جيل دولوز: تأملات في الأدب (الحلقة الثانية)

جيل دولوز
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة: سعيد بوخليط

  سيبقى دولوز في تأملاته المتعددة للنشاط الأدبي، منتبها خاصة للتقنية الاجرائية التي تجعله ممكنا وتعطيه نكهته النوعية.  يستحق انتباه كهذا،  التذكير به سواء من  خلال محاور قوته أو كذا مثيراته العميقة.

إذا كان الأدب بالنسبة إليه، إبداعا لعوالم، فتحديدا لأنه يتبنى دفعة واحدة التقنيات المناسبة التي يظل وفقها لغة أصيلة.  فقط بواسطة بيداغوجية بارعة ويسر، نميز في إطاره العالم الذي أُبدِع ثم الوسائل الإجرائية التي تمكن من بلوغه.  

يستحق المفهوم الدولوزي للنشاط الأدبي اعتباره أساسا مركزيا لكن مع امتياز يُمنح لكيفيات الفعل.  بمعنى ثان، سيتمحور في الغالب على التقنية المبدعة والخلاقة جدا أكثر من الابتذال التيماتيكي أو حمولة المضمون. بل أقول أيضا،  قصد البقاء وفيا لفكره، يحظى امتياز الصنيع الأسلوبي بحمولة تفاضلية، أي ماميز خطة الكتابة ويعكس حرية الكاتب الإبداعية. تميُّز بالأحرى حمولة كهذه، مادامت تعلن عن الوجهة الأساسية للأدب والذي داخله:”وحده الفن ينجح تماما في بلورة ماوقفت الحياة عند حدود التخطيط له فقط”(1).    

 اهتمام دولوز بالأدب، دفعه إلى محاورته بوعي من خلال طرحه السؤال الثنائي :على أي شيء ترتكز هذه الحياة الأخرى، المتواصلة والمتمِّمَة إذا جاز التعبير التي تتجلى في اللغة التي اختلقتها مناسبة من هذا القبيل، ثم كيف يتأتى للغة مقاصدها؟هكذا بالنسبة إليه، يشارك النشاط الأدبي في ماهية ينبغي تعريفها وكذا فعل إجرائي على وجه التحديد.

يلزمنا أن نحترس كي لانتبين هنا مجرد أسئلة أو انشغالات عادية، لأنه  مثلما   سنكتشف، فقد اتسمت عناصر الإجابة التي سيقدمها بأصالة حقيقة. أيضا،  وبقدر كون الأدب حياة ممتدة تنزع نحو ارتقاء موعود به انطلاقا من الحياة الأولية، فإنه سيبقى أساسا صيغة للتحقق البروميثوسي. لذلك، لايكتفي فقط بتحقيق النجاح بخصوص مالم تدركه الحياة سوى بكيفية شحيحة، لكنه ينتج أشكالا جديدة تنتهي غالبا بنسيان كل المخطط المطروح بداية.  

يظل بعمق مجمل مفهوم دولوز للأدب، متشبعا بالحمولة”الحيوية”التي تضمن في الوقت نفسه الطموح اللغوي المبدع وكذا حرية الكاتب المطلقة.  يرتكز النجاح المتواصل بالفن الأدبي (وكذا الفن إجمالا) حسب دولوز على نسيان، سريع تقريبا، لمشروع الحياة المفترض بداية. والحياة أساسا بالنسبة لديه، ليست حياة إلا لكونها مبدعة جدا لحيوية وأشكال، سيهتم النشاط الفني للاهتداء بها نحو صيغة من الوميض المبدع.

في الحقيقة،  تسود مقاربة كهذه، تصوردولوز للنشاط الأدبي :”يكمن عمل الفن المعاصر في مختلف مانريده،  هذا،  ذاك، ثم أيضا هذا، بل تتجلى خاصيته في أن يعكس جلَّ ما نوده،  و امتلاكه تضافر محددات ما نتطلع إليه، خلال اللحظة التي يتحقق فيها الأمر:النتاج الفني المعاصر بمثابة آلة، ويشتغل على هذا المنوال”(2).   

هكذا يتحدد العمل الأدبي بكيفية ثانية ويتحرر، ثم باعتباره مشارِكا في كل المشروع الفني، فلا هاجس له سوى رغبته القصوى،  في تحقيق تآلفه الوظيفي.  يظل تلاحم ديناميته  في الوقت ذاته منطقه وقصديته الجوهريين. بناء على تحرره هذا من كل تيمة أو إقرار اختزالي، يبقى مدعوا إلى تبيان اختياراته الخاصة فيما يتعلق   بالتعبيروالإيضاح. بل تحديدا، لأن العمل الأدبي دينامكي ومتماسك وظيفيا سيخلق عوالم حية بقدر كونها غير مسبوقة. يرتكز، حينئذ قانونه ومبرره الذاتي على استحضاره فقط  لنوع من الدينامية العملية.

حينما يقارن دولوز بكيفية جلية،  العمل الأدبي بآلة،  فقد توخى من خلال  ذلك البحث عن تفكيك ألغازه باعتباره حضورا وتخليصه من كل مرجع سابق استهدف اختزاله عبثا. هكذا وجراء آليته الموضوعية، سيقطع العمل الأدبي فورا مع الالتزامات المزعومة لرابط الحبل السُرِّي، للمؤلف إذا جاز القول. فهذا الأخير، لاتتم قط تسميته، أو على سبيل الاحتمال الشكلي، مادام العمل يبتهج جدا بحريته الوظيفية بدل الاختيار المتسلط تقريبا للعناصر التي تدخل ضمن إعداد العالم الحي الذي يخلقه.

دولوز القوي بمفهوم من هذا القبيل، زايد بالقول:”لماذا هو آلة؟يعتبر فهم العمل الفني على هذا النحو، منتجا بالضرورة، ينتج بعض الحقائق. فقط مارسيل بروست من ركز على الحقيقة التالية :إن الحقيقة  أُنتجت،  بفضل منظومة آلية تشتغل داخلنا، وتستخلص انطلاقا من انطباعاتنا، المحفورة في عمق حياتنا، ثم تكشف عن نفسها بواسطة عمل ما”(3).  

حينما يصف دولوز الأدب بكونه آلة، يتجه الانتباه في  الآن ذاته إلى قدرته الوظيفية وكذا إنتاجيته الموضوعية. تصور يدرج هذا الفيلسوف ضمن سلالة مجازِفة تمتد من كافكا غاية بلانشو مرورا ببارت، وأنا أشير هنا فقط للأسماء الأكثر رمزية التي أبرزت خصائص علاقة بالنشاط الأدبي صادقة  ودون  محاباة. لذلك، ترتكز أصالة مفهوم كهذا  على تفكيك ألغاز الفعل الأدبي وتحريره من ثقل أي مرجعية قائمة سلفا.  يفضي ذلك نحو القول أيضا، أنه يعبر بالنسبة إليه على إرادة إنتاج  ما هو حيّ  وحقيقي بالاعتماد على سلطة وتلاحم”آليَيْن”. لاتوجد أية إشارة تبخيسية بخصوص اعتبار النشاط الأدبي مثل آلة تبدع عوالم، ذات ترابطات مختلفة وحقائق نوعية.

كذلك يستمد هذا المفهوم أصالته من خلال ربط إبداع الحقائق بسلطة آلية، أي جهاز مادي محايد. مقاربة كهذه ليست فقط متفردة، لكنها ثورية بل مدمِّرة أحيانا. لكن يتعلق الأمر، حسب المعنى الدقيق للكلمة،  بتقويض يتمتع بمستوى كبير من الوعي والواقعية.

ينهض الانتاج الأدبي على نظام آلي عند مستويين على الأقل، متكاملين حد تداخلهما :اللغة المستعملة آلة انتظمت سلفا ثم تكفل بها بعد ذلك  انسجام وظيفي يُستعار حسب الاختيارات المقصودة للمؤلف. ينبغي إثارة الانتباه أن دولوز يتوخى تجنب الإلحاح كثيرا فيما يخص هذه القضية، على المنحى السيكولوجي الذي يُظهر مجازفات اللافهم وكذا التجاوزات التأويلية التي نعرفها. لذلك، يبحث عن تخليص المقاربة الأدبية من إرث هيرمينوطيقي يغالي كثيرا في التأويل النفسي ومختزِلا بشكل جائر. أيضا، يركز على هذا الرأي عندما  كتب مايلي:”تتحول  إذن كل القيمة من لحظات طبيعية مُميَّزة  إلى آلة فنية قادرة على إنتاجها أو إعادة إنتاجها،  ثم مضاعفتها :الكِتاب”(4).   

  حينئذ، تنهض كل القيمة على التحول الذي يحدث للعناصر السيكولوجية داخل جسد اللغة جراء تناولها بفضل دراية الكاتب التقنية، والآلياتية. هكذا يُفهم الأدب باعتباره هذا الانتقال المنتج، والمنتج ثانية، والمضاعِف لآثار وأحاسيس. فالكتاب، باعتباره نتيجة عملية،  هو أجمل برهان على هذا الانتقال المضاعِف، وخاصة المنتج التحويلي.

مرة أخرى، يلح دولوزعلى المظهر العملي والخالق لحقائق جديدة بفضل ديناميكية اللغة أساسا. الأخيرة باعتبارها، ثنائية وسيمولاكر، تضيف إلى الكثافة الأصيلة جدا للعالم المتجلي إبداعيا. بحيث يتعلق الأمر هنا، و بلا شك، بعملية غير بديهية،  لذلك تثير دائما أسئلة حول صحتها الاستكشافية. يعود إذن السؤال للاستفسار ثانية بوضوح عن طبيعة هذا الإنتاج، وعلى ماذا يرتكز في العمق هذا الانتقال المبدع.

في هذا الإطار، تبنى دولوز توضيحا انطوي على حمولة استثنائية: “إنه لفهم خاطئ، بل وعدم استيعاب لعبقرية بلزاك، إن اعتقدنا بأن الأخير امتلك سلفا فكرة منطقية واسعة عن وحدة الكوميديا الإنسانية، أو أيضا هي وحدة تتحقق عضويا ضمن إطار سيرورة العمل. في الحقيقة، تأتت الوحدة، واكتشفها بلزاك مثل أثر لكتبه”(5).  

 عملية التحديد مهمة لأنها تمكن من تجنب معطيات سوء الفهم الكبرى لاسيما فيما يخص العلاقات الجوهرية بين الكاتب وعمله. في الواقع،  لا ينبثق الأخير جاهزا تماما من رأس الكاتب، مثل انبعاث سحري.  ولايعتبركذلك جاهز سلفا،  قبل تبلوره هنا مثل تتويج  يُقبل بكيفية متعددة. حقيقة الأدب بالمعنى الدقيق للكلمة، لم ”يكتشفها”الكاتب نفسه إلا نتيجة إحالات تأثيرات مابعدية.  بعد ذلك يقدم الأدب نفسه مثلما هو.

هكذا يساهم دولوز تحديدا في تفكيك ألغاز عمل الكاتب ويطرح ثانية  للنقاش  بكيفية ثاقبة مايسمى بإرادته الخلاقة. يكتشف الكاتب عمله، في اللحظة التي يفترض خلالها تحقق اكتماله. وضعية كهذه تجسد فعلا مانسميه اليوم، بإصرار”علاقة الغرابة”التي تعيشها علاقة الكاتب مع منجزه، بحيث نجد لدى بلانشو(6) توضيحات مقنعة  بهذا الخصوص.

من هنا، ندرك بأن اكتمال نص وإغلاق دفتيه لايمثل إحدى خصائصه الداخلية،  بل يستمر أساسا غير ناجز وبهذا المعنى يعتبر النص منتجا للآثار.  وجهته الأساسية إذن، هذا الانفتاح الجوهري والذي يظل في إطاره القطب المنتج والمضاعِف للآثار.

انطلاقا من مختلف تلك الاعتبارات، لايتوقف دولوز عن التذكير بأنه من المهم في الأدب، عدم إغفال النظرعن طبيعة وحمولة اللغة قدر كونها منتجة للآثار.  يقوم إذن مجال للتساؤل باستمرارعن هذه الإشكالية و إرخاء السمع إلى الإشارة المهمة التالية: “إنها الوقائع من يجعل اللغة ممكنة. غير أن ذلك لايعني قط البدء. بحيث نبدأ ضمن نظام الكلام، وليس مع نظام اللغة، حيث ينبغي أن يتم تقديم كل شيء في ذات الآن دفعة واحدة”(7).

النشاط الأدبي بالنسبة لدولوز، غير ممكن على المستوى الديناميكي، سوى لأن الوقائع المختارة، التي يلزم التعبير عنها، تنعش اللغة بشكل من الأشكال.  تشتغل تلك الوقائع كما لو أنها محفزات حقيقية توقظ وظيفة اللغة وفق المعنى المرغوب. بهذا الخصوص، تبنى دولوز تمييزا مضيئا بشكل قوي بين اللغة والكلام. يعتقد بأن الأدب بمثابة الكلام الذي يأخذه الكاتب من جسد اللغة العام. بل يعتبر بداية  الكلام تلك منطلقا  ينتقل باللغة العامة نحو أخرى نوعية أكثر، تتسم تحديدا بصبغة أدبية. ثم يشتغل هذا الكلام المفارِق، مثل علامة تجارية تؤشر على لغة تعتبر مجهولة لكنها ببساطة أداتية.

في هذا الإطار، نتلمس أيضا لدى دولوز، تطلعا للقطع مع الاغواء السيكولوجي الذي ينصب اهتمامه على إرجاع توظيف الكاتب للغة، إلى هواجس بيوغرافية وكذا  صراعات نفسية. بالنسبة إليه، ومنذ كتابه ”منطق المعنى”، نحدس سعيا ضمنيا كي يسائل ثانية التقليد التأويلي للتحليل النفسي مثلما سيعمل فيما بعد كتابه الآخر”ضد أوديب”على تفنيده.  لكن ونحن ننتظر التقويض الفعلي، فقد فكر دولوز سلفا في أن الأدب غير ممكن إلا بواسطة اللغة الأخرى التي يستقيها ويخلقها انطلاقا من لغة تتسيد المشهد افتراضيا فقط.

 إذن الأدب في نظر دولوز، هذا الانتقال إلى الكلام الخالق والمبدع، انطلاقا من  تعهد فضفاض للغة. ويبقى متميزا بهذا التزامن الاستثنائي الذي يتناول الكاتب عبره الكلام ويخلق لغة جديدة انطلاقا من المتداولة افتراضيا لدى الجميع.

يسمح دولوز، بناء على هذه التمييزات والتحذيرات، باستلهام مفهوم للنشاط الأدبي أكثر دقة يلح على جعلنا نستشف بطريقة مختلفة ومنتظمة، لغة جاهزة لكنها تحتاج إلى من يثيرها. إنه لايستبعد أبدا، وفق هذا النهج، نصيب الكاتب الذي يبقى رغم كل شيء إجرائيا. وقصد التعبيرعن إيحائه،  بشكل أفضل، يعمد دولوز إلى مفهوم الجسد الأثير لديه :”إن كانت الأجساد تحاكي اللغة، فليس من خلال الأعضاء، بل الانحناءات. أيضا، هل يكمن تماما داخل اللغة عرض إيمائي، مثل خطاب، سرد داخل الجسد. إذا تكلمت الإشارات، فلأن الكلمات تقلِّد الإشارات “(8).   

بتوضيحات كهذه، نكتسب بشكل أفضل معلومات تهم النشاط الأدبي عند دولوز، بالنسبة إليه، تستحق اللغة الداعمة لهذا النشاط، أن تُتناول كنوع من الدينامية الإشارية التي تعمل انطلاقا من ذخيرة ضخمة بقيت فاترة تعبيريا. تتأتى ميزة اللغة الأدبية تحديدا من التباعدات التفاضلية التي تحققها انطلاقا من لغة عامة، تماما كالجسد يخلق تعبيراته الخاصة التي لاتختلط أبدا مع أعضائه.

يحدث كل شيء، في العمق، كما لو أن النشاط الأدبي يجسد في الوقت نفسه الإيمائي والاشاري الأصليين للكلمات. سيكون إذن باستمرار، لغة تأتى خلقها وإبداعها انطلاقا مما يوجد.  ينبغي بالأحرى تأملها كما هي،  بحيث تستمد انطلاقتها من لغة  تعتبر ذاتها الأكثر استثنائية ضمن السيمولاكرات. يجدر التذكير، بهذا الخصوص، أن دولوز ينظر بإعجاب إلى المهارة الفلسفية للفلاسفة الإغريق السابقين عن سقراط والذين تمثلوا مفهوم السيمولاكر باعتباره جوهريا من أجل تحقيق الفهم اللغوي.

بالتأكيد، يمكننا وفق سياق هذا المنظور، تسليط الضوء من خلال مفهوم دولوز للنشاط الأدبي، على شكل من الكراتيلية cratylisme المبدعة التي تجسد واحدة من مكوناته الجوهرية.  لذلك، بدون شك، لايتوقف دولوز عن مقاربة كل نشاط فني ومعه الأدب، باعتباره فضاء خيال لاينضب دون عقبات، لعوالم من السيمولاكرات  المتجددة باستمرار.  

إذن، يشتغل الكاتب واضعا في آن واحد لغة تنجح مزيجا استثنائيا بين الكلمات والإشارات.  يمنح خليط كهذا الحيز، في كل مرة، إلى نوع من الجسد الجديد الذي صنعته لغة ثاقبة.  ولأن دولوز يمنح انتباها خاصا لإبداع اللغة الآلي وكذا عالم جديد لدى الكاتب، سيبعث نتيجة ذلك بمخزونات مضيئة تهم القيمة التيماتيكية للعمل.  ويذكر بذلك جيدا، حين قوله:”من العبث مطلقا أن نحصي تيمة لدى كاتب معين إذا لم نتساءل  تحديدا عن أهميتها في عمله، وبالضبط كيفية اشتغالها وليس ”معناها” “(9).  

بالتالي، ليس حضور التيمة في العمل، من يعتبر جوهريا أو حاسما بخصوص المادة الإبداعية، لكن بالأولى ديناميتها وكذا ملاءمتها الوظيفية. في الواقع، لايماثل ابتذالا حضور تيمة بين طيات عمل أدبي،  لكن في المقابل لاشيئ يفوق إبداعيتها حين اشتغالها ضمن سياق فضائها الخاص؟بمثل هذا التمييز، يبتعد دولوز مرة أخرى عن السعي السيكولوجي، الذي يكرس اهتمامه استثنائيا حول تواتر موضوعة دون الانشغال بديناميتها النوعية داخل العمل.

يشكل هذا التمحور بالنسبة لدولوز، في الآن ذاته، تحصيل حاصل واختزال ضمن نطاق كونه يرجع إلزاميا وبتكلّف أحيانا، التيمة المتوخاة إلى تعليلات بيوغرافية ونزاعية مكبوتة. الاهتمام فقط بتواتر تيمة بين فقرات عمل يبعد الاهتمامات الأدبية، لكنه مع ذلك يركز ضمنيا الاشتغال على وظيفتها الأولية التي نهتدي إليها ثانية بفضل تلك التيمة. هذا الجانب الأخير، يلهم العمل الحياة بمعناها الحقيقي ويبرز حمولته الإبداعية. يتجلى هنا، الهاجس المثير والمؤسس لسمو العمل. هكذا، يحدث لديه، الانتقال المدهش للحيوي الأكثر سلاسة صوب انبثاق إبداعية دؤوبة :”حينئذ يتبدى، مايشكل الهدف النهائي للحياة، بحيث لايمكن للحياة أن تتحقق بذاتها”(10).  فلن يكون إذن النشاط الأدبي مجرد نسخة مصغرة أو مزخرفة عن الحياة. أيضا لن يتأتى قط، باعتباره مجرد انعكاس هادئ، بل كتجاوز خلاق.

لايستحضر دولوز ولا يتجه تفكيره، نحو تثمين مايسميه بحيوية الأدب إلا بناء على هذا الشرط.  بالتالي، أيّ نشاط نصي يلغي هذا المعطى الأخير من حسبانه، يقوده  أولا واخيرا، إلى التخلف عن موعد نزوعه الأدبي. ولكي يستحق ذاته، يلزم الأدب إبداع سيمولاكرات مجازفة من الحياة البسيطة،  ثم الدفع بالحس الابداعي غاية تعكير صفوها(11).    

في نطاق كون النشاط  الأدبي إجرائيا بالضرورة، بمعنى يخلق تقنيات إبداع ثرية لسيمولاكرات جديدة، فمن المنطقي ملاحظة اهتمام دولوز بمقدراته الأداتية. بالنسبة إليه وفق سياق هذا المنظور، لاتبدع الآلة الأدبية عوالم جديدة وتنتظم حسب انسجام داخلي إلا من خلال  إبراز دائم،  لما نسميه بالأساليب.

ف”الأسلوب”عند دولوز، ليس مجرد قضية خيال بلاغي، لكن أيضا الذكاء المبدع، لديناميات حيوية وإجرائية تبلورت للمرة الأولى. يقول بهذا الخصوص:”الفن بمثابة تحول حقيقي للمادة. تصير معه المادة مفعمة بالروحانية، وتفقد الفضاءات المادية، بعدها الحسي، وتغير اتجاهها نحو الماهية، بمعنى خاصية عالم أصيل. وتتم هذه المعالجة للمادة خلال ذات الآن مع “الأسلوب” “(12).   

مثلما يمكننا معاينة ذلك بسهولة،  فقد أعطيت الأهمية لطريقة معالجة المادة اللغوية بغاية الوصول إلى خلق عالم جديد تماما. بناء عليه، سيظل الأدب تحققا، بمعنى مشروعا إجرائيا. هكذا تتبلور تدريجيا مادة العالم الناشئ. يجدر هنا أن نأخذ علما ونسلط الضوء بتحفظ على التناقض المبدع للنشاط الأدبي حسب دولوز.

فعلا، وبالنسبة إليه، تتأتى تدريجيا ومثل ”مفعول” أسلوب، مسألة تقييم المادة، التي يبدعها الكاتب. مادة غير معطاة سلفا، قبل الكتابة، حتى يتم تشكيلها بعد ذلك. هذه الطريقة في التصور، وهمية وغير قادرة خلال الوقت نفسه على المساعدة من أجل فهم خاصية الممارسة الأدبية. إنها مستندة على نوع من التزامن تمنح خلاله مادة عالما ثم كيفية تقديمه والكشف عنه.

لكن عبر هذا التزامن المتعلق بنشأة الكون، يخص دولوز الأسلوب بنوع من الامتياز باعتباره صيغة إجرائية وتفاضلية. هكذا يتفاوت الكتَّاب. فمن خلال هذا المفهوم وبفضله، أمكن المفهوم الدولوزي معالجة جانب كبير، من تناقض العلاقات الكلاسيكية في الأدب بين المادة والكيفية.  

لايتوقف دولوز، المتشبع بثقابة الفكر الفلسفي، عن مقاربة الإنتاج الأدبي كنشأة كونية حقيقية، مع تركيزه باستمرار على ديناميته الدائمة غير المكتملة، أكثر من التفاته إلى تلك النتائج الجاهزة أو الكسولة. فمن خلال هذا المنظور يولي انتباها خاصا إلى مفهوم الماهية:”إن ماهية بمثابة ولادة دائمة للعالم، أما الأسلوب فتلك النشأة  التي نعثرعليها ثانية في مواد مطابقة لماهيات، تصيرهذه الولادة تحولا للأشياء. ليس الاسلوب هو الرجل، بل الماهية نفسها”. (13)

يشتغل الأسلوب على طريقة إيقاظ العالم بحيث ينفصل عن مادة  مبتذلة وتافهة قصد الوصول إلى تفرد حقيقي. يعتبر خلال الوقت نفسه تقنيا يؤثر في المادة اللغوية والمتخيَّلة، والنتيجة مكتسبة. يصبح الأسلوب نهجا مبدعا ومؤسِّسا في نطاق كونه يخلق العالم ويعمل على صيانته. هكذا تكتسب الممارسة الأدبية أصالتها عند دولوز والذي  يمثل بالنسبة إليه،  نشأة كونية دائمة وسرمدية.

الماهية المطروحة هنا للنقاش لاعلاقة لها ببعض الأفكار الأفلاطونية ولا نمط مثالي يتعذر تجاوزه، مثلما يؤكد دولوز بكيفية مفيدة:”فلأن الماهية اختلاف في ذاتها. لكن ليس لها قدرة التنويع والتنوع، دون امتلاكها أيضا القدرة على أن تتكرر، مماثلة لذاتها”(14).  يتسم تذكير من هذا القبيل، بأنه يبرز سمة أخرى تؤسس النشاط الأدبي عبر الأصالة الأسلوبية التي تجعله ممكنا.

بالفعل، تعكس الماهية في الأدب خاصية مثيرة بأن تكون متحركة وغير جامدة قطعا. إنها الفضاء الذي يكون بحسبه الاختلاف مكوِّنا جوهريا لهذا الاستمرار المتطور. كما نلاحظ،  يستند دولوز، غاية الآن، على مرجعية قاموس فلسفي، متحفظ ومتكلف حين توخيه إدراك الميزة الحقيقية للممارسة الأدبية. تبقى الأخيرة بالنسبة إليه، ذاك النموذج للكتابة المبدعة التي تحدث انقلابا في ماهيات الواقع المفترضة وإدراجها فورا ضمن تعدد ينبني على التفاضل.

نتيجة تهتدي بنا إلى القول، بأن الماهية الأدبية حسب تصوردولوز، تكشف  عن نفسها من خلال قدرتها على استساغة وكذا استيعاب التغير والتنوع. كل لحظة  تخلقها بالنسبة إلى العالم،  وتضفي عليها مشهدا بفضل إجرائية أسلوب، تعتبر ماهية انتصرت قياسا لحياد المادة الفاتر. اللغة وحدها، تبقى غير مبدعة، بل مجرد افتراض تعبيري يلتمس في الوقت ذاته الإغواء وأن يُفسح المجال أمامه. مع الإشارة إلى أن تلك الماهية تضمر قدرة تفاضلية ومتنوعة، فإنها لاتنتزع منه أية خاصية. يتم كل شيء في هذا الاطار كما لو أن الماهية تمسك كثيرا بسفينة أرغو Argoبحيث تتغير مختلف قطعها ثم تبقى في ظل كل ذلك مماثلة لهويتها. الأمر الذي يقود إلى  الإعلان الرائع التالي: “ماذا بوسعنا فعله بالماهية، التي هي الاختلاف الأخير، سوى تكرارها، لأنه من غير الممكن استبدالها ثم لاشيء بوسعه الحلول محلها؟لذلك فقطعة موسيقية عظيمة لايمكنها إلا أن تُعزف ثانية،  وقصيدة تُستظهر عن ظهر قلب وتُنشد. لايتعارض الاختلاف والتكرار سوى مظهريا”(15).

تتوخى القيمة المباشرة لمفهوم كهذا المحافظة في الوقت ذاته على الخاصية الوحيدة للماهية ثم جعلها تنفتح على تكرار لانهائي. إذا كان الفضاء الذي يشتغل بحسبه النشاط الأدبي على هذا النحو، فمن اللازم التذكير بأنه لايتعرض لأي اختزال، عكس ماتوحي به المظاهر. فعلا، لايُستنفذ أبدا التكرار هنا نتيجة تضمينات  حشو غير مجدي أو يفتقد إلى نطاق، لكنه ينزع أساسا نحو انفتاح العالم الذي تم  إبداعه على تعدد داعم.  

يتجلى تأثر دولوز خاصة بالحمولة الممتعة للنشاط الأدبي، والذي بقدر مايعطي انطباعا أوليا بكونه يتكرر، يتيح أيضا باستمرار رؤية شيء جديد. يكمن هنا  تناقض واضح، لكنه مع ذلك يعكس تأسيسا في غاية الكمال، أدبيا وكذا فلسفيا. ولكي نتناول بشكل أفضل نفاذ تناقض كهذا في الأدب، يجدر التذكير حسب دولوز بأنه يتحقق كليا ضمن جسد اللغة باعتباره سيمولاكر أخير. بمعنى آخر، إذا وجب على الكاتب توظيف لغة من هذا الصنف، فلن يبقى من خيار ثان أمامه سوى تكرارها، ثم أن يقولها بكيفية مغايرة. بالتالي، يموضع تدريجيا أسلوبا خاصا، بمعنى يستعيد حينئذ اللغة إبداعيا.

إذا كان الأسلوب عموما، مثل الفن، نشاطا يتوخى جعل المادة “روحانية”، فإنه يفسح المجال كي نرى إلى أي حد يستمر هامش الإبداعية والخيال شاسعا بالنسبة للكاتب. تعتبر اللغة الملتمَسَة لديه، هائلة، لاتنضب ثم لغة دقيقة في الوقت نفسه. ضمن فضاء إكراه كهذا، سيشتغل بطريقته الخاصة، أي أنه يتطلع إلى المتفرد انطلاقا من  لغة محايدة ومبتذلة. ضمن هذا السياق، يلزم استحضار اسم رولان بارت، الذي ارتكز لديه  عمل الناقد – يعتبر أيضا كاتبا حسب طريقته- على إضافته اللغة إلى مجال العمل الذي هو بصدد تقييمه.   

مثلما يمكننا ملاحظة ذلك، تساعد حقا تأملات دولوز في الأسلوب، على تمثل    إحاطة جيدة بخصوص مفهومه للأدب عموما. ليس فقط الأسلوب بالنسبة إليه، تلك الكيفية المتسامية روحيا بمادة لغوية مبتذلة، لكنه أيضا العلامة المختلفة، والمميزة لإبداعية الكاتب. لكن، هل ينبغي التذكير، بأن عمل هذا الكاتب لن يتجاوز فضاء الرغبة المتكررة. في الواقع :”لايشيخ الفنان أبدا لأنه يكرر ذاته؛فالتكرارقوة الاختلاف، ثم الاختلاف قدرة للتكرار”(16).  

التكرار لدى دولوز قدرة، وإبداعا لعتبات أخرى مفارقة تعتبر خالقة حقيقية للغة وعالم أصيليين. إذن، الكاتب لحظة تكرِّره، يبدع الجديد ويكرس سمعته. يتعلق الأمر، في هذا الاطار، باقتياد اللغة نحو تحمل الوزن الجديد لرغبة الكاتب المبدعة. مع أنه يشتغل بين طيات فضاء لغة تقررت سلفا، يكررها لكن مع نزوعه بها صوب آفاق أخرى. ينطوي هذا المفهوم للتكرار وقدرته الأسلوبية والإبداعية، على خلفية انسياب هيراقليطيسي. بالتالي، مع أننا لانستحم قط مرتين في نفس النهر، نحتفظ رغم ذلك من  الاستحمام تكرارا، تمثل تحديدا حمولته المبهجة، الفعل الجديد المبحوث عنه.

إذا كانت الكتابة الأدبية واعدة إبداعيا، فلأنها استساغت فورا صيغة وضع راهن للغة، تعمل لصالح تجدد شبابها الإبداعي،  بفضل تكرار تعبيري يتجه الأسلوب نحو التسامي به روحيا. يشتغل الكاتب على ذلك،  مكررا المادة اللغوية، ضمن الإطار الضيق الذي تبقى له، لكن يعرف تحولا.    

……………………….

*هوامش : 

Proust et les signes ; page:70. – 1

2-Proust et les signes;page:173.

3-  Proust et Les signes ; page:176;

4-Proust et Les signes ; page187.

5- نفسه (ص197)،  نتأمل ضمن نفس السياق الإشارة التالية:”تسبق الصياغة المنصوص عليه، ليس تبعا لذات تنتج ذلك، لكن حسب ترتيب يجعل من هذا جهازه الأول، ارتباطا بالأجهزة الأخرى التالية،  بحيث تتموضع الواحدة بعد الأخرى”(كافكا ص 152).

6-يمكننا بهذا الخصوص الاستفادة، بالرجوع  إلى صفحات كتاب كلود ليفيسك:

 غرابة النص(1978)

-logique du Sens; page 212. 7

8-ibid;page;332.

9-Kafka;page;83.

10- استشهد دولوزبمارسيل بروست الذي كتب :”يمكننا بواسطة الفن  الخروج من ذواتنا، ثم إدراك مايراه الآخر في هذا العالم المغاير لعالمنا حيث تظل مناظره مجهولة بالنسبة لنا مثل التي نراها في القمر. بفضل الفن، وعوض أن نرى  عالما واحدا يتمثل في عالمنا، نراه يتضاعف، وبقدر وجود فنانين مبتكِرِين، بقدر مايكون تحت تصرفنا عوالم، أكثر اختلافا عن بعضها البعض تنساب نحو اللانهائي”(نفسه ص 194)

11-يقول دولوز:”ليس الفنان فقط بمثابة مريض وطبيب الحضارة، بل أيضا شيطانها”(منطق المعنى: ص 278).  

12-Proust et les signes;page61.

13:Ibid;page;62.

14:Ibid;page;62.

15-ibid;pp:62-63.

16:Ibid; page;63.

 

  

       

مقالات من نفس القسم