا يُسّلموا حيواتهم للعراء وللخطر الداهم من الأرض والسماء، ولأني واحدة منهم، استوقفني عنوان الشاعرة من بين العديد من العناوين الجديدة وذكّرني باللحظة التي أسدلت فيها ستائري على ركن الكتابة وسرير الوحدة وجيراني الفضوليين ومعارف الحي والشوارع التي تصلني بالأهل والأصدقاء والعمل والمقاهي وكل ما عرفته وخبرته عن قرب… لأدخل هيولى أولى، عليّ إعادة تشكيلها من جديد، وأنا لم أعد في مقتبل الشباب…
طبعاً إيمان لم تغادر الشرّنقة مرّغمة، ولا تكتب من موقع القسّر والقهر، بل تكتب من باب حرية الخيار والقرار، لإمرأة قايضت الأمان والاستقرار بوله الاستكشاف ولذة المعرفة، وهي تفاجئ القارئ بنصوص لا تشبه سواها ولا تنتمي لأي من تقسيمات الشعر الحديث أو القديم، نصوص تحتضن الشعر بين ضلوعها، كما يحتضن الرحم الجنين.. تخلّقات ضبابية تنبض بحساسية شعرية راسخة في أوج خصوصيتها: “جهنم تأتي من ميكرفون المسجد/ ثم قيلولة الرجال تحتل صالة البيت بعد الغذاء/ إذا لم تحدث كارثة في اليوم المبارك/ فزيارات من كائنات كئيبة تشكو من آلام المفاصل والحظ الأسود/ كائنات تشفط الشاي وتبسّمل/ ثم تشعر بالذنب عندما تنسى أمراضها أو تضحك/ يوم الجمعة، هو اليوم الذي لا أحب” (ص16).
نصوص المجموعة التسعة والعشرين أشبه بسرد شعري لتفاصيل سيرة شخصية تتدفق تداعياتها ووقائعها في رحلة العبور بين عالمين مختلفين، سيرة تدرجها الكاتبة تحت ثلاثة فصول هي: “وفاتتني أشياء”، “ونصنع وهما ونتقنه”، “الحياة في شوارعها الجانبية”، وفي الفصول تمييز صريح بين ثلاثة مراحل متباينة عايشتها الكاتبة في مغتربها البعيد. وكما هي حال الغريب في البدايات، يقاوم العزلة ومشاعر الفقد باستعادة ماضيه، وإطالة النظر إلى صور الأهل، وكتابة الرسائل واليوميات. تبدأ السيرة من تاريخ العائلة وتضاريس المكان: “يقولون إن مستعمرة من النمل كانت تأكل الجدران والطيور، يقولون إن أجدادهم تنقّلوا ثلاث مرات في قرنين، يقولون إنهم ردموا مستنقعا وبنوا بيتا لله أولا، ثم بيوتا للأموات ثانيا ثم أخيرا بيوتا للناجين من لعنة الكائنات الصغيرة…. (ميت عدلان) قريتي العزيزة الجميلة، وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس” (ص9).
ثم تنتقل الكاتبة إلى أهلها عاداتهم وطقوسهم، حياتها وسطهم، تجربتها مع عدسة التصوير: “عندما امتلكت أول كاميرا كنت أعيش بالفعل/ وحدي في مدينة/ كم حملتها إلى ميت عدلان كعيوني التي لا أرى/ الوجوه بدونها… أنا اليد الإلهية التي تثبّت في الزيارات البعيدة ما لن/ يمكن استعادته” (ص15)… تكتب عن حياة غادرتها وكأنها إلى جانبك، تمسك بين يديها ألبوم صورها، وتحدثك بلغتها الخاصة عما كان خافياً عنها في لحظات التماس، ومع كل صورة يغمرها المزيد من الانفعال والشوق، وهي بانتظار أن يأذن لها العالم الجديد بولوج عتباته: “ربما أنا في هذه القارة كي أمشي لعدة أيام أو سنوات وكأن لا أحد هناك يحتاجني، ينتظرني، يطالبني، يحبني، يستوحشني، يخاف عليّ…أحتاج كل هؤلاء الذين أنام وأصحو بدونهم” (ص31).
في الفصل الثاني “ونصنع وهماً ونتقنه” تغيب الصور والرسائل، تتغير لغة الحنين والنبرة الانفعالية الطاغية في البدايات، حيث تعبر الكاتبة إلى مناطق اكتشاف مفردات العلاقة مع الآخر من موقعها كغريبة، ومن موقعها كأنثى، فهي تتحرك بثقة بوصفها امرأة مستقلة تدخل الحاضر وتعيد ترتب الحياة من حولها، تبتاع حاجياتها، تسافر، تزور المعارض، تحتفل بسنتها الأربعين، يروق لها عند الفجر أن تصلي، ولا تعرف لمن، تستقبل الحبيب في منزلها دون خوف من التابو الاجتماعي: “وكموسى يعبر إلى الصحراء تدخل بيتي/ تنشق المياه على الجانبين… هارب من الموت/ لا نصر أمامك ولا خلفك… وأقسم أن الندى كان يسقط من سقف الصالة” (ص46).
لكن المرأة الحرة، التي فتحت البوابات المغّلقة، وخبرت إشراقة الكشف عن المجهول، وتغيرت وأعادت ترتيب أوراقها بما يناسب متطلبات روحها، لا تلبث أن تقع في شرك الهواجس والأسئلة المتشكّكة حول حقيقة خياراتها واكتشافاتها وتحولاتها: “كنا هناك رهائن لرغبة كأنها اليأس/ وضعت غربتي مع اغترابه في ميزان الذهب فأصبحنا ثريين فجأة/ تسلط كل منا على الآخر/ بحثا عن حرية لم يبشرنا بها أحد” (ص59)، وكم تكون الإجابة جارحة، إن كان التغيير المزعوم ليس إلا ضربا من الأوهام: “أمامك سراب يظنه الكافر ماء، وعلى كتفيك تراث ظننت أنك أسقطته من البكاء على الأطلال” (ص61).
مع مرور الزمن تترسّم المسافة بين الأنا والآخر، يغدو الجديد اعتياديا ومكرورا، فتتضح الرؤية وتتعمق المعرفة مفسحة المجال أمام التأمل الواعي في طبيعة العلائق ومفارقات الحياة: “بعد الأربعين يعدّ الرجل الشعرات المعلقة بالمشط في الصباح، وتنزع المرأة الشعرات البيضاء قبل الذهاب إلى النوم، أمام المرآة تختبر المرأة أي تغير في لون الحلّمة وتتزايد مراقبة الرجل للحلمات في الأماكن العامة (ص77)… هكذا يبدأ الفصل الأخير من السيرة وينتهي بتأملات غريبة في بلد غريب، ترقب المارة من خلف زجاج النوافذ، تأملات يكسوها حس ساخر حتى البكاء، تمليه مشاعر الحنين والفقد الموزّعة بين عالمين: “وقع خيط القصة في الأرض فنزلت إلى ركبتي أبحث عنه، كان هنالك ذلك الاحتفال الوطني ولم أر إلا الأحذية المستوردة والبيانات” (71).
الكتاب: “حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، شعر/ المؤلف: إيمان مرسال/ الناشر: دار شرقيات/القاهرة، ودار التنوير/ بيروت 2013.