وقلتُ لنفسي: أتخيّل، إذاً، خيمةً آخذ إليها قوافلي كلّها من الشعر والحبّ والصداقة، وأصطحبُ أشياءَ لا أسمّيها لكي تظلّ أسراراً أبعثرها في القرى والمدائن، حيث يرغبُ المعنى.
كنتُ قد استيقظتُ بين قافلةٍ من فراشاتٍ تلتهم رحيقَ الحقول. واستيقظَتِ الكلماتُ كمثلِ عاشقاتٍ فَكَكْنَ أزرارَهنّ: في هذه الكلمة يختبئ وادٍ، في تلك مَجْثَمٌ لكواسرِ الجبال. وتكمن في بعضهنّ أعشاشٌ لغرائب الأجنحة.
وكانت كلّ لحظةٍ إبريقاً لماء الشهوة.
مراراً، أخطأتُ في الأحلاف التي كنتُ أعقدها مع الهواء. وكان الهواءُ يخفّفُ عنّي هذا الخطأ، قائلاً عن نفسه: أحتاجُ إلى التشرّد والضياع لكي أُحْسِنَ الحبّ.
ألهذا أحبّ غالباً ما لا أعرفه؟ ألهذا أُسَرُّ، غالباً، عندما أسمع يقظةَ الجنون تسخر من وسادة العقل؟ ألهذا تكون، غالباً، ريشةُ السؤال عبئاً على عروش اليقين؟
لكن، ألَن تستسلمَ، أخيراً، إلى الحِبْر،
أيّها الشّرِسُ الشّفيعُ، أيها المستحيل؟
II – عُمَري خاور
باكراً، كما ينهض الفجرُ من سريره، ويخرج لابساً معطفَ الشمس، ذهبْنا إلى حَلَبْجة. رافقتنا ذِكرى مرْشوشةٌ بسائلٍ كيماويّ، كنتُ أنظرُ إليها تلتهبُ في ذاكرة الحقول. رافَقَنا سحابٌ يتقطّع، ينفصلُ يتّصلُ، ويهبط كأنّه شهيقُ الرّياح وزفيرها.
وقلنا للهباء الذي تحمله ريحُ الجنوب: رجاءً، أَرْجئ هبوبَك.
الطريقُ بيوتٌ كمثل تضاريسَ في عَضَل المادّة. رأيتُ الطبيعة تغسلُ في هذه البيوت نهديْها وقدميها. رأيتها تتّكئ على العتبة. تُسدِلُ شعرَها الطّويلَ وتسلّم على أبنائها الغادين الرائحين.
الطّريقُ أطفالٌ يُزنّرون الشجرَ بأحلامهم.
الطريقُ جراحٌ نازفةٌ في هياكل التّراب.
الطريقُ صمتٌ تتقوّسُ فوقَه خاصرةُ الفضاء.
فجأةً حلبجة: عُمَري خاوَر –
سمعتُ الصورةَ. رأيتُ الأصوات.
وخِفْيَةً، كان الحجرُ يبكي.
وفي مسافةٍ تنكمِشُ في برعم زهرةٍ، بدت الشمسُ كمثلِ تجويفٍ أحمرَ في جسد النّهار.
وكانت الحقول أَسرّةً تنطرح عليها سلالمُ العذابِ، صعوداً إلى مجرّات الله.
عُمَري خاوَر –
رعدٌ في الحِسّ والمخيّلة، في الحدسِ والتّنفّس والنُّطق. هَولٌ يتمدّد على التراب
في أشكالٍ ومجسّمات يرتعش فيها الفلَك، ويتبلبل المعنى.
كيف يُمَسمَرُ الإنسان على دريئةٍ اسمها القتل؟
كيف تكون الجمجمة شعاراً للوطن؟
المعنى؟ من يقدر، من يعرف أن ينفخ في صُور المعنى؟
واختلط الموتُ بالحياة والتبس كلٌّ منهما عليّ. ورأيت الموتَ يدخل في تحوّلاتٍ
التبست هي كذلك عليّ –
موتٌ يقاتل الموت. موتٌ قمرٌ وشمسٌ في فراشٍ واحد. موتٌ ثقبٌ في جسم الموت. موتٌ يقظةٌ في الموت. موتٌ رئةٌ للحياة. موتٌ عيدٌ للموت. موتٌ قبور أطفال وقبور أنفال. موتٌ نردٌ. موتٌ دمية. موتٌ خريطة للمدارات. موتٌ حقلٌ وزرعٌ وحصاد. موتٌ ينبوعٌ في جبلّة الرمل. موت سلّمٌ للموت. موتٌ شاطئٌ. موتٌ شراعٌ ومرساة. موتٌ فرسٌ فارس. موتٌ سخريةٌ. موتٌ عناقٌ. موتٌ جالسٌ بين يدي طفل. موتٌ يستحمّ في بحيرة الدمع. موتٌ أسيرٌ آسرٌ، قتيلٌ قاتل. موتٌ فأسٌ وقيثار. موتٌ يرقص مذبوحاً. موتٌ يغنّي بالكردية، ويتذكّر بالعربية. موتٌ بغداد وإربيل في جبّةٍ واحدة.
من قال هناك مَهدٌ للحياد، والأشياءُ هامدةٌ فيه؟ الأشياء سواء كانت غباراً أو قمراً، وردةً أو سرّةً، أو كانت أفراحاً أو تباريحَ، تنام وتستيقظ في فراش البصر، وتحت غطاء البصيرة.
هكذا لا تنام حلبجةُ وإن خَيّلتِ النوم. دائماً شطرٌ منها يعانق أواخر الليل، وشطرٌ يعانق أوائلَ السّحَر. دائماً تطلع منها شمسٌ، وينشقّ فيها قمر. دائماً، ترافقها جوقةُ أشعّةٍ مما فوق النسيان، ومما بعد الحاسّة.
حَلَبْجةُ حقلُ موتٍ مسكونٌ بمحراثٍ اسمُه الحياة.
> كانت الكواكب تسير نحو أوجها، في عربةٍ تجرّها خيول الهواء. وكان الشجر يمسح الحزن عن وجهه بمناديلَ زرقٍ بيضٍ، فيما تتحوّل البراعم إلى أقلام تكتب المراثي لأطفالٍ احترقوا. آثرتُ ألاّ أفتحَ خزانة الأيام الملأى برسائل كتبتها نساء ذوّبتهنّ آلة الكيمياء.
> سياجُ الرمز حول المقبرة الجماعيّة يتفجّر صوراً
تنحني نجمة لكي تكتب اسمها على قبر امرأة.
تَغلغلْ أيها الشعر في تخاريم المكان،
تقلّب أيها الفكرُ في خفاياه.
ترك الموتُ أوراقه في دُرْج الزمن وائتمن عليها الريح.
أغلقت المقبرةُ دارها وأخذت تقرأ رسالة كنتُ كتبتها إليها.
> قبورٌ نُقش عليها: «يستطيع القصف الكيميائيّ أن يقتل كلّ شيءٍ إلاّ الحبّ».
> ماذا تقدر حلبجة أن تفعل من أجل بشرٍ يحملون أفكاراً بلا مناخٍ، ولا أبجديةَ لها؟
أفكارٌ تنخسف كمثل قصورٍ تهرّأت، والراياتُ خِرَقٌ لتنظيف الدبّابات والمدافع والطائرات. وها هي الشعوبُ اقتتالٌ، والقبائلُ أرزٌّ يُنثَر في المعسكرات. وليس في الأفق إلاّ سيولٌ من اللهب تتفجّر من أتون المذاهب.
وكلّ جمالٍ ملعون.
إنّه الحاضر يرنّ كمثل أجراسٍ ممّا قبلَ النّحاس.
إنه العصر تشنّجٌ لا يلد إلاّ الطُّغاةَ والغُلاةَ والشّتات.
صحيحٌ أنّ الريحَ تهبّ قويّةً، لكن يبدو كأنّها تهبّ دون أن تلامسَ أيّ شيء.
تعبر فوقنا، تعبر فينا، لا تصادف إلاّ الرمادَ والغبار. كأننا اللاشيء في يد الشيء.
وماذا تقدر حلبجة أن تقول لأولئك الذين يقولون:
يكفي لكي تغيّرَ العالمَ،
أن تغيّر ثوبك؟
> يقول عمري خاور: لا يكفي أن يكون لك شكل الإنسان، لكي تكونَ إنساناً.
> قولي داليا، كيف حدث أنّ قمر حلبجة اختبأ مرّةً بين نهدَي امرأةٍ كانت تُحتَضَر
مديرةً وجهها إلى قبّة الكون؟
كيف حدث أنّ الأشياء كلّها كانت تبكي كمثل الأطفال؟
داليا، لا بدّ للمرأة من أن تبتكر اسماً آخر لما يُقال له الواقع، ولما يقال له الوهم.
لا بدّ من أن تصنع سفناً ومراكبَ للحبّ تطلقها دون ربابنةٍ ودون أشرعةٍ في أمواج الحبر واللون.
> كيف أخرج من حلبجة؟
كان الشجر الذي احترق يصنع من رماده بيتاً للعشب.
في كلّ غصنٍ في كلّ شجرة،
شفتان تقرآن، وعينان تبكيان.
ورأيت الأبجدية الكرديّة تتطاير من الأنقاض والأشلاء، حرفاً حرفاً،
وصورةً صورةً،
كمثل ذرّاتٍ من غبارِ الطّلْع.
كلاّ لا تقدر القصيدة أن تقف على الورق لكي تحيي حلبجة.
لتقفْ إذن على جبين العالم.
III – الأمن الأحمر
أبجدية التاريخ مرايا مكسّرة:
قطع زجاج تستغيث –
أطلبوا من العذاب أن يهدهد الطفولة،
أطلبوا من العطر أن يرسم خرائط الورد في أجسام النساء،
أطلبوا من العين أن تتوسّل النهار لكي يكتب تاريخ الليل.
وانظروا – في كلّ زاويةٍ من الأمن الأحمر
سؤالٌ ينعصر العراقُ بين أسنانه.
ممرٌّ رواقٌ تحيط بك، فيما تعبره، قطعُ زجاجٍ – مرايا بعدد الكُردِ الذين أنفلهُمُ
الطغيان:
مئةٌ واثنتان وثمانون ألف قطعة.
في سقفه تتلألأ خمسة آلافٍ من المصابيح بعدد القتلى الذين خلّفهم القصف الكيماويّ.
لم تعد بناية الأمن الأحمر، بفعل هذا الرّواق، مجرّد كهوفٍ تغصّ بأجسامٍ عُلّقت أو صُلِبَت أو مُزّقت. تحوّلت – صارت عملاً فنّيّاً لتمجيد الإنسان، ومنارةً لأخلاق العمل والنّضال.
كان الرواق ممرّاً مفتوحاً على العذاب، وصار اليوم، بفعل الفنّ، رواقاً مفتوحاً على الحريّة. وكلّ ما كان رمزاً للموت أصبح رمزاً للحياة: أدوات التعذيب، زنازينه، مكبِّرات الصوت، أجهزة التَّسجيل الصوتي التي تبثّ أصوات الأطفال والنساء والشيوخ، المدافع والرشاشات، إضافةً إلى هدير الطائرات.
وقال مهندس الرواق: لم يكتمل التسجيل بعد. وسوف توضع في الزوايا تماثيل وهياكل تقول: هوذا الطغيان والبطش، هوذا الدمار والعذاب. هكذا، تدخل الآن إلى بناية الأمن الأحمر، كأنك تدخل إلى بيت للفنّ.
> الكرديّ مبعثرٌ في الآخر (أذلك انتصارٌ أم انكسارٌ؟) سواء كان التاريخ هو الذي يبعثره، أو كانت القوميات والعصبيات والخرائط والسياسات.
> الكرديّ آخرُ لذواتٍ متعددة – عربية، تركية، فارسيّة (أذلك امتلاءٌ أم فراغ؟) كلٌّ منها تحاول أن تنفيه.
لكن أليس نفي الآخر نفياً للذات؟ أليس هذا النفي شكلاً آخر للموت؟
> لكن، ها هو التاريخُ – معموراً بالحبّ والعمل، يغيّر صورة المكان.
IV – ملكندي
ملْكِندي – تَنْبَعِث اصواتٌ من لا مكانٍ من الأمكنة كلّها. خرافُ رعاةٍ يقيمون في الظنّ، تغزل بصوفها الملوَّنِ الأبواب والواجهات. لا إشارة غيرُ قمرٍ لا يُرى، مع أنه يُشير ويتمتم.
خطواتٌ تأتي وتذهب على البلاط والترابِ تُفْلِتُ عُنوةً من براثن الحكمة العتيقة. وبين برج العذراء وبرج السرطان يوزّع الفلك أوراق الحظّ.
كلّ شيء يتدثّر بهباء مشحون بكهرباء اللحظة. أطفالٌ يعرفون كيف يعجنون الطائرات الكيماويّة بغبار أقدامهم، وكيف يرفعون رايات الصخب الذي يرفع راية اللعب. الطعام المفضّل هو دهن الزمن، والزمن مربوطٌ بخيوط تتدلّى من النسيج الأزرق السماويّ.
تكسر الشمس كرسيّها المتنقّل وتسير حافية القدمين. وكلّ شيء يركب قطاره متّجهاً إلى المحطّة الأخيرة: الليل.
ملكندي – أشباحٌ من حلب، أطيافٌ من دمشق كمثل شواهد لقبورٍ تتحرك في الفضاء.
والحركة ابنٌ ينتهي وأبٌ لا نهاية له. وثمّة عطرٌ يرشح من قوارير يباركها إسلام الفقراء. ترى نفسك هنا، وترى ظلالاً لها تلقيها غيوم الوسوسة. وغالباً يغريك جذبٌ سرّيٌّ لكي تحرّك يديك محاولاً أن تلامس طيفاً، أو تمسك بأكمام شبح. وتشعر كأنك الغابر والحاضر في ثوب واحد.
قيصريّة النّقيبِ القِبابُ الأبواب القناطر بساتين ألوان وخطوط. وليست الشوارعُ رجاءً ولا دعاءً. الشوارعُ أعيادٌ للمادّة تأخذك من زقاق إلى آخر، مصغياً إلى جسمك تتحرّك فيه أغصانُ غابةٍ اسمها الغبطة. عطّارون، ساحة الشيخ محمود أو ساحة السراي. كتبٌ يتصدّرها هيغل ونيتشه. وفيما تسأل عن النشر وحقوقه وحريّاته، يتغيّر المشهد: نساءٌ ينتثرن وردةً وردةً.
لكلّ نجمةٍ جدائلُ تتدلّى من حبلٍ غير مرئيّ. للأخت الكبرى، الشمس، خفٌّ أبيض صنعته يدٌ كردية، وبنطالُ جينز صنعته يدٌ أخرى. إجلس أيها الوقت على مقعدٍ، حجريّ أو خشبيّ، أو اجلس على بساطٍ صوفيٍّ أحمر. شهوةٌ هناك في حانوت مستطيلٍ تطوّق بأهدابها وردة الجنس. من حانوت آخرَ مدوّرٍ، تخرج روائح قرفةٍ ويانسون وأنواعٍ أخرى من البهارات والرياحين. سوقٌ تخفق فيها الأقدام كأنها تعجن طينة الأزمنة. صورٌ فوتوغرافية تتلألأ، أو تومئ، أو ترقص. جرائد ومجلات تملأ فراغاً يظلّ فارغاً. السماء مظلاّتٌ مثقوبة، والهواء يتأوّه على طيورٍ قُصَّت أجنحتها. أصواتٌ تبتلعها حناجر الممرّات.
إنها الحياة اليوميّة تحتضن جراحها، تكوّن دروبها وتعيد التكوين. ماءٌ عابسٌ يغيب في ماءٍ ضاحك. خطواتٌ تعثّرت تنبعث في خطواتٍ تثبت وتتقدّم. إنها شهوة الحياة تستوي على عرشها. لا نعم في المطلق، لا كلاّ. يمكن الكلامُ أن يكونَ جرحاً. يمكن الجرح أن يكون أفقاً. ضع رأسك على صدر الشمس. إنها الأبدية في هيئة سروالٍ فضفاض.
V – مقهى الشعب،
(عمر شريف محمد)
يستقبلك صاحب المقهى. مرحّباً كأنه يفتح صدره لاستقبال أحبّائه.
النرد، الدومينو، مثقفون، كتّاب، شعراء، فنّانون، صحافيّون، إعلاميّون، قرّاء.
أوركسترا واحدة وإن اختلفت اللغات.
قيثارٌ بأصواتٍ متعدّدة تتموّج بين المقاعد وفناجين الشاي.
على كلّ مقعد ذاكرةٌ تركت حزنها في العراء، في صدر شجرة أو في عنق يمامة.
يبدو الأمل خيّاطاً يفتق الليل ويرتق النهار. ويبدو الزمن صورةً تتململ منتظرةً معناها
لكي تنطبق عليه.
المقهى أكثر مما هو. مسرحٌ – اسمٌ آخر لفضاء آخر، تنحدر فيه على أدراج الذاكرة
صورٌ للشعراء الكُرد –
بابا طاهر الهمداني، الملاّ أحمد الجزيري، أحمد خاني، ملاّ خضر نامي، سالم، مولوي، الحاج قادر الكويي، مَحوي، بيره مرد حمدي، أحمد مختار، فائق بيكه س، نوري الشيخ صالح، عبدالله كوران، وآخرون ليس شيركو بيكه س آخرهم، فيهم وبهم تتفجر كوامن الطبيعة الكردستانية. فيهم وبهم يُقرَأ الكون بعين الجمال والرغبة والحبّ، أو يُرسَم بحبر الأنفاس.
وتذكّرنا كتّاباً يتحدّثون عن الثقافة كمن يسبحون في الكتب، ويقرأون في الماء.
وكنّا نمزج بين الظلّ والضوء: أيّهما الخبز، أيّهما الملح – فيما نتقاسم الرغيف الأخير الذي كان يخرج آنذاك من تنّور الأمل.
كان الدّخان كمثل شرطيّ يطارد الهواء. وكنت أتغلغل سرّاً في ذلك المقهى الخفيّ داخل المقهى –
رأيت كيف تزرقّ الركب ركوعاً على حصيرة الدقائق،
وكيف تُخرِجُ السماء عناكبها باسم المستقبل، في روايةٍ لبعضهم، لكي تبني بيوتها على وجه الحاضر.
وسمعت من يقول: ينبغي أن نبتكر سماواتٍ أخرى خارج السماء.
أعطنا شاياً يا محمّد وليكن شعبيّاً.
أخرج من المقهى. امرأةٌ عابرة، رجلٌ عابر:
جسمها مليءٌ بالعيون،
جسمه مليء بالطبيعة.
> هل الفراغ توهّمٌ؟ أليست لفظة الفراغ هي نفسها فارغة؟ أحسستُ كأنّ المقهى يطرح عليّ هذين السؤالين. وأجبت في نفسي:
> لا تعَيُّنَ لما لا تراه العين.
> كوابيس جنودٍ وكيمياء ترجّ تقاطيع المقهى.
> يمزج المقهى بين سلطة العمل وفتنة الكسل:
ألهذا لا ينام الكسل
إلاّ في أحضان عملٍ آخر؟
> يقول المقهى:
«أنا المدينة الباحثة عن نفسها أبداً،
وأنا فيها اللغة التي تلهو، لكي لا تلغو».
> إبريق الغيب في المقهى
ينكسر مسكوباً في شاي الواقع.
في المقهى/
وضعنا الموت في قفص، وأطلقنا طيور الحياة.
وقال صوتٌ مفرد:
إن كانت نوافذ المقهى ماكرةً،
فلأنّ الهواء يحتفي دائماً بتنصيب نفسه ملكاً عليها.
*
تلك اللحظة،
دخل التاريخ في الشاي. دخل في ماء الطبيعة، بعد أن كان قد دخل في ماء الحبّ.
تلك اللحظة،
كان التاريخ يتمرّد على عباءة القبيلة، ويحاول أن يصير بيتاً عالياً في مدينة الكون.
تلك اللحظة،
عقد التاريخ حلفه مع الفنّ،
وأخذ يبتكر الأجنحة.
VI – عينكاوا
أزمنةٌ أنظمةٌ شعوبٌ تاريخ أوراق إباداتٌ جيوشٌ
أنهارُ حكمةٍ مضايق برازخ أمثالٌ مواعظ رسومٌ
تماثيلُ هياكل قبابٌ مرايا صروحٌ شواهد
جراحٌ جسورٌ ملحٌ – دمٌ غرفُ قتلٍ تتنقّل بين شرايين التاريخ
كهوفٌ سُمّيت كواكبَ مزامير حدودٌ هِجراتٌ طرقٌ مدائن
منابر خطب أسوارٌ ذاكرة
وما ذلك الأفق الذي يعرجُ
– كأنه لا يزال يتنفّس السراب؟
– هذا كلّه
أجزاء وفواصلُ من مقدّماتٍ
عليكَ أن تتذكّرها فيما تتقدّم نحو عينكاوا.
كنت رأيتُ في أربيل، القلعة – المتحف، كيف تخلق اليد الكرديّة داخل المتحف مُتحَفاً آخرَ لجمالٍ برّيٍّ باهر، بسطاً وثياباً وعباءاتٍ وأشياءَ أخرى فريدة كثيرة ومتنوّعة. وكنت رأيت حديقة سامي عبدالرحمن الذي قتله العنف.
سلّمت فيها على تمثال الجواهريّ، وعلى نحّاته المهاجر سليم عبدالله. سلّمت كذلك على تمثال الشاعرة المؤرّخة مستورة أردلان.
متحفان – واحد في الهواء الطّلق،
وآخرُ حميمٌ،
يتعانقان في بهاءٍ باذخ.
التقيت في عينكاوا أهل الكنيسة وأهل الكتابة – سرياناً كلدانيين وآشوريين. وزرت مركزاً للصابئة المندائيّة.
أدهشني، خصوصاً، فيهم جميعاً أنهم لا يعيشون، لا يفكّرون، لا يكتبون، كما لو أنّ شيئاً لم يكن قبلهم. على العكس:
ما مضى،
ما هو حاضر،
ما سيأتي
وحدةٌ تتلألأ في وجوههم،
وفي كلامهم وفي حضورهم.
إربيل – عينكاوا:
الاختلاف المؤتلف –
السماء غيبٌ للحلم المشتَرَك،
والأرض بيتٌ ومدينة للعقل والعمل،
للجميع دون تمييز.
وخطر لي أن أتساءل: ماذا حدث، ماذا يحدث؟
هل التاريخ رجلٌ نائم، لم يمت، غير أنه لم يعد قادراً أن يستيقظ؟
أم هو امرأةٌ آسرةٌ،
لم يعد يعرف الفجرُ نفسُه أن يتحرّر من أسرها؟
حيّيتُ مار أفرام، وكنت قرأت أحيقارَ في قوله لابن أخته نادِن:
«خيرٌ لك أن يضربكَ الحكيمُ عصيّاً كثيرة، من أن يدهنَك الجاهلُ
بالطّيب».
«إذا وقف الماء دون أرض، أو طار العصفورُ دون جناح، أو ابيضّ الغراب كالثلج، فحينذاك يصير الجاهل حكيماً».
«لا تُطلق الكلمة من فمك حتى تروزها في قلبك، فخيرٌ للرجل أن يعثر في قلبه، من أن يعثرَ في لسانه».
> لماذا بدأت الذاكرة هي نفسها تعلّم القتل؟
لماذا أخذت الذاكرة هي نفسها تمارس القتل؟
> أيّامٌ تحوّم فينا وحولنا
كأنها طيورٌ عمياء.
> أفكارٌ –
جراحٌ عميقةٌ في رأس اللغة.
> بلادٌ كمثل خاتمٍ
في إصبع السماء.
> أفواهٌ مغلقةٌ بسلاسل ليست إلاّ كلمات.
> المطلقُ مسمارٌ ناتئٌ في جبين النسبيّ.
> لماذا تُغلق أيها المرئيّ،
أبوابَك في وجه أخيك اللامرئيّ؟
> ماذا يؤكّد لك أيتها اللغة، أنه لم يعد في ينابيع المعرفة
ماءٌ يكفي لكي يطفئ نيران الجهل؟
> يوماً ستثأر الكلمات من كتّابٍ
حمّلوها أفكاراً لا تليق بالأبجدية.
خرجنا من عينكاوا، ترافقنا موسيقى طالعةٌ من قدّاساتٍ يقودها مار أفرام. قال قدّاس:
يحدث أن تحبّ الوردةُ يداً قدّمت لها الماء،
يحدث أن يقطع الإنسان يداً قدّمت له وردة.
لكن يحدث أيضاً أن يتمرّد الباب على العتبة لكي يستقبل ضيفه الهواء.
وقال قدّاس:
إذا قدرتَ أن تتفيّأ ظلّ الفراشات،
فذلك يعني أنّك قادرٌ أن تطير بأجنحتها.
وسأل قدّاس:
ما اسم هذه الشرارة التي تخرج الآن من تلك الغيمة العربية،
وهل البرق أبٌ لها أو نسيب؟
شرارة تذكّر بذلك المساء عندما غسلت حوّاء نهديها
بضوء هلال في يومه الأوّل.
VII – مثاقفة
> من أين لك القدرة المتواصلة على الكتابة في واقع يلتهم القدرة حتى على التخيّل؟
– أكتب كما لو أنني أمحو عتَباتٍ، وأقتلع أبواباً.
> نعرف أنك تنفر من المكان في هذا الواقع. كيف تسوّغ مأواك فيه؟
– أقيم فيه كأنّي الصاعقة التي ترجّه أبداً.
> قل لنا إذاً أين يطوف عقلك؟
– في الأطراف القصوى، في لُجَج ما يختمر ويتكوّن، بعيداً عمّا يسود ويهيمن.
> وما المكان الذي يُسمّى الوطن؟
– كما يقول الفيلسوف الفرنسي عمانويل ليفيناس:
«الإنسان أكثر قداسةً من الأرض ولو أنها مقدّسة. أمام الهجوم على الإنسان، تبدو هذه الأرض حجارةً وخشباً».
> هل العالم مادّة اسمها الخطأ؟
– حتى لو كان ذلك صحيحاً، فمن الممكن تصحيح هذا العالم بالإنسان ـ هذا الكائن الذي هو نفسه معجون بهذه المادة، وليس هو نفسه إلاّ حفنة من التراب.
في الإنسان سرٌّ فريد هو أنه أبعد من حدود جسمه، وأعلى مما ينجبل منه هذا الجسم، خلافاً للشيء المحدود بما هو، وضمن ما هو. بهذا السرّ يصنع الإنسان نفسه، ويصنع الحضارة، ويغيّر العالم.
> إن كانت له كواكب ومدارات،
فلأنها تنحدر من سلالة جراحه.
> لفرحه عبقريةٌ خاصّة
لا تبتكر، غالباً، إلاّ الحزن.
> البيت يتهدّم –
يحاول غباره أن ينجوَ
طائراً على جناحَي فراشة.
> الحلم في الشعر ماءٌ
وفي الفكر وردةٌ.
> يصعد على سلّم الرّؤيا محفوفاً بالعتمة،
ويهبط مغموراً بالضوء.
> باب اللاشيء
مفتوحٌ دائماً على كلّ شيء.
> سأله الضوء:
«هل تسمع صراخي
عندما أخرج من رحم الشمس؟».
> الذاكرة كتابٌ مفتوح،
إقرأه إن كنت فرِحاً
وأغلِقْه إن كنت حزيناً.
> قال لأقفاله: أنت المحيطات،
وقال لأمواجها: خذي المفاتيح.
> يكتب كمن يزرع وردةً، لغاية واحدة:
أن يلبّي رغبة العطر.
VIII – أنوثة
كان إيقاع قدميه – عَنَيتُ التاريخ، يعلو هانئاً حول صخَب فتياتٍ وفتيانٍ يقتحمون محيطات الرغبة.
زهوٌ آخر أن تفتحَ الأنوثة الكرديّة بيتها لأختها العربيّة، ولأختها السريانيّة ولأختها الصابئيّة المندائيّة.
زهوٌ آخر أن تتلاقى أطراف الأنوثة في العراق كما لو أنها بيتٌ لإيلافِ التعدّديّة العراقيّة، ضمّي إليكِ، إذاً، أيتها الأنوثة جسدَ الفجر، وقولي له أن يرسمَ وجهَك على ذهبِ الوقت.
مثلك أفكر في حياةٍ تؤاخي بين السماء والسرّة، وتجعل من الأرض سريراً للحبّ.
مثلك أقف على شرفة الكون حيث يضطرب القمر تحت أهدابك العاشقة، مثلك، أرى كيف ينسكب الزمن في موسيقى الدمع الذي لا يزال ينسكب حزناً على شقاء العالم، وأرى كيف ترسمين للمستقبل شرفاتٍ تتعانق فيها أطراف الأرض.
وسواءٌ أيتها الأنوثة الكرديّة، فقدت حبيبَك في كهوف الأمن الأحمر، أو في حقول حلبجة أو في قمم الجبال فأنت الوردة التي يتنشّقها الشعراء والعشّاق، وأنتِ الجراحُ التي يتسلّحون بها لمحوِ آلات القتْل.
وكنت رأيتُ في الجامعة قناديلَ ليست إلاّ وجوه فتياتٍ رأيت فيها ما يجمع تقاليدَ الماضي في حقائب تُقذَفُ إلى الفراغ حيث لا مكان إلاّ للفراغ والريح ولذلك الهباء الذكوريّ: ضلع آدم.
IX – عصف
ثمّة بشرٌ لا يزالون يقتلون البشرَ بدرهمٍ يسندُ عمودَ السماء، أو بسيفٍ يطيلُ قامةَ العرش. غيرَ أنهم يفعلون ما يفعلون كأنهم يحرقون الكهرباء بالقشّ، والرّعدَ بالريشة.
أو كأنّهم ينتزعون من قميص الليل أزراره الكوكبية فيما يُطلقون الرصاص على النجمة التي سمّاها الفلَكيّ العربيّ الزُّهرة.
وها هو الاحتمال كمثل ريحٍ عاصفةٍ تزعزع بيتَ الواقع، وتوشك أن تهدمه. من يقدر أن يتنبّأ بنيّة الرّيح؟ من يعرف ماذا تُضمر العاصفة؟
وتلك هي بيضة الزمن مضغوطةٌ دائماً بين الأصابع
ولا مفرّ من أن تنكسر: ما في البيضة غيرُ الإرادة –
الهباءُ للهباء،
والجَذرُ للجَذر
هنا وهنالك
في خطواتٍ على حبل العمل – ممدوداً
فوق هاوية التاريخ.
مَنِ الصديقُ في هذا العَصْفِ الذي يهزّ الخرائط؟
الصحراء واقعٌ، وليست الصخور ألفاظاً، وها هي الأيامُ رياحٌ تتلاقح.
المشهدُ حبرٌ لكلّ افتراضٍ ولكلّ احتمال، –
الهدهدُ ثائرٌ على سيّده،
وليست البومة الحكيمة عمياء.
بَنَتِ العواصفُ منازلَ هدّمتها. كتب الجسدُ نصوصاً مزّقها
وما هذه اللهجاتُ التي تهرول في شفاه الأيام جامحةً بين ثالوث المتوسّط المحيط الهادئ المحيط الأطلسيّ؟
الغسقُ يمجّد براءة الفصول. الفصول تتعثَّر بأشلائها فيما تمجّد براءة الشمس.
صقيع أفكارٍ يتغلغل في خطوات الشوارع. العابرون جراحٌ والزمن شظايا زجاجٍ والعالم سيلّوفان.
ربّما يحقّ لي أن أصغي إلى الأنوثة الكرديّة:
«كلاّ لن أفارقَ الأنوثةَ العربيّة في بغداد، ولن أحتضنَ إلا الضوء وصداقة الضوء».
ربّما يحقّ لي أن أفكر وأرفض أن تكون لي أفكارٌ خواتمُ
ربّما يحقّ لي أن تظلّ أفكاريَ امتحاناً لنفسي وللحياة والواقع.
لكن،
ينهض في مشاع البرازخ تورّمٌ يكسر فرجارَ النّظر ويهجم جالساً على بَرْدَعةِ حصانٍ ذرّيّ. تورّمٌ يتكدّس في طويّة العالم.
خذني إليكَ يا جذرَ السَّوسن، واسطعْ في خلاياي.
اللاّنهاية تستيقظُ في تَداخلٍ ضوئيٍّ مع الأنوثة، وتستبطن جسدي.
أعطني أيّها الصلصالُ، يا ترابَنا الحيَّ، أن أُبَسْتِنَ المسافات،
وأن أخالطَ عنّابَ السّرائر.
الحضورُ فيك فاتحة البصَر،
والغيبُ نرجسُ البصيرة.
X – نيلوفر
بين 14 و24 نيسان (أبريل) 2009
كان لي داخل الليل في السليمانية وإربيلَ ليلٌ آخر، ليلٌ كان يسبقني
دائماً –
يقفز من سريري ويخرج من النافذة
لكي يُمسكَ بزنّار الشمس،
وهي تنهض من سريرها.
كان لي ضوءُ قمَرٍ خفيٍّ يتيح لي أن أقرأ ما كان يكتبه النيلوفر في بحيرةِ الظنِّ، وأن أقرأ كلّ شيء حتّى تجاعيد العشب.
وعندما كان الأفق أمامي يرقص احتفاءً بالنباتاتِ وأريجِها الضائع في الحقول، كان هذا القمر يظهر لي بغمّازتين وشامةٍ على خدّه الأيسر. إنه القمر الذي يعلّم فتنةَ الكشف.
هكذا كنت أتذكّر كيف كانت تمتزج الطبيعة والأرض – الأمّ والسماء نفسها بلغةٍ أمٍّ تتمرّد بها الأنوثة على ضلع آدمَ لكي تتساوى بآدمَ نفسه، ولكي تدعو من جديدٍ نوحاً من أجل أن يعيدَ النظر في هندسة فُلْكِه، وفي وحْلِ طوفانه.
وكانت الكلمات الأولى التي تخرج من شفاه الأشجار والينابيع تتسلّق الجبالَ لكي تتنشّقَ الهواءَ الأوّل قبل وصولها إليّ. وكانت للبشر الذين التقيتهم وجوهٌ يمتزج بعضها بضوءٍ كأنّه الدّمع، ويمتزج بعضها بشررٍ كأنه يتطاير من جمر التاريخ.
وكان يُخَيَّل إليّ أنّ ثمّة صوتاً يسألني:
أنتَ، أيّها المترحّلُ، العارفُ لؤلؤَ المسافات،
أنت أيّها العابر الذي يستمسك بعروة الرّيح،
قلْ لي من أين جِئتَ، ومن تكون؟
الوقتُ إناءٌ ينضح بتاريخٍ يلتهم نفسه، بأشباحٍ لها قرونٌ من الرّمل
وأقدامٌ من الرّيح.
الوقتُ قصَبٌ يعطي سكّرَه للذرَّة، وجذورَه للغيوم.
وقتٌ –
قمَرٌ وشمسٌ في قَرنَي ثورٍ اسود.
كيف يتغيّر الوقت؟
علّقتُ نجمةً على رأسِ نخلةٍ تحيّةً لوردةٍ تسكن في أبديّة العطر.
وسوف أحاول أن أتدبّر أمري، في ما تبقّى:
أعلنت حرباً لا تنتهي بين اللانهاية واللانهائي.
نعم، أيتها اللانهاية،
سأقيم القطيعة مع بشرٍ تتقطّع حبالُ أصواتهم بين شفتَي
تاريخٍ كاذب،
ولن أخلقَ على صورتكِ إلاّ شيئاً واحداً:
الشّعر.
هكذا يُخَيَّل إليّ الآن، كأنني أتحوّل إلى جبلٍ تارةً، وتارةً إلى بحيرة.
وفيما يبكي صفصافُ الذاكرة حول الأنقاض، تهدر حولي، في كلّ مكان،
مياهُ الولادات.
(السّليمانيّة – أربيل – باريس، 14 – 30 نيسان 2009)