“لكنني عشت حياتي طولاً وعرضاً، امتهنت جسدي، والقيت بنفسي في حرائق النشوة وجنات المخدر، وحفلات المجون، دون أن أفكر إلا في اللحظة التي أعيشها.
هذه مشاهد ولقطات من رواية “جنية في قارورة” التي كتبها الكاتب المصري ابراهيم فرغلي، وهو أحد كتاب التسعينات في مصر، وبها يستكمل مشروعه الروائي الذي يحاول فيه مزج الواقع بالأسطورة. كما فعل في رواية “ابتسامة القديسين” ورواية “كهف الفراشات” كما يستكمل مشروعاً موازياً. بدأه في كتابيه “باتجاه المآقي” و”أشباح الحواس” يهتم فيه بتأثير تغيرات القيم على العلاقات المسكون عنها في المجتمع العربي.
في هذه الرواية “جنية في قارورة” نجد صوت حنين الشابة التي كانت ثمرة زواج رجل وامرأة من دينين مختلفين، اختفت الأم ومات الأب، وعادت الابنة من فرنسا حيث عاشت حياتها الى القاهرة، والمنصورة في وسط الدلتا تبحث عن جذور قصة والديها، وهي في نفس الوقت قصة بحثها عن نفسها وتشوشها بين هويات لم تصنعها. ويعود شبح “عماد” الذي كان الصوت الأساسي في رواية فرغلي “ابتسامات القديسين مرة أخرى ليساعد حنين في فهم تاريخ العائلة.
بين موت الأب وفقد الأم تعيش حنين حياتها الصاخبة، المتحررة من العقد والتقاليد، اذ امتصت اسلوب الحياة في باريس فبدت لها مصر وخصوصاً الريف المصري مختلفاً عشرات السنين إلى الوراء، وزاده الحجاب تراجعاً أكثر في الحياة الاجتماعية، ومع مثابرة دراستها لأوضاع المجتمع هناك تكتشف ان الحجاب ليس حصانة للفتاة إذا أرادت ان تتعرف بشاب وتغازله وتلامسه، حتى ان احدى الفتيات لم تكن مؤمنة بالحجاب، وهي تحجبت لأن كل فتيات البلدة تحجبن، وانها مضطرة ان تساير المجتمع وتضحك نسرين وهي تضع يدها على شفتيها: “ما فيش حاجة با بنتي.. أنا لقيت كل اللي حوالي لابسين الحجاب، واخلص من المطاردات والالحاح. لأني كمان بدأت أحس اني بعد شوية هابقى الوحيدة اللي ماشيه من غير حجاب، وهو برضه آخذ ثواب“.
تعاني حنين من مشاكل المجتمع الريفي في مصر وتجد نفسها غريبة عنه بل في بعض الأحيان عندما يواجهها علي نافراً “كيف تقيمين علاقة مع يهودي فرنسي؟” وتفاجأ، علي نفسه أقام علاقات مع بنات أجنبيات… فما هو الفرق بينها وبينه، ولم يخطر ببال حنين أن علي يرى في اليهودي عدواً احتل فلسطين.
لا يذهب خيال الأم من ذاكرة حنين وتوقها لأن تراها وتتذكر في طفولتها ما كان يدور بينهما من “فلسفة” روحية عفوية “لكن… ما ذنبي أنا يا ماما؟ أنا المعجونة بكل شرورها وتعقد ارواحها الشريرة، مدفونة بين ركام من أشباه البشر يشّح فيه الأسوياء، أما الضعفاء فهم كثر، تكادين لا تميزينهم من فرط وفرتهم: منهم من يكشر عن أنيابه حقداً وجشعاً وانانيه، ومنهم من يلوذ بأمراض النفس والروح ليعذّب كل من يربت عليه بدلاً من ان يستجيب لموجات الروح التي لا تريد إلا انقاذ نفوسهم المتعبة من التعاسة…
وتشعر حنين انها في متاهة، متاهة يتعس فيها البشر لاسباب يردونها إلى السماء “لذلك أكره السماء… السماء التي حرمتني إياك والتي أخلّت بمقادير الكيمياء في العقول فصار أصحابها يهذون، ويبتزون العالم من حولهم، يستجدون شفقته ليبرروا لأنفسهم أنانيتهم، وأوجدت أغبياء يملأون الأرض بالحجج لتبرير غيابك بإسم السماء“.
وتنتقد حنين نفسها بقسوة محاولة تبرير طيشها الذي اندفعت نحوه بجنون “جنية في قارورة” وسرعان ما تستعيد روحها: “لكني عدت الى صوابي، أدركت ان مرارة الروح هذه مشترك انساني عام وأعادني كتاب “اللاطمأنينة، الى نوع من الاتزان، أصبحت الآن مثل ذكرى غائمة عندما أستعيدها لا أشعر انني كنت بطلتها، وكأنها كانت تحدث لصديقة أو لشخصية عابرة حكت لي مثل هذه الترهات لأنها كانت تعرف أننا لن نلتقي بعد ذلك أبداً“.
في القسم الثاني من الرواية (وهي في أربعة أقسام وعدد صفحاتها 118 صفحة). تدخل الفانتازيا ويختلط الرواة بين عادل الذي يريد حماية حنين من طيشها ويقودها في النهاية إلى مكان أمها، حيث تحدث الصدمة عندما تجد أمها قد أصبحت راهبة في كنيسة، فتحقد عليها لأنها تخلت عن أبيها. ونجده يقول: لست مخولاً لانقاذ أحد من مصيره، لكن الهدف الوحيد لي هنا أصبح قريباً أكثر مما كنت أظن” هنا تتجلى قيمة الزمن في اعطاء الفرصة للأفكار أن تتجلى. وتجلو من على سطحها غبار الزمن، لكي تتوهج بنور المعرفة، ذلك الوهج، والاحساس بالخفة. والسمو من قدر المعرفة. تماماً كما شعرت في اللحظات التي فصلت بين حياتي الأولى ومغادرتي قيود الجسد.
هكذا، لو أن وصول حنين إلى ما يجب أن تصل اليه، حدث في غير زمانه، لربما كان أثر ذلك مروعاً على الجميع، وأنا أكثر من يدرك هنا قيمة الصبر، ومعناه في الادراك الحقيقي لمعنى الزمن، ارى علامات عدة، وتلحق بي اشارات، ولا أستطيع حيال ذلك شيئاً.
كانت تجربة “حنين” المتفرنسة مع علي المصري التقليدي ممزوجة بالاختلافات المتوقعة، وان كانت بالنسبة لها مستبعدة، فعندما شعرت انها بدأت تتعلق به، وباللفتات الرومانسية التي اثرت بشكل عميق كانت تفكر انها، بمرور الوقت، ستتماهى بشخصيته، وستكتسب الكثير من الجوانب الشرقية، ويحدث له العكس، أي ان يصبح هو غريباً أكثر. كانت تعتقد أن عمق العلاقة سيكون له تأثير كهذا، ولكن يبدو أنها كانت تحلم.
كانت التجربة مهمة، خرجت منها بقرار ألا تقع بغرام أنصاف التقليديين أو المنفتحين. هؤلاء الذين لم يتخلصوا بعد من إرثهم الثقيل. واوهام امتلاك الانثى: عقلها وجسدها معاً. وكان قرارها التالي العودة إلى شخصيتها الفرنسية. ولم تعد تتحدث مع علي الا باللغة الفرنسية.
إن آفاق هذه الرواية القصيرة الجميلة، متسعة ومتفرغة لأكثر من موضوع: حرية المرأة واحترامها لنفسها. الصراع الأبدي بين الغرب المتفتح (المتفسخ) والشرق التقليدي المنضبط اخلاقياً ودينياً… الى عدد من المتفرعات صاغها ابراهيم فرغلي ببراعة الروائي الجيد داخلاً إلى عمق النفس الانسانية. وتخبطها أمام عالم ظالم وقاس لا يتيح للمرء ان يعيش حياته كما وهبها الله له، بل تقييده بقوانين قاسية وعبودية والانحدار به الى سوداوية لا مهرب منها.