“محمد المخزنجى”، كاتب قادر على تشكيل الضوء، يُمسك بشعاع صافٍ ممتد يلضم فيه كل كتاباته، التى ترى أصغر حصاة فى قاع البحيرة، وتُقرّب أبعد نجمة فى السماء، بالضوء يصنع تشكيلاته الرائقة الشفافة، التى تمسّ القلب، تصاحب الروح، وتصل بسهولة إلى الجوهرة الراقدة بعيدًا، هو كاتب لا ينزع الضوء أبدًا من كتاباته.
“ما زال العالم قادرًا على الحب، ليس هناك “آخر”، “الآخر” هو فقط شخص ليس أنت، لكنكما تشتركان معًا فى أخوّة الحياة، دائمًا هناك فرصة للحب والسلام والمشاركة، لن ينتهى الجمال من الحياة، العالم لم يمت بعد، وما زال حيًا جدًا”، هذا بعض ما يقوله “محمد المخزنجى” فى كتابه: “جنوبًا وشرقًا- رحلات ورؤى”.
فى إطلالة على غلاف الكتاب، يصلك انطباع، وفكرة بسيطة، جميلة، تتضح أكثر مع قراءتك المحتوى، الغلاف عبارة عن صورة أُلتقطت للكاتب فى إحدى رحلاته، وهو يجلس بجوار رجل بسيط من “التبت”، وللوهلة الأولى يبدو هذا الرجل بطلاً للغلاف، بطبيعة تمركزه فى الصورة، واسترخائه، بينما جاء الكاتب ليشاركه لقطة من الحياة، وبدا متعجلاً كأنه يريد أن يحصل على تلك اللقطة/ المشاركة قبل أن يترك الرجل مكانه، أو أنه -الكاتب- يتعجل اللقطة حتى يطير إلى مكان آخر وإنسان آخر يشاركه لحظة/ حياة ما، وبهذه المشاركة لم يكن أيًا من المؤلف أو الرجل البسيط بطلاً للغلاف، البطل هو “معنى اللقطة”، المشاركة، ولم تكن مصادفة أن يحمل الرجل ملامح عامة تجعله غير منتمٍ إلى مكان محدد من العالم، وإنما لأىّ وكل مكان، تجعله “إنسان” وفقط.
يتدفق الجمال فى الكتاب، وتتوالى الرؤى بسهولة وعمق، فكما هو فى العنوان “رحلات ورؤى”، سنرى طموح “محمد المخزنجى” لعمق الرؤية، والتعرف على روح العالم وجوهر الحياة، هو لا يكتفى بالمشاهدة، إنما يتعامل مع العالم بمحبة وحنوّ، بروح المغامر الإنسان، ورغبة فى الإمساك بالضوء، الوصول للمعنى، ومنبع الفكرة، فى نفس الوقت هو يعتبر نفسه جزءًا من هذا الكون الكبير الرائع، هى ليست مجرد رحلات ومشاهدات، لكنها رؤى ودروب من ضوء، يصاحبها متعة صافية.
يتنقل “محمد المخزنجى” فى كتابه بين بلاد اختارها “جنوبًا وشرقًا”، لأن “ثمة فلسفة روحية، رؤية خلاّبة ورحيمة فى ناس وبلدان الشرق والجنوب”، يصحبنا معه إلى بلدان وناس إفريقيا والهند وتركيا وشرق آسيا وأوروبا الشرقية، وأماكن أخرى كثيرة، فلا نتوقف عن سماع صوت المطر والإحساس بدفء الشمس، نستحم فى أنهار إفريقيا، ونقبض على قوس قزح المرتكز حول شلالات “فيكتوريا”، نعيش الألوان والروائح الصاخبة فى الهند، نسمع صخب الحيوانات، نشم رائحة الغابات والأرض، نشعر بصفاء المياه، نمتلئ بالبحر، وعندما يقف بك على شاطئ الأطلنطى، يضرب الموج قلبك فيوقظه، وتشعر بصخب الحياة وعنفوانها وجمالها، تتمادى فى روعة العالم، تتعرف على الكثير من حقائقه، خيالاته، أساطيره، فنونه، أسراره، حكاياته، وتدرك كم هو متسع ويحتمل الجميع، أنه ليس مكانًا للقتل ولا الكره، وإنما للعطاء والمشاركة، عالم يتسع لكل الأرواح والأجساد، هذا العالم الذى يبدو وكأنه يتناقص وتتآكل مساحته، ما زال قادرًا على الاتساع، يتسع لكل البشر ببيوتهم وتشردهم، حروبهم وسلامهم، إلا أن العالم يفضّل ويتمنى أن يتسع لسلامهم ومحبتهم.
فى “جنوبًا وشرقًا” تزداد يقينًا أن الحياة قادرة على أن تستمر بجمال، تَفرح لأن العالم يحتوى أماكن مثل تلك، وتفرح أكثر عندما تتأكد أن العالم ما زال محتفظًا بأماكن لم تطأها قدم إنسان، وهذه الأماكن هنا على الأرض، قريبة منك، وليست على كواكب بعيدة قد وصلها الإنسان بالفعل، لكنه ورغم وصوله لتلك الكواكب، فإنه لم يكتشف أرضه كلها بعد، ويبدو أنه لن يستطيع ذلك أبدًا، لتظل الأرض القريبة منا مدهشة ومتجددة دومًا.
من بين هذا الجمال الكونى والإنسانى الذى يصحبنا فيه “محمد المخزنجى”، يبزغ الألم الإنسانى عندما يرينا جزيرة “غورى” بالسنغال، و”غورى” تعنى “العتق” فى لغة الولوف السنغالية، وكما يذكر الكاتب، فالجزيرة كانت فى يوم من الأيام أكثر الأماكن إيلامًا على الأرض، فيها كان يتم تجميع العبيد الأفارقة بعد أن يتم اصطيادهم، ثم ترحيلهم مكبلين بالحديد، ومكوّمين فى بطن السفن عبر “الأطلسى”، فى “غورى” كانت زنازين العبيد الأفارقة، و”بيوت العبيد” التى يُخصص فيها الطابق السفلى المعتم ليكون حظائر للعبيد، بينما الطابق الثانى النظيف المضىء مخصص لإقامة المفاوضات على بيعهم، تقرأ عن ذلك وتتألم، وتتساءل: “كيف يمكن أن يكون الإنسان بهذه القسوة، الجشع، والأنانية؟”.
يصحبنا الكاتب إلى الهند، ويتحدث عن بشر فى الشوارع، يعيشون فى رقة حال وخفّة ونحافة “كل ما فى هؤلاء خفيف، حتى أحسب أنه يمكن طىّ الواحد منهم طيًا وحمله تحت الإبط”، هو يقصد الخفة والرهافة اللطيفة، القناعة بالقليل التى توفر “الشبع” للجميع رغم عدد أهل الهند المهول، عندما يدور بنا فى شوارع “راجستان”، ويرينا أهلها ورقة حالهم، وكيف أنه لا يمكن وصفهم بالفقراء، لأن الفقر لا يكسرهم ولا يظهر عليهم، فالعلاقة بين الفقر والإنسان يلخصها “المخزنجى” فى أن: “الإنسان لا يكون فقيرًا أبدًا إلا إذا كسره الإحساس بذلك”.
عندما يرينا تسلّط الإنسان فى جزيرة “غورى”، ورقّته فى شوارع “الهند” و”حمص”، حروبه وقسوته فى “البوسنة والهرسك”، غناءه ورقصه مع دراويش “تركيا”، والصبايا الفقيرات على شواطئ “كمبوديا”، عندما نراه يبنى “تاج محل” فى “الهند”، ومساجد “تركيا”، كيف حفر البحيرات وزرع الحدائق فى “الإمارات”، ثم كيف يحرق فى “فيتنام”، ويُضيّع فنونه فى “روسيا”، سنحتار ونتساءل فى طبيعة الإنسان.
والآن، من أين تأتى متعة الكتابة وجمالها؟
توقفت عند هذا السؤال الفنى، وكثيرًا ما أتوقف عنده فى الكتابات التى أستمتع بقراءتها، فى “جنوبًا وشرقًا”، وفى الفصل الذى يحكى عن تجارة العبيد فى “السنغال”، نقرأ الكثير من الألم الإنسانى، هذا العذاب والقهر الذى عاشه الأفارقة فى هذا الوقت، لا بد وأن يملأ هذا الفصل قارئه بالألم والمرارة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لى أن أقرأ وأكون مستمتعًا؟! فلن يكون ممتعًا لى أو لأىّ أحد قراءة كل هذا الألم الإنسانى، لكن، المتعة فى الكتابة لا تأتى من كون ما نقرأه يحكى عن أماكن جميلة، وحالات مطمئنة مريحة فى العالم، لكنها تأتى من صدق الكتابة وقدرتها على الوصول لجوهر ما تحكى عنه، فى قدرتها على ملامسة القلب والروح، وهذا ما فعله “المخزنجى” فى كتابه، وفى هذا الفصل الملىء بالعذاب والألم الإنسانى.
“كأن للحرية عطرًا حلوًا، وكأن فيها أيضًا نظافة”
“”الحرية تمنح الأرض والناس جمالاً”
“السلام لم يعد مجرد مسالمة بين البشر والبشر، بل هو فى الأساس مسالمة واجبة بين البشر والأرض”
هكذا، نصادف الكثير من الجمل التى تمثل الرؤى التى يبحث عنها “المخزنجى” فى رحلاته، ويصل إليها بسهولة وشفافية، كأنها تمنحه نفسها، فتتناثر جمله الرائقة مثل قطع من الضوء الصافى، مثلما تتكرر مفردة “الرؤية” فى الكتاب: “طموح الرؤية”، والتى من خلالها يستطيع الحصول على رؤيته الخاصة.
هناك فارق كبير بين الرؤية والمشاهدة: “المشاهدة” يستطيعها أىّ شخص، وتكون وقتيّة وسطحية، ولا بد لها من عينين، ورغم وجودهما فإن تلك “المشاهدة” تظل قاصرة وعاجزة، أما الرؤية فيمكن لها أن تخترق وتصل إلى المعنى، المغزى، والفكرة، هى لا تحتاج إلى عينين، وإنما قلب يحب ويفكر، كما أنها تظل حية فى العقل والوجدان.
لا يمكنك أن تقول لأحد: “شاهدتك فى الحلم”، لكنك تقول له: “رأيتك فى الحلم”، لأن الحلم حالة أعمق من مجرد “المشاهدة”.
فى حالة “الرؤية” يمكن أن يكون “الرائى” مشاركًا بشكلٍ ما فيما يراه، ويكون جزءًا منه، أما “المشاهدة” فتظل بعيدة، وتظل تلك المسافة بين “المشاهِد” وما يشاهده، لتصنع بينهما فراغًا واضحًا.
ما فعله “محمد المخزنجى” هو الرؤية، وكان هو نفسه جزءًا مما يراه، رأى الداخل، وعيناه كانتا فقط إحدى أدوات الرؤية لديه، لم يكن ينظر، كان يرى.
يقول: “الهواء بعيدًا عن الزحام لا أنظف منه”، هو لا يقصد الزحام البشرى، فالكتاب يحتفى بالزحام الطيب الجميل الذى يتشارك الحياة، وإنما يقصد ذلك الزحام المتهافت الغبى الذى يجعل من العالم مكانًا للقتل والكره، ثم هو يتساءل: “يارب.. الدنيا خلقتها غنيّة وبهيّة، فلماذا يشقيها ويشقى فيها البشر؟”.
لغة الكتاب، ممتعة، حية، لا تقف على الحياد ولا تصف ببرود، فيمكن للغةٍ ما أن تصف الشلال كونه ماء وفقط، والجبل بأنه مجرد صخور، والغابة فقط أشجار وحيوانات، لكن لغة “جنوبًا وشرقًا” لمست نبض الحياة فى كل الكائنات التى مرت بها، ونقلتها حية، نابضة، ورائقة، حتى عندما تصف أقسى لحظات الألم، هى لغة صافية، تعرّفت على العالم بمحبة، وحملته فى قلبها.
اللغة فى رؤى “محمد المخزنجى” لم تكن تؤدى عملاً داخل كتاب، وإنما هى تتلمس روح العالم، تتعرف عليه، تحاوره، تبادله فكرة بفكرة، وقلبًا بقلب.
لن تنتهى الرحلة بانتهاءك من قراءة الكتاب، سيظل كل هذا الجمال داخلك، تظل الأفكار والرؤى التى أضاءها الكاتب/ الكتاب تومض فى قلبك وعقلك، ومن بين تلك الأفكار تظل فكرة تضىء وتضىء، هى أن العالم كله فكرة واحدة، منبع واحد، ستتأكد أن الوضع الطبيعى للعالم أن يبقى قطعة واحدة مثلما كان يومًا ما، وهو إن تقطّع “جسديًا” لأجزاء عديدة، فإن روحه لم تتقطّع، ما زالت رغم أىّ شىء، روح واحدة، حرة، وجميلة.