الذين يعيشون هنا تتجاوز علاقتهم بالمكان من الدهشة إلى المصير , هو مصيرهم , مربع وجودهم , و هم أسماكه التي لا تحتمل مغادرة الماء , لكنهم يعرفون تلك الخرائط عن ظهر قلب , يعرفون أين ينبغي للقدم أن تحاذر , و أين للقلب أن يحترس , أن تعيش في سيناء وتصير هي جزء منك وأنت جزء منها لا يعني أن تلبس الزي التقليدي وتضع ” العقدة والمرير ” فوق رأسك مثلما يفعل بعضهم وهو يتجهم للكاميرا أو يشد بأريحية على يد مسئول , ثمة شروط أخرى أهمها أن تعرف خرائط اللاطمأنينة التي هي الجنة لمن يعرفها والجحيم لمن يجهلها .
بحذر يتحرك الكائن هنا , ثمة حجارة لا حصر لها جاهزة كي تصبح حجارة عثرة , هي نفسها ستصبح جسراً لتعبر فوقه بشرط أن تعي وتفهم وأهم من ذلك تحترس , الواقع هنا معقد , سيقول لك البعض , القبلية و العادات والتقاليد سيقول اّخرون , التشدد الديني سيقول غيرهم عن المتغير الجديد , جميعهم على حق ولكن هل هذا كل شيء ؟؟ بالطبع لا .
في مصر سيناء ليست مكاناً استثنائياً تعيش فيه الثقافة الصحراوية العربية بعاداتها وتقاليدها التي تبدو للأغيار صارمة وطاردة , في مطروح والواحات والبحر الأحمر وعلى حدود السودان , بل حتى في أرياف مصر في الفيوم والبحيرة ومناطق أخرى تعيش نفس الثقافة , فما الذي يميز سيناء إذن ؟؟ , إنه قلق الجسور , قلق البوابات التي تصفعها الريح على الدوام , لا تفتح ولا تنغلق , في حركة تاريخية دائبة , هي حالة اللاطمأنينة التي تتلبس المكان ويعرفها أهلها كما يعرفون أسماء أبنائهم , سيقول لك بعضهم لكن 1973 كانت اّخر الحروب وقد مضي علىها ما يقرب من أربعين عاماً !! , نعم هي اّخر الحروب ومضي عليها أربعين عاماً لكنها لم تنته بعد , هذا الغليان الذي يتواصل كل يوم هو حصة أساسية من حصص اللاطمأنينة وثيقة الصلة .
أن تعيش في سيناء فهذا يعني أنك إبن هذه اللاطمأنينة , إبن القلق , إبن التوجس , إبن الخطوة المسكونة بحذر صحراوي يعرف أن عادة الرياح هي أن تأتي بما لا تشتهي السفن , إذا كنت تنتمي لهذا المكان بصلة الولادة فإنك سترث هذا في جيناتك , لن تبذل مجهوداً يذكر لتتآلف وتعرف وتفهم وتصبح تلك اللاطمأنينة جنتك , أما إذا شاءت الصدفة وساقتك الظروف فعليكَ أن تبذل مجهوداً ليس باليسير على مثلك أن يتكبده , قد تفلح فقط لو أنصت , لم تتعجل , لم تتحرك بالقدم الواثق المغمض العينين , شفرة روحك عليها أن تظل هكذا مشحوذة , وشيئاً فشيئاً ستقترب من اللاطمأنينة لتأخذ من عنقها سلسلة المفاتيح دون أن تتذمر.
على هذا الحال يعيش أبناء المكان , ماذا إذن لو أضافت الحياة عليك عبئاً إضافياً وأصابت روحك عدوى الكتابة ؟؟ , منذ سنوات بعيدة أتم صديقي روايته الفاتنة , أذكر قضينا العديد والعديد من الليالي وبالحماس نفسه نتحاور حول الزمن الروائي , حول شخصيات الرواية , حول التفاصيل وتفاصيل التفاصيل ,حتي اكتملت ليحدثني عن ما لم يكن مفاجئاً لي , قراره بعدم النشر , إنها اللاطمأنينة في أحد وجوهها المتجهمة , قلت كمحاولة أعرف أنها مجرد ضمادة لجرح قديم لا يمكن تجميله : ماذا لو نشرتها في الخارج بإسم مستعار ؟؟ , لم يرد , أنا الاّخر اكتفيت بتلك الجملة التي لم يتعد دافعها أن يكون محاولة للسلوان .
وحده المجاز /خِباء المعنى يفعل ما عليه , يستر روحك ويقيها شرور اللاطمأنينة , هل لهذا السبب يتزايد عدد الشعراء هنا في سيناء ويتراجع عدد من يقفون على أعتاب أشكال أخرى من الكتابة يتراجع فيها المجاز لتنكشف الروح وتتعرى ؟؟ , ربما , لكن ما أنا على يقين منه هو أن اللاطمأنينة في حالتنا هذه عدوانية بشكل لا يقارن.
*(من كتاب سيصدر عن سيناء قريباً في الكتب خان )