أحمد ثروت
مسار ثابت
كنموذج مكرر نثره موظف بيروقراطي، حول ضفتي النيل، تتشابه مدينته وباقي مدن المحروسة. جُلّها تنوء بالأبراج الحديثة تجاور البيوت العتيقة وأكشاك السجائر، كلّها تنتشر فيها التكاتك بجانب سيارات النقل وعربات الكارو. التشابه الحالي لا ينفي التباين السابق. كانت جزيرة مغطاة بالورود، حمراء أوصفراء وبيضاء، ألوان لا يعرف لها اسماً، أشكال لا تُحصر، تحيطها المياه وينبت فيها الأخضر المتدرج. أهلها انتصروا لها حينها. أما الآن فلا يستطيع أحد الانتصار حتى لنفسه. لم تعد متخمة بالورد، ولم يعد ينتصر لها أحد.
لا تختلف مدينته اليوم عن أمس، أو عن الأسبوع الماضي أو السنة السابقة. نفس الوجوه الباهتة أو الحانقة. التدافع حول محطات “الميكروباص” المتناثرة في أنحاء المدينة، الانتظار المؤلم، أو الوقوف المهين وسط الطرقات الضيقة للباصات الضخمة التي تخترق الشارع العريض، الوظيفة المملة والأطفال المزعجون. كلها مفردات تحيط حياته، وتشكلها منذ سنوات.
عبر مدير الأمن من هنا اليوم، فاضطر هو للحود عن المسار الثابت، ليهبط في محطة شارع “التحرير” ثم يسير للأمام والكثير من اليسار واليمين فيقترب من مسكنه. المحطة الجديدة أكثر ازدحاماً، لكنه استطاع الركوب لغايتها بأعجوبة، ليهبط من الميكروباص سريعاً، فيواجهه فوراً شخص ضخم فخم، ذو شعر أبيض مهيب. الشخص يزعق بأرقام وحروف. لم يفهم مَن هذا وماذا يريد. تسمّر لحظات، كانت كافية ليبتعد صاحب المهابة عن طريقه؛ موسعاً له المكان. تابعه بعينين تترقبان، فوجده يتسلق حديداً، لبوابة قصر قديم تقبع بقاياه في شارع جانبي. يزعق بكلام غير مفهوم بدا أنه يكتبه على لافتة باهتة تعلو البوابة، يهبط بحذر حتى تستقر قدماه، يندفع نحو الميكروباصات المتوقفة، ليقابل راكباً جديداً بأرقام وحروف لا يفسرها أحد. ضحك من خوفه حتى احمّر وجهه، مختل يرعبه هكذا، ما كل هذا الخوف الذي صار يسكنه، التفت نحو المجنون وهو يمارس نفس المسار بلا كلل ولا تبديل.
ظل يتأمله ساعتين أو أكثر، صعوده السريع الواثق على البوابة، هبوطه الحَذِر، اختياره للراكب الذي سيفزعه، ليزعق أمام وجهه، ثم يتركه سريعاً نحو البوابة.
لماذا ظل هناك كل هذا الوقت، يراقب لحظاته ويعّد أنفاسه، ظل يفكر بقية يومه في هذا الرجل، لماذا يفعل هذا بالتحديد، لماذا يرسم هذا المشهد بهذا التتابع، هل يمنح بعض العابرين بركة من نوع ما، هل يسمهم بعلامة لا يعلمها إلا هو. إنه يختار هؤلاء البعض على أساس ما. هناك قاعدة بالتأكيد. الجنون أحياناً لا يكون ذهاباً تاماً للعقل، ربما يفسد فقط، يعطب.
ذكّرته مشاهدة الرجل بحكاية كلما نسيها تذكرها، لا تخرج أبداً من ذاكرته. لا تبهت. كان أثرها ضخماً كغرس في قلبه، لم يمحها زمن ولم تطمسها تجارب رائعة، يؤمن أنه شارك في الجريمة بطريقة ما، هذا ما يوخز قلبه كإبر حامية.
حكاية”بِربش”
خلف “شيش” الشرفة الموارب جسدي صامت. عيناي امتدتا بعيداً، تخترقان المنظر من الفتحة الصغيرة، دعكت عينيّ مرتين ثم أغمضتهما. حين فتحتهما كان الجسد ما زال في مكانه، عارياً تماماً، تواجه مؤخرته عينيّ، ولا يبدو أنه يتحرك. الأصوات المتباعدة تطفو منها مفردات قليلة مخيفة، “اقلع.. ارقص..”، اهتز الجسد في رعشة واضحة، لم أصمد أمام فضولي فهبطت مسرعاً من الدور الثاني، هرولت حتى منتصف الشارع الضيق، الحارة كتسمية أصدق. الطقس بارد في منتصف يناير، وبقايا المطر تعجن شوارع المدينة بالطين السميك. “بِربش” يقف عارياً وسط دائرة من الرجال الصغار، لم يكونو رجالاً في سن أبي أو عمّي، لكنهم كانوا أكبر من أخي الأكبر، رجال صغار أو فتيان كبار، ينطق أحدهم بكلمة “ارقص” فيتبعه الباقون بالخبط على أفخاذهم، يحيطون” بِربش”، يدورون حوله، يوخزونه بعصيّ غليظة؛ فتتناثر صرخاته ككلمات مبهمة. لم يكن يجيد الكلام مثلهم.
كان”بِربش” يعيش في شقة وحيداً. فوق شقة أخيه، راعيه، كبيراً كأخي الأكبر. الحروف تخرج من شفتي “بربش” مبهمة، اللعاب يسيل دوماً فوق شفته. حين يثيره الصغار ويرشقونه بالطوب، يركض متكئاً على ساق واحدة سليمة، يقفز ككنغر مصاب، فيوقعونه في منتصف طريقه، يلتفون حوله يتلَمسون جسده فيصرخ أكثر. لم يكن شقيقه يستطيع الدفاع عنه؛ ليس قادراً على معاداة كل هؤلاء. أصبح “بِربش” فقرة “إضحاك الجماهير”، جماهير حارتنا وكل الحارات المنبثقة كبؤر كئيبة من عِزبة “الثورة”. لم أفهم يوماً نوع المتعة التي يجلبها عذاب الآخرين، خاصة لو كانوا ضعفاء، كيف تشارك في هذا الفعل إلا لو كنت مريضاً، كيف تستمتع به إلا إن كنت بلا عقل، أو أن عقلك قد عطب.
اليوم الذي عرّوا فيه “بِربش” كان نهاية، أو بداية. عبثوا به كثيراً. لم يصمد، انهار تماماً، سقط جسده أمامهم. ولم ينههم هذا أو يوقفهم.
مسار اختياري
ما العلاقة التي يدفعه عقله لتصورها، هل هناك اتصال فعلاً بين “بِربش” والرجل الصارخ بالأرقام، هل هما مجنونان. ما الجنون. ألأنك لا تجيد الحديث مثل الآخرين. أو أنك ترى ما لا يرون. هل الجنون فقدان للعقل أم فقدان للاعتياد. طغت فكرة البحث عن أمثالهما على عقله، يرجو أن يفهم. المدينة تمتليء بهم، يريد أن يرى هذا العالم، يحاول فهم قانونه، لابد يتبع قانوناً ما، سار قليلاً، لم يبتعد. شوارع المدينة تحتضن الكثيرين، خاصة حين تقترب من محطة القطار. ميدان “الحرية” والفرع الممتد حتى ميدان” الناصر” مارّاً بمطاعم الكبدة ومنفذ توزيع “الأخبار”، ولا ينتهي بفندق “القدس” العتيق، كلها تحنو على الهابطين من القطارات، وتمنح الصاعدين سلاماً أو شروراً. أشكال وأنواع من الجنون والعقل، من الاعتياد والغرابة، من المقبول أوالمرفوض.
دس جسده النحيف في مقعد خشبي متماسك على المقهى الأزلي، مقهى “الجيل الجديد” كما تؤكد اللافتة القديمة، أو “القهوة” كما يلقبه المثقفون والسياسيون، كما يلقبه الناشطون. طلب شاياً و”شيشة أي نوع”، كان في مواجهة مَخرج محطة القطار تماماً، مخرجها هو نفسه مدخلها الرئيسي، في جهة رئيسية من ميدان “الحرية”. تسحب بشراً وتقذف في وجهه آخرين، البعض يستقل عربة من أمام سلالم المحطة مباشرة، والبعض يمشي يميناً باتجاه “الموقف القديم”، أو يساراً باتجاه “الموقف الجديد” ليكمل رحلته لمكان آخر. البقية تتقدم للأمام نحو شارع “الطريق”، يشترون البضائع الرخيصة أو يحضرون “شبكة” عروس. القليل يتساقطون جواره على مقاعد “القهوة” المتباينة. حين ركّز بصره للأمام، بينه وبين مخرج المحطة، ينتصب رصيف عريض تتوسطه مساحة خضراء بسيطة، يحوم حول الرصيف دوماً سائسي السيارات والشحاذون وبائعو المناديل، فوق الرصيف من الناحية المواجهة للمقهى كان الغريب يجلس متربعاً، لا يظهر عمره تماماً فيبدو عشرينياً، يبدو كذلك أربعينياً. أخذ ينظر لهذا المخلوق، يبدو كواحد ممن يفتش عنهم، حيث كان يجمع التراب من الأرض، يكوّمه، يضعه بين كفيه، يُسقطه من بين كفيه للأرض، ثم يجمعه مرة أخرى. ويتكرر الفعل إلى ما لا نهاية.
لمّا رآه الجالس على المنضدة المجاورة مدققاً في اللاعب بالتراب، أشار نحوه وناداه “حماده”، فبدا أن بينهما معرفة سابقة قوية، إذ جاء المجذوب الغريب فوراً يضحك بلعاب لا يتوقف سيله، يردد “بوسه..بوسه”، فنهره الرجل، ليرجع ثانية يمارس عمله الدؤوب في جمع ونثر التراب. التفت نحو جاره منتظراً استعراضاً لمعلومة أو حكاية، فقال إنه من قرية مجاورة، يأتي ويذهب، يظهر ويختفي، مثل الكثيرين المشابهين. قال إنه يراه يفعل ذلك منذ عشرين عاماً أو يزيد. تعجب من الرقم ومن شكل الغريب، وسأل نفسه عن عمر جار المقهى.
اختيار المكان كان موفقاً، خلال ساعات لمح وشاهد فوق الخمسين غريباً. واحدٌ يصرخ مهدداً، وواحدٌ يقف في صمت وسط الطريق، آخرٌ يشير بذراعيه في كل اتجاه ويهذي بكلمات لا رابط بينها، ثم يذهب. كان هناك من جرى فجأة ليصفع العابرين والجالسين على وجوههم، لم يوقفه إلا امرأة بجلباب وطرحة سوداوين تبدو أمه، ربما كانت زوجته. رأى فوق ما توقع وخمّن، هذا غير المتحدثين لأنفسهم بصوت واضح. هو نفسه متحدث لنفسه، بصوت يسمعه المجاورون، سمع صوت نفسه مرات عدة، استغرب كثيراً نبرته اللينة. يتذكر المجانين والمجاذيب، الطيبين والعاديين. يتذكر المحيطين به، يفكر في نفسه، لقد اكتشف أن الجميع مجانين بشكل ما. ليس هناك غرباء أطوار وعاديون. “بربش” لم يكن وحده الغريب في الذكرى البائسة، من عبثوا به غرباء، مختلون، مجانين كُليةً.
جوار المقهى، في الزاوية المطلة على شارع “الطريق”، كشك عتيق يبيع الكتب والجرائد، يقابله ممر، يعتبر امتداداً للكشك على الجانب الآخر، كان يشتري منه كتباً لأبنائه، منذ أكثر من عشرين عاماً. اتجه للكشك ورأسه لا يتوقف عن البحث، يشتري مجلة ويقرأ عناوين جديدة أو قديمة، يحاول ربطها بالجنون أو العقل فلا ينجح، ينساب في الزحام اللانهائي بلا هدف، ينظر للوجوه والتصرفات وهو يتحرك آلياً، لا يجد اختلافاً عن عالم” محطة القطار” وميدان”الحرية”، حينها ترتكز لديه الفكرة وتتسع الرؤيا.
سأكون مجنوناً..
هذا ما قررته. نعم نستطيع أن نُجن بإرادتنا الحرة العاقلة. مفارقة واحدة في عالم ينوء بالمفارقات، إنه العالم الحلم والحياة المنشودة، إنه المخرج الوحيد الآمن، من كل هذا الخراء الذي يعشش في كل زاوية، السؤال هو، كيف سأجن. لن أتظاهر بالجنون، سأكون مجنوناً حقيقياً، سأتكلم وأنا مجنون، سأتصرف وأنا مجنون، سأعيش مجنوناً تماماً، سأدخل هذا العالم لأحظى بالنجاة. ليس ادعاءً أو تشخيصاً. إنه انتقال من حياة لحياة، من كآبة لفرح، من عالم ضيق، لعوالم رحبة باتساع الكون، باتساع الخلق. سأشاهد وأسجل وأحلل، حتى أصل للنموذج المثالي. سأُجن بشكل علمي؛ حتى تكون النتيجة حاسمة، وحقيقية.
لم أتناول سوى قطعاً قليلة من البسكويت الجاف، منذ يوم الرجل المهيب. كنت أتعمد تقليل الطعام والشراب؛ لأؤثر على صحتي؛ فالاصابات النفسية كثيراً ما تنتج عن إهمال الصحة الجسدية. قررت فعل كل شيء بشكل علمي. لم أعد أهتم بمراقبة الآخرين، ابتعدت عن الجميع؛ أنا الأهم في هذه اللحظات. لم أعد مسؤولاً عن أحد أو عن شيء، لست حتى مسؤولاً عن نفسي، سأترك ذاتي للحياة ترفعها وتهبط بها، تُديرها وتقذفها في أي مكان. لن أقاوم.
أؤسس مدرسة يتبعني فيها الكثيرون، يقلدني كل من يرى نجاحي، أنا من رأى الطريق، أنا المُخلّد بكشفي المذهل. أقمت مكاناً خاصاً، جوار المخرج الخلفي للمحطة، حيث المهرولون والمتسولون كذباب يملأ الطبق. أتدثر ببطانية خفيفة، أخفي زجاجة مياه وكسرات خبز.
مضت أزمنة. ربما لم يتحرك الوقت أبداً. لا أستطيع الجزم. لكن الزمن بدا بلا أهمية. كنت نموذجاً ظاهرياً لمجنون تقليدي، لا أبدل ملابسي أو أقترب من الماء، طال شعري ولحيتي، برزت عظامي من قلة الطعام وجحظت عيناي، كنت نموذجاً شكلياً، لكنني لم أشعر بالجنون بعد، عقلي ما زال يعمل رغم قيامي بكل الخطوات العلمية، بحثت، قرأت، نفّذت. لكن عقلي بدا واعياً أكثر، بل أنه بدا أكثر اتساقاً من السابق.
لم يتبق سوى تجربة عملية وحيدة. أجلتها مراراً. تحمل ألماً ربما لا أتحمله. ربما أُصابُ إصابة ضخمة في جسدي ولا أُجن، فيتحطم حلمي. لكن المخاطرة هي بداية اختياري لهذا الطريق، يجب أن أتعرض لضربة قوية على رأسي، هذا حل علمي شبه مضمون.
كانت إصابة قوية من جسد قوي، نزفت، شعرت بالدماء فوق عيني. اهتّز جسدي ودارت الدنيا أمامي. أنا مغتاظ وبي حزن كبير؛ لم يفسد عقلي ولم يختف، ما زلت عاقلاً. لكن إحباطاً لن يتلبسني ويأساً لن أهادن، سأبحث وأحاول حتى أُجن تماماً، فأنا ما زلت عاقلاً. ما زلت عاقلاً تماماً.
……
مارس 2019