حارسة الوديان الخضراء والعبور إلى الجانب الآخر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أحمد رُحَيمة

كنتُ أموتُ حين قابلتُها..

الذئاب خلفي تطاردني، وأنا أجري بين الكثبان، ساقي تنزف مكان عضة سامة، والعالم يدور أمام عينيّ..

حتى رأيت بداية الوديان الخضراء.

لم أصدق. اجتزت الصحراء. اجتزتُها حقًا. انتهت الكثبان. لا مزيد من الأصفر اللانهائي. الحشائش الخضراء القصيرة تغطي المدى أمامي، تلمع بفضيةٍ تحت ضوء القمر. وفي عمق الوادي بيت خشبي ضخم ووحيد وقريب. رأيتُ ضوء النيران البرتقالي الدافئ يلوّن ما بداخله من النوافذ المفتوحة.

سمعتُ الزمجرة خلفي. نظرتُ. لم يتبقَّ معي أية أسلحة.

لم أخطُ خطوة واحدة. لم أقدر. سقطتُ. لم أمانع مجيء النهاية. أردتها. رأيتُ الأشياء تدور. أذهب إلى السماء وأعود، وأرى الماضي وهو لا يتوقف عن النخر بين ضلوعي. الماضي ها هنا والنجوم تختلط مع الرمال والألم. والذئاب تقترب. والأمل شعلة بعيدة لا تقترب إلا لكي تحرق، كما تفعل دومًا. لم أمانع..

ولكن الوحش الأبيض جاء.

يطير من بعيد. أفقد وعيي وأظنها هلوسة. مرّ من فوقي وانقضّ على الذئاب. سمعتُ صرخاتهم وهو يمزقهم. رائحة الدم والموت. ظننت دوري يأتي بعدهم. من داخل دوامة تبتلعني رأيته يخطو إليّ، يتشمم وجهي، أنفاسه.. أغرق في الظلام و رائحة الدماء الحمراء على فروه الأبيض تملؤني. أردت نهاية سريعة. لم أرد تلك الرائحة.

ولكنه عاد إلى الوراء. وشعرتُ بوجودٍ آخر يقترب من خلفي..

ورود. ورود من الجنة.

وأنا في عمق الحفرة الداكنة، امتدَّت نحوي أيادٍ من أزهار النعيم. رائحتها ضوءٌ دافيءٌ كلحنٍ حنون. لفّٓتني واختفى كل شيء.

*

استيقظتُ في اليوم التالي. جلستُ. كنتُ على سرير. على يميني نافذة مفتوحة. أشرقتْ الشمس للتو من خلف التلال الخضراء الضبابية البعيدة. والوادي الأخضر على مد البصر يمتد بالعشب حتى هناك.

لقد وصلتُ إلى الجانب الآخر حقًا. لم يكن حلمًا. عبرتُ صحراء الكثبان الأبدية. يبدو أنها لم تكن كذلك..

نظرتُ إلى ساقي المصابة. كانت ملفوفة بالضماد. ولكن السم…

سمعتُ صوتها للمرة الأولى: “استيقظتَ؟”

نظرتُ إلى باب الغرفة المفتوح ورأيتُها..

لفَّتني الرائحة مرة أخرى وهي تقف على الباب. تسلَّلَت إلى داخل مسامي. كانت هي، فتاة، حديقة من أزهار النعيم، نحيفة ولكن انحناءات جسدها مثالية في الأماكن الصحيحة، شعرها الأخضر الطويل بلون العشب يمتد حتى ركبتيها، ناعم وبري وجامح. كانت كاملة. كل شيء فيها يبتسم بهدوء. كل شيء فيها وكل شيء حولها.

تقف على الباب وتنظر إليَّ. وأنا لا أستطيع أن أبعد عينيَّ.

نظرتْ فجأة نحو النافذة المفتوحة. أدرتُ وجهي وصرختُ وسقطتُ من فوق السرير.

الوحش الأبيض.

ضحكَتْ بقوة.

رأيتُها تمشي نحو النافذة وتقفز فوق السرير. احتضنتْ وجه الوحش وهي تربت عليْه. نظرتْ إليّ وهي تبتسم. انتبهتُ إلى أن الوحش كان يبتسم هو أيضًا ولسانه يتدلى إلى الخارج سعيدًا.

*

هاسكي كبير. كبير لدرجة غير حقيقية. كبير لدرجة لا تجعله كلبًا.

كنا في غرفة المعيشة. أجلس على الطاولة وآكل الفطور الشهي الذي أعدته لي. أحاول أن أركز في الطعام ولكنه يجلس بجانبي ورأسه توشك أن تلمس السقف شديد الارتفاع. ينظر إليّ من الأعلى وهو يلهث مبتسمًا. يحاول أن يقنعني أنه شديد الأدب. أستطيع أن أشعر برغبته الدفينة في التهامي.

كانت تجلس في نهاية الغرفة على كرسيها الضخم، بطريقتها المحببة في الجلوس. ساقيها مضمومتان تحتها، تحضن مخدة وتخفي بها نصف وجهها السفلي، تنظر بعينيها من الأسفل وإلى الأمام. ترمقني بنظرة خجولة بين الفينة والأخرى. تفشل في إخفاء توترها الخجول. ابتسامة صغيرة على وجهها السماوي.

أنهيتُ الفطور.

همسَتْ: “أعجبك؟”

أومأتُ. أردتُ أن أقول المزيد ولكن أسكتتني طريقتها الساحرة وهي تحاول إخفاء سعادتها من إيماءتي.

نبح الوحش نبحة مرعبة. قفزتُ من مكاني.

ضحكتْ. قالتْ: “لا بد أنها أول مرة ترى واحدًا مثله.”

صرختُ: “بإمكان ذلك الشيء أن يأكل رأسي في أي وقت يريد!”

ضحكتْ: “ليس (شيئًا). اسمه أليكسيوس. ولن يأكل رأسك.”

كنت أنظر إليه. الوحش اللعين لا زال يبتسم. مع ذلك أعترف آسفًا أنه أنقذ حياتي.

“أتعرف؟”، قالتها بنبرة مختلفة، كأنها تدفع نفسها للكلام.

نظرتُ إليها.

قالت: “أنت أول شخص أراه منذ موت أبي قبل 500 عام.”

لم أتخيل أني سمعتُ الجملة بالشكل الصحيح.

أكملتْ: “حين ورثتُ منه حراسة الوديان كان عمري 241 عامًا فحسب. ولكنه علمني كل شيء قبل أن يموت. كأنه كان يشعر. عاش 4831 عامًا. مات شابًا.”

“مات شابًا؟”

لاحظتْ توتري. ثم قالتْ فجأة: “صحيح! أخبرني أبي أنكم لا تعيشون كل تلك المدة في جانبكم.”

كنت أتأمل ملامحها. إنها تبدو في أوائل العشرين. سمعتُ عن ذلك في بعض الأساطير المتداولة عندنا. انتبهتُ إلى أن عليَّ التوقف عن الاندهاش لأني سأرى الكثير هنا.

سألتها: “أتحرسين الوديان وحدك كل تلك الأعوام؟”

ابتسمتْ للحظات وهي تنظر إلي دون أن ترد، تحاول أن تخفي شيئًا، قالت: “معي أليكسيوس.”، نظرتْ إليه وابتسمتْ.

نبح الشيء نبحة عظيمة أخرى.

قالتْ: “ثم إنني أحب ما أفعله.”

في صوتها ارتجافة خافتة. عرفت سببها لاحقًا. لم تقل كل الحقيقة. أحبت ما تفعله ولكنها كانت وحيدة.

عرفتُ لاحقًا كيف يخافها الجميع هنا. لا أحد يأتي إليها، ولا يمكنها ترك المكان. ولم ترَ أحدًا من جانبي من العالم سوى مرة واحدة قبل مئات الأعوام. كانت سعيدة لوجودي إلى حدٍّ لم تستوعبه هي حينها.

كانت تنتظر أن أقول أي شيء ولكني لم أفعل. شيء بداخلي كان يحدث بسببها، أعرفه وأخاف منه، ظننت أنه لن يتكرر. ولكنه كان يحدث وأنا أنظر إليها وأحاول أن أقاومه ولا أقدر..

لم تحتمل نظراتي. تغيّر وضعية جلوسها كل بضع ثوان.

قالت، دون أن تنظر إليّ: “كم عامًا استغرقك عبور الصحراء؟”

قلت: “سبعة أشهر.”

“سبعة أعوام؟!”

“لا. أشهر.”

تنظر إليّ ولا تصدق. أنا أيضًا لم أكن أصدق. الخوف من صحراء الكثبان والذئاب فرض على اللاوعي الجمعي طوال تلك الأعوام عند كل سكّان جانبي إيمانًا لا يتزحزح باستحالة العبور إلى الجانب الآخر.

قالت: “كيف فعلتها في سبعة أشهر؟”

“هذا ما حدث.”

قالتْ: “لم تعضك الذئاب سوى عضة واحدة كل تلك المدة؟”

شعرت فجأة بأنياب تنغرس في ساقي. صرختُ وسقطت على الأرض. سم عضة الذئب. كنتُ أعرف. ليس من المنطقي أن أظل حيًا حتى الآن.

جرتْ نحوي بسرعة وانحنتْ وهي تلمس الضماد بيدها: “سيستغرق الكريمسون شهرًا حتى يقضي على السم. ستأتيك الانقباضات عدة مرات حتى ينتهي تمامًا.”

“ماذا يكون الكيميسرون؟!”، كنت أصرخ.

“الكريمسون، النبتة الوحيدة التي تعالج سم الذئاب. تنبت بكميات قليلة في حديقة البيت هنا. المكان الوحيد في العالم.”

“لحظة… شهر؟!!”

أومأتْ.

“لا.. لن أبقى هنا شهرًا كاملًا!”

تخيلتُ ذلك. مستحيل. دخلتُ الصحراء هاربًا. كنتُ أتحرك وأنا أوقن بحتمية الموت. وأنا أعرف أني لن أصل. لم أهرب من كل ما حدث لي حتى آتي إلى.. لا.. لن أسمح بذلك.. إن بقيت شهرا وليس في المكان غيري أنا وهي..

قلت وأنا أقف: “اعطني بعضًا من ذلك الدواء.. لن أبقى..”

قالتْ: “لا يمكن. الكريمسون لا يوضع على الجرح إلا حين يُقطف فورًا من النبتة، لا يمكن إخراجه من الأرض وتخزينه، سيزول مفعوله. ستموت خلال أيام إن غادرت.”

“لا..”، حاولت الوقوف وأخذت بضعة خطوات: “عليّ أن-…”

صارت الغرفة سوداء. فقدتُ الوعي للحظة. استند جسدي على شيء وهو يسقط قبل أن يصل للأرض.. كانت هي..

“لا يمكنك الوقوف حتى…”، سمعت صوتها، بجوار أذني.

كنت أتكئ عليها.

“أنت بحاجة للراحة.”

وجهها قريب من وجهي. كل الأشياء أمام عيني تسبح في فضاء من الرمال العائمة.. لا أرى شيئًا ولكني أشعر بحرارتها..

أوصلتني إلى الغرفة وذراعي حول كتفيها. تسند كل جسدي. ورائحتها.. كانت أقرب مما أستطيع تحمله.

ارتميت على السرير.

همستْ: “نادني إن احتجتني.”

نظرتُ إليها.. كان وجهها متورّدًا. ربما أكثر مني.

خرجتْ.

شهر…

لم نعرف نحن الاثنان حينها أنهم سيكونون ثلاثة أشهر.

أجمل ثلاثة في حياتي.

*

في اليوم الأخير من الشهر الثالث، كنا مستلقيين على العشب. نشبك يدينا وننظر إلى السماء. الغيوم تغطي الشمس. في الهواء نسمة باردة.

جلستْ. نظرتْ إليّ: “لمَ لا يمكنك البقاء؟”

أحطتُها بذراعي. قبَّلتُ رأسها. ضمَّتني بقوة. ضممتها بنفس الدرجة. قبَّلتها مرة أخرى.

الجبال الخضراء الضبابية أمامي في البعيد، تناديني.

الحق أني لم أرِد تلبية النداء، أردتُ البقاء، وكنتُ خائفًا. ظننتُ أن الماضي لن يسمح لي بالمضيّ قدمًا. كنت أخاف أن أؤذيها. إن توقَّفتُ عن الحركة فستعاود الذكريات الانقضاض على رأسي. لن تحتملني. فكَّرتُ أنِّي أفضِّل الموت على أن أراها تعاني بسببي. لا زال ذلك صحيح. ولكن شيئًا قد تغيّر بداخلي. لم أكن حينها منتبهًا له، لم أكن واعيًا بما فعلَتْه بي تلك الأشهر. كيف صارتْ روديانا جزءًا من قلبي.

ارتجف صوتها: “تعدُني أن تعود؟”

جعلتُها تنظر إلى عينيّ. أخبرتها دون كلمات.

قالتْ والدموع في عينيها: “سأحزنُ حقًا إن لم تعُد..”

مارسنا الحب مرة أخيرة.

*

مرّ عام منذ ذلك اليوم. سافرتُ عبر الوديان كلها. رأيتُ الجانب بأكمله.

قبل أن أعرفكِ، لم أفهم من يفتقدون بيوتهم. لم يكن لي واحدٌ يومًا. لم أعرف كيف يُفتقد البيت. جعلتِني أعرف.

إن عامًا واحدًا بالنسبة إليكِ هو لمحةٌ عابرة، ولكنه بالنسبة إلى عمري القصير زمنٌ طويل. طوال تلك المدة، لم تفارقي رأسي لحظة واحدة..

كيف حدث ذلك؟ كيف أشتاق إليكِ إلى ذلك الحد؟

أجلس الآن على طاولةٍ في حانة. أكتب تلك الصفحات. أخبروني أنه إن تحرَّكتُ اليوم فسأصل إليكِ خلال أسبوع. أعدُّ الثواني حتى أراكِ.

لم يصدقوا أني ذاهبٌ إليكِ. سكان الجانب الأخضر بأكمله يرتعبون حقًا من ذِكْر روديانا حارسة الوديان العظيمة وأليكسيوس وحشها المرعب. لا ألومهم على خوفهم من ذلك الشيطان (سأعترف مرة وحيدة أني افتقدته بعض الافتقاد القليل، لا تخبريه بذلك)، مع ذلك لم أفهم كيف يخشون زهرة مقدسة تكرِّس حياتها لأجل حراستهم. يبدو أنكِ لم تخبريني ببعض الأساطير المرتبطة بأبيكِ. ستحكينها لي. وأنا أيضًا لدي الكثير من الحكايات. سنسهر كثيرًا وسأحكي كثيرًا.

ولكن الحكاية الأولى ستكون التي تقرئينها الآن:

حكايتنا.

سأعطيها لكِ في يديكِ حين أصل، وستقرئينها وأنتِ بين ذراعيّ. حكاية ما تعنينه بالنسبة لي. لأنني كما تعلمين لا أستطيع أن أقول ما أشعر به وأنا أقف أمامك. أتلعثم وتضيع الكلمات. لذا فكّرتُ أن أفضل طريقة أفعل بها ذلك هي أن أستخدم مهارتي الحقيقية الوحيدة: كتابة القصص.

رغم ذلك، روديانا، ملايين القصص لا تكفي للتعبير عما أشعر به نحوكِ، وفي نفس الوقت، هناك كلمة إعجازية واحدة تقول كل شيء:

أحبك.

27 إبريل 2025

مقالات من نفس القسم

amr ezz aldeen
تراب الحكايات
موقع الكتابة

فيزوف

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور