جنية في قارورة لإبراهيم فرغلي تضع يدها على حدود غير منظورة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لبنى الأمين*

بعيداً من الطابع السحري او الاكزوتيكي الذي يمكن ان يحيل عليه عنوان مثل "جنية في قارورة"، يلجأ المصري ابراهيم فرغلي في روايته الصادرة اخيراً لدى "دار العين" في القاهرة، الى كتابة تحاول رصد تفاعل الواقع المجتمعي المصري مع بعض ما يطرحه العالم المعاصر من اشكاليات ترغم الافراد على اعادة بلورة مفاهيمهم ومنظوماتهم الاخلاقية والنفسية والعاطفية. في زمن العولمة وانتفاء الحدود بين البلدان والمجتمعات والافراد، يضع فرغلي يده على حدود غير منظورة تتحكم بأفكار الأفراد وعاداتهم وسلوكياتهم، متسببةً بشرخ هائل وفصام قاسٍ بين ما يعلنونه من افكار تحررية وعيش يحاكي الذهنية الغربية، وما هو راسخ ومتجذر فيهم ولا يكشف عن نفسه الا في لحظات الخيارات المصيرية.هو فصام سنعيش تعقيداته مع البطلة حنين، المصرية التي نشأت في فرنسا وعاشت فيها، الا ان موت والدها وحياتها الجامحة المفتقدة كل بوصلة توجّهها صوب الاستقرار والأمان، سيجعلانها تقرر العودة الى وطنها الام علّها تجد هناك ما ظلت تبحث عنه عبثاً في فرنسا: ذاتاً واثقة من هويتها وانتمائها. يتابع الكاتب تطور نموها العاطفي والجنسي، من قبلاتها الاولى الى اقصى لحظات جموحها، مروراً بالفترة التي ظنّت فيها ان لديها ميولاً سحاقية، مضيئاً على نوع من الازدواجبة في شخصية هذه الفتاة الخجولة والهادئة والمنكسرة في البيت وفي حضور والدها.

اما خارج “الرحم” الابوية، فتطلق العنان لنزعة استعراضية، كما تسميها، ولجموح في التصرفات. وفي كل مرة يكون سلوكها مدفوعاً ببحث مرتبك عن استقرار عاطفي لا تجده.واذ يرتسم شيئاً فشيئاً تاريخها الشخصي، يكشف السرد عن شخصيات اخرى تدخل حياتها وتخرج منها وتبدو جميعها محكومة بالفصام نفسه، وإن بدرجات واشكال متفاوتة.في الجزء الثاني من الرواية المؤلفة من ثلاثة اجزاء، وفي موازاة قصة حنين، يتسلم السرد صوت قادم من عالم آخر (نفهم من خلال الغلاف الخارجي للرواية انه صوت عماد الذي كان الصوت الاساسي في رواية سابقة للكاتب هي “ابتسامات القديسين”)، يقيم مقارنات بين الواقع الارضي الموهوم وحقيقة هذا اللامكان الذي ينتمي هو اليه، ويأتي ليطرح اسئلة الانسان الكبرى حول الوجود والمعرفة والاخلاق متحدثاً عما يسمّيه “جوهر الحقيقة”، هذا الذي لا يسع الاحياء ادراكه.باستثناء عوالم عماد السحرية، تحمل معظم شخصيات الرواية خطابين ووجهين وسلوكين يأتي تناقضهما الصارخ ليصبّ في رسم بانوراما معولمة عن انسان اليوم الذي تتحكم فيه اصولية مضمرة تظهر من وقت الى آخر لتطيح، بضربة قاضية، كل البناء التسامحي المعلن. وهي اصولية قد تكون دينية او عرقية او جنسية او وطنية، يغذّيها جهل تام بالآخر الذي مهما تبلغ العلاقة به من مراحل متقدمة تظل علاقة سطحية قائمة على احكام مسبقة وصور نمطية متطرفة. هكذا ستنتهي منذ بداية الرواية قصة الحب التي تجمع حنين بديفيد، الفرنسي اليهودي الذي سيقرر ذات يوم انه “يريد ان يكمل دينه بالذهاب الى ارض الميعاد”.الا ان حنين تتميز عن الشخصيات الأخرى بأنها لا تكفّ عن طرح الاسئلة واعادة النظر في المسلّمات والافكار. حتى والدها المتوفى لا ينجو من اعادة التقويم هذه. فاستناداً الى جزء من مذكراته فضّل اخفاءه عنها، ستشكك في أنه رغم تجربة زواجه هو المسلم بوالدتها المسيحية ظل تسامحه سطحياً ومصطنعاً: “هل يمكن ان اكون تعرضت للتضليل وظننت ان ابي مثالي ومتسامح لأنه احب امي وتزوجها على ديانتها، بينما هو يحتفظ في اعماقه بنموذج المتعصب المتخلف؟”. هذا السؤال وسواه سينتج منها صدام حاد بين مثاليات حنين والواقع المحكوم بازدواجية قد تبلغ حد النفاق، مما سيجعلها تتخبط في متاهة لا تعرف كيف السبيل للخروج منها: “يبدو انني جننت، ولكن ما المانع في الجنون والعالم نفسه يعاني الاختلال؟ فهل سأكون انا العاقلة الوحيدة في هذه المتاهة؟”. من خلال اطروحة الدكتوراه التي تحضّرها حول العلاقات الجنسية وتأثرها بالمستوى الاقتصادي للمجتمع المصري، ستعاين حنين عن قرب بعض مظاهر هذه الازدواجية على غرار سلوكيات، من مثل ترقيع غشاء البكارة او التحرش الجنسي، او ازدياد عدد الفتيات المحجبات اللواتي لا تمتنع غالبيتهن عن ارتداء “البناطيل الضيقة التي تغطي الارداف الكبيرة المدملكة المتمايلة يمنة ويسرة بلا رادع”، وذلك كجزء من ميل عام الى ذوبان الخيارات الشخصية في سلوكيات جماعية تفقد تدريجاً مسوغاتها الاولى ومعانيها الاصلية. فها هي تفاجأ بابنة عمتها نسرين التي تحجبت فقط لأن كل صديقاتها فعلن ذلك.كما سترصد عدم ارتياح الفتيات في اجسادهن وشعورهن الدائم بأن ثمة من يتلصص عليهن. واذ نراها تغوص في مدوّنات مصرية لفتيات يكتبن عن حياتهن الجنسية بحرية وتحرر تامين، لكن خصوصاً بنضج ووعي يصعب ايجادهما في الواقع، تكشف عن مجتمع افتراضي نشأ على هامش المجتمع الواقعي ويكاد يتحول بديلاً اكثر صدقية منه. وفي طريق بحث حنين عن ذاتها، مستندة الى مرجعيات ونقاط استدلال ادبية وفنية وسينمائية، نستعيد كذلك معالم العاصمة الفرنسية من شوارع ومقاه ومعالم مختلفة، تبدو اكثر وضوحاً مما سيكشف عنه السرد حول القاهرة والمنصورة. الا ان بين صورتي هذين المكانين، تبرز صورة اخرى لمدينة زجاجية طالعة من احلام حنين لتعكس حلم الشفافية المطلقة، فلا يعود هناك فرق بين الداخل والخارج، بين المعلن والمضمر. مدينة تشكل النقيض لـ”تلك الصناديق الاسمنتية (حيث) نتنفس بالكاد، ننام ونقضي حاجتنا، ونمارس الحب بسرعة لنلحق بدوائر الحياة التي تنتظر خروجنا لتستهلكنا”. في النهاية، سيصل سعيها الى طريق مسدود تكشف عنه علاقتها بعلي الذي يحمل كل تناقضات الرجل الشرقي المعاصر ويشكل في رأيها نموذج “انصاف المتفتحين”.ولن يكون قرارها بالعودة الى باريس الا نوعاً من الاقرار الضمني بأن مجتمعاتنا لا تزال غير مؤهلة لاستيعاب حاجة الافراد الى مساحتهم الشخصية وحريتهم الجسدية والجنسية كما الفكرية والعاطفية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة وتشكيلية بحرينية

                                                  عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم