جماليات قصيدة النثر المصرية.. قراءة في ديوان”يارا” لمحمد رياض

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 11
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د. هويدا صالح

     إن قصيدة النثر خيارٌ جماليٌّ تقدم بناءً وفضاءً شعريا بمعايير فنية مغايرة لما هو سائد عن الصورة الذهنية التي كوّنها القراء منذ قرون طويلة عن الشعر العربي الذي يعتمد على الوزن وتفعيلاته. وهي تساعد القارئ على أن يكون خلاقا في استخراج الدلالة النفسية والفكرية وفرادة الرؤية التي يمتلكها شاعر عن آخر دون أن يكون واقعا تحت تأثير الموسيقى والصور المجازية المفرطة.

     إن قصيدة النثر هي موقع المواجهة ـ على حد تعبير باربارة  جونسون ـ  بين الداخل والخارج، حيث تقوم على حالة المفارقة والتقابل  في التصور الذهني بين الشعر والنثر.

     لكن هل يمكن قراءة هذه المفارقة وهذا التقابل والصراع  بين النثر والشعر كنوع من الاستعارة تشير إلى التقابل والصراع الاجتماعي والإيديولوجي والفكري؟

     هل التحول الكبير الذي حدث للشعراء في عقد التسعينيات والانفجار الكبير في كتابة قصيدة النثر يمكن قراءته اجتماعيا وسياسيا في سياق انهيار الصراع القطبي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وانفراد الأخيرة بحكم العالم، وانهيار القضايا الكبرى والكلية وانحياز الشعراء لما هو شخصي وذاتي، ما هو إنساني في ضعفه وتشظيه؟ وهل يؤيد هذه الفكرة انحياز شاعر قصيدة النثر لما يومي وواقعي عما هو خيالي مجازي مجنح، ويترجم هذا إلى انحيازه كذلك إلى لغة الحياة اليومية في عاديتها وكسرها لأفق توقع الصور البلاغية الاستعارية التي تصاحب عادة الشعر؟ وهل ارتباط قصيدة النثر بفكرة الكتابة والتدوين وتخليها عن سلطة الشفاهة التي ميّزت الشعر الموزون وشعر التفعيلة جزءا من فلسفتها التي انحازت لها، انحيازها للإنسان في ذاتيته وعاديته بعيدا عن سلطة الشفاهة والإلقاء والموسيقى  التي تمنح الشاعر أدوارا فوقية، فوق إنسانية؟.

     وكما تحررت قصيدة النثر من سلطة الوزن تحررت كذلك من سلطة الشكل المرتبط بعدد التفعيلات التي يختارها الشاعر، فلم يعد مجبرا على تقسيم التفعيلات إلى شطرين (الشعر العمودي الموزون) أو إلى عدد من التفعيلات محدودة شكليا (شعر التفعيلة) فصار شاعر قصيدة النثر يحدد الشكل الذي يرتضيه لقصيدته، إما بكتابتها بسطور شعرية متصلة ومتوالية أو جمل شعرية قصيرة ومتوالية.

     ورغم تحرر قصيدة النثر المطلق من النظام الهندسي للقصيدة القديمة إلا أنها يجب أن يتوفر لها مجموعة من السمات والخصائص، صحيح لا يجب أن نلزم  الشعراء بهذه السمات، فغالبا كل شاعر يحاول أن يوجد لنفسه سمات فنية تمايزه عن شاعر آخر إلا أنه في نهاية الأمر يجب أن يكون الشاعر واعيا بأن قصيدته بناءً عضويا، مستقلا، وأن تشكل كلا فريدا يخص هذا الشاعر دون غيره. كذلك يجب أن يعي الشاعر أنه يكتب بناء فنيا مميزا وخاصا محاطا بشعريته الخاصة جدا، فلا يتشابه مع القصة ولا الرواية ولا بقية أشكال النثر الفني.

     إن قصيدة النثر ـ بحسب جوناثان مونروـ تنحاز لكل ما هو مقصى ومهمش في المجتمع، فهي صالحة لأن تنتصر للأقليات والنساء والسود والمهمّشين السابقين بالمعنى لإيديولوجي للكلمة.

     الغريب أن قصيدة النثر العربية بعد صراع وجود استمر لنصف قرن من روادها الأوائل إلا أن النقاد ما يزالون يقفون عند التسمية، وكأنها تعيد خطواتها من جديد، فلم يتجاوز كثير من النقاد بعد كل هذه العقود التسمية والمفارقة والتضاد في بنيتها الاصطلاحية، والأولى بهؤلاء النقاد أن يبحثوا في الملامح الجمالية التي يتمثلها شعراء قصيدة النثر ويحفرون في وعيهم المعرفي وخطابهم الثقافي ومدى تمثلهم لقضايا الذات والقضايا الإنسانية الكونية.

     في حين أن كل الجهد المبذول في هذا المجال هو جهد شعراء قصيدة النثر أنفسهم، سواء ما قام به الرواد مثل أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال والماغوط، أو ما قام به جيل الوسط مثل عبدو وازن ونوري الجراح أو ما قام به جيل التسعينيات مثل كريم عبد السلام الذي كتب سلسلة مقالات في جريدة اليوم السابع تحت عنوان”أزمنة الشعر”.

     لكن هل يمكن القول بأن قصيدة النثر العربية وصلت إلى مرحلة النضج والاستقرار؟ وهل يعي شعراؤها، كل شعرائها جماليات النوع وفنياته؟ وهل حقا اتجاه الشعراء الشباب لقصيدة النثر وعيا بجماليات النوع وتاريخه والفلسفة التي قام عليها هذا النوع الأدبي أم أنه تجريب في الفراغ دون إدراك ووعي حقيقيين للتشكيل الجمالي لقصيدة النثر؟

     وبالنسبة لقصيدة النثر المصرية وبعد أكثر من عشرين عاما على موجتها الكبرى فى التسعينيات من القرن الماضى، هل يمكن القول بأن قصيدة النثر المصرية الراهنة أقرب إلى الاستقرار منها إلى القلق والتمرد؟ هل ثمة تجريب يعيه هؤلاء الشعراء أم أن هناك ردة في الوعي الجمالي لأكثرهم؟ إن مؤتمر قصيدة النثر الذي يقيمه بعض الشعراء المستقلين في أتيليه القاهرة وعبر دوراته المتعددة يُعد خطوة جادة في طريق الإجابة عن الأسئلة السابقة، فلا يمر وقت إلا وتعود مسألة “قصيدة النثر” تطرح نفسها للنقاش، فالمشهد لا يزال مفتوحا

باتجاه التعدد والتنوع. ويحقق هذا المؤتمر في تصوري يحقق هدفين مهمين، الأول فتح ملف قصيدة النثر مجددا، وبشكل خاص فيما يتعلق بضبط هذا المصطلح النقدي منهجياً وتاريخياً، وعلاقته العضوية بمصطلح قصيدة الشعر الحر في الثقافتين الفرنسية والإنكليزية وتجلياتها الملموسة في الثقافة العربية، والهدف الثاني تتبع التجارب الشعرية الجادة والبحث في جمالياتها وعوالمها وخطاباتها الثقافية، وإتاحة هذه التجارب للنقاد للاشتغال عليها وتأصيلها.

     وفي هذا البحث لا أدعي الحفر الأفقي في المشهد الشعري المصري في محاولة بانورامية لاستقصاء مشهد قصيدة النثر المصرية، إنما أنوي الحفر إلى الأسفل، الحفر الرأسي، لآخذ شريحة صغيرة من شجرة مترامية الأطراف وأخضعها للمساءلة الجمالية علني أكشف عن جانب صغير من الكادر، فلا توجد كاميرا نقدية قادرة على أن تحيط بالمشهد الشعري النثري العربي والمصري لتعددة وتنوعه واختلافه، ومن يدعي الإحاطة سيكون جهده ببلوجرافيا توثيقيا فقط دون التوقف والتأمل والتحليل للوقوف على جملة الجماليات التي تسم قصيدة النثر.

     وأدعي أنني قارئة جيدة للمشروع الشعري النثري منذ التسعينيات وحتى اليوم، صحيح أنني قمت ببعض القراءات النقدية لعدد قليل من دواوين نثر لشعراء من أجيال متنوعة مثل الشعراء: كريم عبد السلام ومحمد الحمامصي وسيد محمود وعلي عطا وأسامة حداد وحنان كمال ومحمد أبو زيد وعصام أبو زيد وأمل جمال ووليد علاء الدين والشاعر الراحل محمد أبو المجد إلا أنني لا أتجرأ وأقول أنني أحطت بالمشهد كاملا، لذا قررت أن آخذ قطاعا طوليا من المشهد وأحفر فيه عميقا علني أتمكن من رصد جماليات لأنموذج شعري من جيل الشباب المصري، وسوف يكون الأنموذج التطبيقي هو شعر الشاعر محمد رياض وديوانيه “الخروج في النهار” الذي صدر عن دار ميريت 2014، و”يارا” الذي صدر عن دار روافد 2015.

     لقد قطعت قصيدة النثر شوطا كبيرا باتجاه النضج الجمالي والتنوع في الأساليب والتقنيات التي يفيد منها الشعراء، فلا يدعي ناقد أنه يستطيع أن يحيط بالمشهد الشعري النثري المصري، كما لا يمكن لناقد ما أن يدعي أن ثمة جماليات واحدة يمكن أن يتمثلها الشعراء جميعهم في وقت واحد، بل وصل الأمر أن لكل شاعر تقريبا أسلوبا متفردا ومغايرا للشاعر الذي يماثله في الجيل والتجربة.

     ثمة أساليب متعددة وأجواء ومناخات تستلهم عوالم متباينة؛ لذا من المهم لناقد ما بدلا من أن يضع قوانين وجماليات يحاول أن يبحث عنها في الدواوين الشعرية عليه أن يساءل الديوان محل الدراسة ويستخرج جمالياته الخاصة بعيدا عن الجمل النقدية النمطية التي تحكم وعي النقاد، فلا جماليات مشاع تحكم الوعي الجمالي للشعراء من أجيال متعددة أو من جيل واحد، رغم أن منظري قصيدة النثر الغربية حددوا مجموعة من الجماليات التي افترضوا وجودها في قصائد النثر الغربية، لكن الأمر مختلف في مشهدنا الشعري العربي.

     سأحاول في قراءتي للديوان محل الدراسة أن أكشف عن بعض آليات إنجاز النص وقراءته والنظام المتخفي وراء فوضاه الظاهرية، وبين التحليل النصي وتطبيق الفرضيات على نصوصه.

     ثمة تساؤلات نحاول أن نجيب عنها قبل أن ندخل إلى الفضاءات الشعرية للديوانين محل الدراسة، وساعتها سوف نختبر هذه التساؤلات وإجاباتها.

     ومن هذه التساؤلات ما هي السمات الجمالية التي تتجلى في قصيدة النثر المصرية؟ ما مدى اعتمادها على مشهدية اللغة والإفادة من الفنون البصرية والحقول المعرفية المختلفة؟ ما موقف الذات الشاعرة من هموم الذات والعالم؟ وهل تعتمد قصيدة النثر الراهنة على هموم الذات كموضوع شعري أم على الموضوع أو القضايا خارج الذات؟ هل قصيدة النثر الراهنة تعتمد على الشذرات القصيرة والتقطيع الشذري أم يتوفر لها طول النفس وتوالي السطور الشعرية؟ ما مدى تجلي الواقع في قصيدة النثر؟ أم أن العوالم الخيالية والفنتازيا هي ما تتجلى في قصيدة النثر الراهنة؟ والبحث عن إجابات للأسئلة السابقة سوف تعتمد الباحثة على المخزون القرائي لدواوين وقصائد النثر المنشورة ورقيا وإلكترونيا، واستقصاء السمات الجمالية والفنية لها، ثم تأتي المرحلة الثانية من الدراسة وهي مرحلة التطبيق على قصائد الديوانين محل الدراسة لمعرفة مدى وعي الشاعر محمد رياض بهذه الجماليات ومدى قدرته على التمرد عليها ونحت جماليات وسمات فنية تخصه وحده في فضائه الشعري.

     إن قصيدة النثر تنبني على المفارقة في فلسفة بنائها، ليس فقط على المفارقة المتضمنة في العنوان (قصيدة/ النثر) إنما أيضا المفارقة في فلسفة رؤية شاعرها المنتج لها للعالم، فسوزان برنار أحد أهم منظري قصيدة النثر الفرنسية ترى أنها:”ترتكز قصيدة النثر في شكلها، وفي مضمونها على اتحاد المتناقضات، نثر وشعر، حرية وصرامة، فوضى مدمرة، وفن منظم… ومن هنا منبع تناقضها الداخلي، ومن هنا تتأتّى تناقضاتها العميقة والخطيرة والمثمرة، ومن هنا يبرز توترها الدائم وديناميكيتها”(1).

     تنشغل قصيدة النثر بالتفكير والتأمل، بطرح قضايا معرفية لم يهتم بها الشعر من قبل، وانشغل الشعراء بسؤال المعنى والاشتغال على القضايا الكبرى عبر التناص حينا والتأمل الفلسفي حينا آخر، كما أن قصيدة النثر المصرية بحثت عن صيغة أخرى للغنائية.

     غلبة السردية وتقنياتها الجمالية والإفادة من حقول معرفية مختلفة مثل السينما وكادراتها وتقنية المونتاج والتشيكل البصري الذي استعاره الشعراء من الفن التشكيلي، ومن السرد الروائي الحكي وتعدد الأصوات.

    في ظل الردة التي شهدتها الشعرية العربية، الردة إلى الإيقاع الكلاسيكي والعمودي بعد الانتشار الكبير للجوائز الكبرى التي تمنح للشعراء الكلاسيكيين العموديين وشعراء التفعيلة إضافة إلى الاهتمام الإعلامي بهذا النوع من الشعر جعل الشعراء الذين يتمسكون بقصيدة النثر مثل من يقبض على جمر، رغم كلاسيكية الاستعارة إلآ أنها تبدو مناسبة تماما لوصف هذه الحالة.

     منذ البدايات الأولى للموجة الجديدة من قصيدة النثر والتي بدأت في التسعينيات من القرن الماضي والتي اتخذت من الواقعي والإحالي وما هو يومي مادة شعرية يمكن أن يغترف منها الشاعر ويكتب عالمه ببلاغة خاصة تفارق الواقع من ناحية وتتخذه مادة شعرية من ناحية أخرى، وجدنا أن الشاعر يتخذ من حياته، تفاصيلها، خيباتها وآمالها مادة للكتابة، ويمنحها بلاغتها الخاصة، لتصير قصيدة النثر قادرة على حمل خطابات نفسية واجتماعية؛ مما يتيح للقصيدة فرصة أن تكون مفتوحة على احتمالات الوشائج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، ما هو سياسي وما هو اجتماعي، وما يتيح لها أيضا، وأقصد القصيدة فرصة أن تصبح صرخة احتجاج وتمرد ليس على ما هو سياسي واجتماعي فقط، بل ما هو ثقافي نمطي وتقليدي.

     بعد أن تخلت قصيدة النثر عن الإيقاع والموسيقى كان لا بد لها عن موسيقى داخلية تتأتى من الكثافة والتوهج وفرادة الرؤية والإيقاع الداخلي، وقد أشار أنسي الحاج إلى هذا القانون فقال عن قصيدة النثر:”إنها تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو تعمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط”(2 )

     كذلك يرى صلاح فضل أن “قصيدة النثر تعتمد الجمع بين الإجراءات المتناقضة، أي أنها تعتمد أساسا على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري” (3).

     كما أن الإيقاع الداخلي الذي يحدثه مسافة التوتر التي يتعمدها الشاعر في تكوينه اللغوي للجمل والعبارات الشعرية، وهذا ما يسميه كمال أبو ديب بالـ”الفجوة”(4).
كذلك يرى مخلص النجار في حديثه عن خصوصية مفهوم الشعر الحر أنه يمكن أن يستغني شاعر ما عن:” إيقاع الوزن فإنه لا بد يستغني عنه بعناصر إيقاعية أخرى هي ما يطلق عليه الإيقاع الداخلي، وهو يشير إلى إيقاع في النص باستثناء الوزن والقافية الرئيسية”(5) 
وفي نفس السياق يتحدث عن نوعين من الإيقاع، الأول داخلي كما أسلف والثاني معنوي، فأما الإيقاع الداخلي، فيتمثل برأيه في بعض الإيقاعات الصوتية لبعض الكلمات:”فكان هذا الإيقاع أبرز ما يكون متمثلا في الحرص على أحرف العلة”(6).
     أما الإيقاع المعنوي، فيرى النجار أنه:” ثمة إيقاع يستند أساسا إلى جانب معنوي هو التضاد اللغوي والتقابلات… وهذا يصنع إيقاعا معنويا، ينضاف إلى ما يسمى الإيقاع الداخلي أيضا “(7).

     ورغم أن قصيدة النثر قد تخلصت كلية من الإيقاع، إلا أن واحدا من أبرز شعرائها والمنظرين لها يحذر من الاستسهال في كتابة قصيدة النثر رغبة في الهروب من صعوبة الوزن والقافية والإيقاع، فهو يرى أن:”الزيف الذي ينتشر باسم التجديد. خصوصا أن الكثير من هذا المزعوم تجديد، يخلو من أي طاقة خلاقة، وتعوزه حتى معرفة أبسط أدوات الشاعر: الكلمة والإيقاع”(8 ).

     ولا شك أنه من السمات الجمالية التي اتفق عليها نقاد الغرب الذين يمثلون المرجعية المعرفية للنقاد العرب الذين نظروا لقصيدة النثر أنه يجب أن تتوفر في قصيدة النثر الوحدة العضوية، يعالج الشاعر فيها قضية ذاتية أو قضية كلية، نفسية أو فلسفية، كذلك يتوافر فيها الجدة في الشكل، فالبناء الفني في قصيدة النثر لا يعتمد على خلفية سابقة من فن آخر، فلم يستعر فيها الشاعر شكلا فنيا سابقا عليه حتى وإن أفاد من تقنيات هذه الأشكال الفنية السابقة، فيظل شكل  قصيدة النثر جديد ومبتكر، كما أن الكثافة وعدم الإطناب وعدم الاستطراد من أهم ميزات قصيدة النثر، فنرى أدونيس يقول عنها:”أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط مستقيم، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد منتظم الأجزاء متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقودها وتوجهها، إن قصيدة النثر تتبلور قبل أن تكون نثرا، أي أنها وحدة عضوية وكثافة وتوتر قبل أن تكون جملا وكلمات”(9).

     إن شاعرا مثل أنسي الحاج يرى أن قصيدة النثر جنس أو نوع أدبي مستقل، شأنه شأن الأجناس الأدبية الأخرى “كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق من صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وقصيدة وزن تقليدي وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر” (10). يواصل أنسي الحاج رؤيته الإشراقية التي تجعل من قصيدة النثر فوضى مقصودة تنبني على هندسة خاصة تجعل من الفوضى إشراقا خلاقا، ففي:”كل قصيدة نثر تلتقي معاً دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضًا على الصرامة والقيد.. إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع والغل، انتفاضة فنية ووجدانية معاً، أو، إذا صح فيزيكية وميتافيزيكية معاً.. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تتفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة” (11).

     لكن هل هذه السمات التي أوجزها أدونيس، وقالت بها برنار قبلا، سمات البناء الفني التي تعتمد على الوحدة العضوية والبنية المغلقة والجدة الفنية والتكثيف قد التزم بها شعراء قصيدة النثر؟ هل هي بمثابة قوانين ملزمة لشعراء قصيدة النثر؟ أم أن كل شاعر كتب تجربته الخاصة محافظا على بعض هذه الجماليات أو متمردا عليها مبتكرا؟ .

     لا شك أن قصيدة النثر تمردت على القيود التي وسمت القصيدة الكلاسيكية ومن بعدها قصيدة التفعيلة وأسست جمالياتها الخاصة المنفتحة على الفنون الأخرى، فأفلحت في تقويض القطبية الأساسية بين الشعر والنثر بإزاحة الحدود التقليدية بين الشعر والسرد، كما أزاحت الحدود بين اللغة المتعالية التي كان يطلق عليها اللغة الشعرية واللغة الاعتيادية، لغة الحياة اليومية.  وفي ظل هذه الإزاحة المتعمدة يبدو سؤال: ما الذي يفرق نصا لغويا عاديا عن نص شعري نثري؟ ما الذي يجعل نصاً ما “شعرياً” أو “أدبيا” حقاً؟

موقف النقد من قصيدة النثر

     أثار مصطلح “قصيدة النثر” منذ نشأته في بيئتنا العربية الكثير من الجدل، على عكس ما حدث في الثقافة الأوربية التي نشأ فيها، وأبرز ملامح هذا الجدل التناقض بين طرفي المصطلح (قصيدة،النثر) باعتبار أن المتعارف عليه أن الشعر الذي تمثله القصيدة مناقضا للنثر. وهذا الجدل لم يكن وليد العقود الأخيرة من عمر قصيدة النثر، فقد أشار الدكتور عبد القادر القط  إلى هذا التناقض، حيث لاحظ ما أثارته المفارقة في المصطلح، حيث يقول:”وقد أثارت المفارقة الواضحة بين طرفي المصطلح “القصيدة والنثر” وما زالت تثير- كثيرا من الجدل”(12).

     وقد تنبه توفيق الحكيم مبكرا إلى هذا النوع الأدبي في عشرينيات القرن الماضي، حيث يقول:”ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن وأنا في باريس بالشروع في المحاولة، فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع، وهو لا يتقيد بنظم ولا بقالب معروف”(13 ).

     وينقل الشاعر الراحل شريف رزق في مقال له في جريدة القدس العربي على لسان الباحث السوري حسين عفيف تعريفه لقصيدة النثر: الشعر المنثور يتحرر من الأوزان الموضوعة ولكن لا، ليجنح إلى الفوضى، وإنما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر عفو الساعة ومن نسجه وحده، أوزان تتلاحق في خاطره ولكن لا تطرد، غير أنها برغم تباين وحداتها، تتساوق في مجموعها وتؤلف من نفسها في النهاية هارمونيا واحدة، تلك التي تكون مسيطرة عليه أثناء الكتابة”(14).

     ويفرق أنسي الحاج بين المصطلحين، حيث يقول”لكن  هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما – والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع”(15).

     لكن جماعة “مجلة شعر” التي تأسست في بيروت عام 1957 على يد رواد قصيدة النثر الأوائل: يوسف الخال، وخليل حاوي، ونذير العظمة، وأدونيس، ثم انضم إليها: شوقي أبو شقرا وأنسي الحاج، ودعمها من خارجها جبرا إبراهيم جبرا وسلمى الجيوسي”(16). وقد أثار  أنسي الحاج جملة من التساؤلات في مقدمة ديوانه “لن” وجّهها ليس فقط لشعراء قصيدة النثر، إنما للنقاد الذين ينظرون لها مقدمة ديوانه (لن) إلى أسبقية كتابته لقصيدة النثر، حيث يتساءل:”هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر”.(17).

     إن موقف النقد العربي من قصيدة النثر كان موقفا مرتبكا، فقد وجدت قصيدة النثر معارضة كبيرة من النقاد والمتلقين، بل رفض البعض منهم المصطلح باعتباره يحمل تناقضا في بنيته اللغوية، أما البعض الآخر فرأى أن شعراء قصيدة النثر إنما لجأوا لكتابتها رغبة في الهروب من صعوبة الأوزان الشعرية وعدم إجادتهم لعلم العروض، في عموم الحال عجز الناقد الأدبي عن إيجاد آليات اشتغال تمكنه من الإحاطة بهذا النوع الأدبي والبحث في جمالياته في خصوصيتها، وأتصور أن أغلب من وقف في وجه قصيدة النثر وعارضها إنما انطلق من بنية تفكير أصولية تجد صعوبة أيديولوجية في التعامل مع الجديد وتجاوز القديم الذي يسيطر عليها.

     فالشاعر اللبناني  سعيد عقل وصف  قصيدة النثر بأنها تسمية بشعة وأنها إهانة للشعر والنثر معا، ومع ذلك منح محمد الماغوط جائزة الشعر رغم أن مشروعه الشعري نثري، وكذلك نازك الملائكة التي لم تتقبل تسمية شعراء النثر بالشعراء ولا قصائدهم بالشعر بل وصفت بعض قصائد الماغوط بالخواطر، وهذا الرفض لقصيدة النثر جعل روادها يدافعون عنها بشراسة ويقفون موقفا معاديا للموروث الشعري القديم باعتباره لم يعد صالحا لهذا الفكر الجديد، حتى أنسي الحاج في حوار معه في أخبار الأدب، أجرته الكاتبة عبلة الرويني يقول:”أشعر بالغربة في المقروء العربي، قراءة العربية تصيبني بملل لا حد له، وما أبحث عنه أجده في اللغة الفرنسية؛ لأن الفرنسية هي لغة ‘الانتهاك’ بينما العربية لغة ‘المقدسات”.

     ومن شعراء قصيدة النثر من اعتبر سؤال التراث والهوية وتجلياتهما في قصيدة النثر خللا، فنجد قاسم حداد أحد أبرز شعراء قصيدة النثر من جيل الوسط يقول:”ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة، كأن تكون الكتابة، خارج الوزن، معطى منسوخا عن تجربة – قصيدة النثر الغربية، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي.”(18).

     كما يعتقد أمين الريحاني وهو أول شاعر عربي اهتم بالشعر المنثور كحركة شعرية جديدة في الشعر العربي أن كرة “الشعر الجديد ستتدحرج وفق طرائقها وستثير في طريقها كل تلك الإشكالات التي واكبتها من جدلية تعريب المصطلح إلى إشكالية النموذج التحديثي للشعر المنثور مرورا بإعادة النظر في نظريات وأسس الاشتغال النقدي عموما”(19).

     وقد أرّخ عز الدين المناصرة لبدايات قصيدة النثر في جريدة “رأي اليوم” حيث يرى أن :”تطور قصيدة النثر منذ الريحاني (1910)، فقد أصدر توفيق صايغ (ثلاثون قصيدة، 1954)، وأصدر جبرا إبراهيم جبرا (تموز في المدينة، 1959)، وأصدر محمد الماغوط (حزنٌ في ضوء القمر، 1959)، وأصدر شوقي أبي شقرا (أكياس الفقراء)، وأنسي الحاج (لن، 1960)، وترجم أدونيس، مصطلح (قصيدة النثر) عام (1960) في مقالته عن قصيدة النثر حسب مواصفات سوزان برنار، وتلاه مقال أنسي الحاج في العام نفسه (1960)، حسب مواصفات سوزان برنار أيضاً. وترجمت أجزاء قليلة من كتاب سوزان برنار إلى العربية (زهير مغامس، 1993)، لكن الترجمة الكاملة لهذا الكتاب صدرت في مجلدين (عام 1998) و(2000)، بترجمة المصرية (راوية صادق) لأول مرّة. وهكذا أصبح كتاب سوزان برنار إنجيلاً وتوراة لكتّاب قصيدة النثر العرب، منذ عام (1960)، والمفارقة المضحكة المبكية هي أنهم فعلوا ذلك قبل أن يقرأوا هذا الكتاب في الفترة (1960 ـ 1998)”(20).

     لكن انتقاد المناصرة لاهتمام النقاد العرب بكتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر ليس محقا فيه، فقصيدة النثر العربية متأثرة فعليا بالشعر الأوربي والأمريكي، كما أنه لا يوجد جهد عربي نقدي يقرأ المشهد الشعري العربي وخاصة فيما يتعلق بقصيدة النثر، اللهم إلا بضعة كتاب اتخذت سمة التنظير، ولم تقم بقراءة تطبيقية حقيقية لشعراء قصيدة النثر وخاصة الجيل الجديد، واكتفى نقاد هذه الكتب على المراجع الغربية في التوثيق لقصيدة النثر العربية، وركزوا فقط على جيل الرواد من شعراء قصيدة النثر، رغم أنه ومنذ الانفجار الكبير في قصيدة النثر بداية من تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم اتسع المشهد الشعري النثري العربي وفاق قدرة النقاد على متابعته ومن هذه الكتب:” “قصيدة النثر: لشريف رزق و”قصيدة النثر” لأحمد بزون، “قصيدة النثر والتفات النوع” لعلاء عبد الهادي “قصيدة النثر” لمحمود الضبع، و”قصيدة النثر التغاير والاحتلاف” لإيمان الناصر و” قصيدة النثر، إشكاليات النوع وجماليات التشكيل” لصلاح السروي و”قصيدة النثر وإنتاج الدلالة: أنسي الحاج أنموذجا” لعبد الكريم حسن، وغيرهم.

قراءة جمالية في “الخروج في النهار” و”يارا”

     بداية وبعد قراءة ديوان “يارا” قراءة متأملة يمكن أن نضع له عنوانا يصلح أن تنسحب دلالته على أجواء وفضاءات الديوان وهو “شعرية المواجهة” حيث يتخذ الشاعر من الشعر سلاحا يواجه به العالم في قسوته وفجاجته. يقتحم الحياة والوجود عبر الشعر. فالخطاب الشعري الذي يقدمه لنا محمد رياض هو خطاب هامس وإنساني رغم أنه خطاب مواجه ومقتحم لهذا الواقع المتشظي. إنه يندغم في الواقع، يعيشه ويعيد تشكيله عبر الفضاء الشعري دون أن يقع في محاكاة هذا الواقع حتى لا يقع المقول الشعري في رؤى مرآوية تعكس هذا الواقع.

     تتبدى المواجهة منذ العتبات القرائية الأولى للديوان، فعتبة العنوان “يارا” تستحضر إلى ذاكرة القارئ يارا رفعت سلام التي أخذت سجينة كناشطة سياسية في موجة من موجات ثورة 25 يناير. ثم تأتي عتبة الإهداء “إلى شيماء الصباغ” شهيدة إحدى موجات ثورة 25 يناير أيضا، والتي اغتيلت في الميدان، فيمثل الإهداء عتبة قرائية مهمة تستدعي شيماء الصباغ وكل الخلفيات المعرفية عن الثورة وفعل المقاومة والاحتجاج على ما هو استبدادي وقاهر.

     إن الذات الشاعرة في النص تعي أهمية فعل المواجهة وتنحاز له ليصير فعل الثورة تجليا من تجليات المواجهة والخروج للميادين للمطالبة بالحقوق، لتنزاح الظلمة والقهر.

     ثم تأتي العتبة القرائية الثانية لتصير خطوة جديدة في سبيل فعل المواجهة، فالتصدير الذي بدأ به الديوان بمثابة الكشف لأهمية فعل الثورة:”كلُّهم يقبضونَ سيوفًا ومتعلمونَ الحرب… نشيدُ الأناشيد  3-8 “، فالخروج يمثل مواجهة “كلهم” والتحريض على مواجهتهم بفعل الثورة.

البناء  والتشكيل الدرامي

     تتجلى قضية الثورة في نصوص الديوان وتتوالي تقاطعاتها ومساربها ومحمولاتها الرمزية في فضاء الديوان، بوصفها زاوية الرؤية، ومحور إيقاع الفعل الشعري ومداراته المتنوعة. إننا أمام نصوص تحتفي بشعرية المقاومة وتحاول أن تقرأ العلاقات والتشابكات والتقاطعات التي تجمع ذلك الفعل الشعري. وبقراءة حركة الوحدات السردية في فضاء الديوان بحثا عن الإشارات والدوال في رمزيتها والتي تشكل الفضاء الشعري يتضح لنا ذلك من خلال البناء الدرامي، حيث ينقسم البناء الدرامي للديوان إلى ثلاث قصائد، القصيدة الأولى تحت عنوان “نشيد الأناشيد” والتشكيل البصري في الديوان يقترب من التصور الذهني لقصيدة النثر، حيث يتكون من تسع مقاطع رقمها من 1 إلى 9 وكل مقطع كتلة بصرية تتكون من عدة سطور متوالية، وكل مقطع يقدم سردية من سرديات نشيد الأناشيد التسعة يقوم الشاعر فيها بتعالقات نصية كثيرة مع الأساطير والتراث القومي والإنساني:”حبيبيَ طاقةٌ من نفادِ الصبر، لا تشغله العادات، ولا يعرفُ اللصوصُ أينَ يخبّئُ ابتسامته، غضبه باتساع العالم، وثورته تبدأ من دمي، ثم تغمرُ الميدان، ولا تنتهي بالموتِ تحتَ العرباتِ المصفحة. اقتربْ من الفردوسِ، ولا تسألْ: متى تنتهي المعارك؟ متى يحينُ الحصاد؟ متى ينقادُ العالمُ أمامَ رغبتنا؟ متى تأتي الغيومُ التي تجعلُ الساحاتِ أليفةً؟ والمقاهي التي سئمتنا، متى نستطيعُ أن نكتبَ فيها قصائدنا الأولى من جديد؟”(21).

     أما القصيدة الثانية وهي التي منحت الديوان اسمه “يارا” فهي مقاطع شعرية قصيرة تقترب في تشكيلها البصري من قصيدة التفعيلة، وتتوالى مقاطعها دون ترقيم أو تقطيع، ويقوم الشاعر فيها بتقديم سرديات متوالية عن الحبيبة المتخيلة وعلاقة الذات الشاعرة بها، حتى تكتمل في نهاية القصيدة قصة “يارا” التي صارت رمزا للتثوير والاحتجاج وفعل المقاومة الشعرية. وتبرز دلالة الثورة بوصفها قيمة تنبني عليها شعرية العالم، حيث.
     يجسد الديوان هذا المعنى ويرسل تجلياته في نصوص  الديوان  ويربط فضاء الحلم بالذاكرة.. الوعي باللاوعي.

     إن الذات الشاعرة تتمثل المرأة في النصوص بين صورتين، الأولى المرأة الواقعية التي تمثل بالنسبة للذات أملا بعيد المنال، لكنها تتطلع إليه لتدركه، ومن ناحية ثانية صورة أسطورية وفي الحالتين هي تقترن بفعل الحياة، التدفق، الشبق، الرغبة الملتاعة في الحياة ومقاومة الفناء، مُشَكِّلةً أيقونةً مُنسجمَة ومُتكامِلة لا تخلو من فوضى. لِنَقُلْ هي جمالية الفوضى الخلاّقة التي تَليقُ بقصيدة النثر:”ستبقينَ هنا

حتى لو تآمروا لغيابِك

وحرّضوا ضدّكِ كلَّ القطط

وأسكتوا الشعراء

ستخرجينَ من ضعفي امرأةً ناضجةً

بالشعرِ والقبلات

أنتِ آخرُ النساءِ في وطني

والعالمُ لم يعد يثيرُ تأملاتي

وشغفي

وكراهيتي”(22).

     والقصيدة الثالثة والأخيرة تحت عنوان “هوامش” تتكون من ثلاثة مقاطع تأتي بمثابة الكودا التي يختتم بها الدلالة الكلية للديوان، بل تكاد المقاطع الثلاثة تحكي قصة الثورة، فتمثل المقاطع كادرات ثلاث تحكي مشهد الثورة، فالمقطع الأول بعنوان “ألتراس” بما يمثله الألتراس من تمرد واحتجاج يختتم الدلالة الكلية للديوان، دلالة المقاومة والثورة، ثم يأتي المقطع الثاني بعنوان”عربة الترحيلات” لتكمل مشهدا تخيله القارئ بمجرد أن قرأ مقطع الألتراس، ثم يختتم الديوان بالمقطع الأخير “الجنود” ليكمل ما حدث، ولتكتمل السردية الكبرى التي بدأت منذ العتبات الأولى للديوان:”وأنا وحيدُ المعركة

تركتُ الرفاقَ يحسِبون الخسائر

وجئتُ لا لكي أودعَك

ولكن لأني أصدّقُ الدماء

أريدُ أن أُجرحَ من جديد

أن أصافحَ كلَّ يومٍ شهيدًا على الأقل

أن أضعَ الأفكارَ رهينةً

وأفتحَ النوافذَ

بثقةِ العائدينَ إلى الحياة”(23).

موقف الشاعر من التراث :

     لم تنشغل قصيدة النثر على نقيض شعر التفعيلة بالموروث القومي، بل وعى شعراؤها أن ثمة موروث إنساني كوني مشترك يمكن استثماره والمتح منه دون أن يعني ذلك قطيعة مطلقة مع الموروث القومي، إذ تبدو قصيدة النثر خارج هذه العلاقة، لا تعنى بالأيديولوجيا بقدر ما تعنى بالقضايا والهموم الإنسانية، فينشغل الشاعر بإعادة كتابة العالم وبنائه فنيا، كوسيلة من وسائل ترميم الذات المتشظية؛ هدما للبنى العتيقة، ليست البنى الذهنية والفكرية التي سيطرت على شعراء ما قبل قصيدة النثر فقط، بل البنى الاجتماعية وعلاقة الذات بالعالم، حيث العالم يبدو متشظيا وينتاب الذات الشاعرة شعور عارم بالبدد.

     وربما نفهم هذه العلاقة بين الذات الشاعرة والموروث القومي من ناحية وبينها وبين المشترك الكوني الإنساني من ناحية أخرى حينما نتذكر أن للترجمة أهمية كبرى في نحت المشروع الشعري النثري العربي، ليس ترجمة كتب النقد الغربي التي أصّلت لقصيدة النثر الغربية، لكن ترجمة الشعر، شعر رامبو وبودلير وغيرهم من شعراء الغرب، مما أثر في وعي الشعراء العرب الذين مثّلوا الموجة الأولى من موجات القصيدة النثر العربية (الماغوط ويوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم من شعراء قصيدة النثر).

     والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما موقف محمد رياض من الموروث القومي والموروث الإنساني؟ هل وعى التفاعلات النصية التي يمكن أن يحدثها التناص مع الموروث؟ وهل قام باسترفاد الموروث القومي فقط؟ أم تمكن من استحضار الموروث الإنساني كنص غائب في فضاء نصه الماثل؟ إن القصيدة الأولى من الديوان “نشيد الأناشيد” تكشف منذ البدء عن وعي الشاعر باسترفاد الميراث الديني التوراتي، فحتما سوف  يتبادر إلى ذهن القارئ التعالق النصي بين عنوان “الإنشاد” من الإصحاح الخامس من العهد القديم، فهل ثمة تشاكل دلالي بين القصيدة والعهد القديم؟ وهل ثمة شواهد مادية ماثلة في ديوان محمد رياض أم أن التعالق النصي كامن في طبقات الوعي بالديوان، لا يمنح دلالاته بسهولة للقارئ ويحتاج إلى قراءة تأملية قادرة على أن تحفر عميقا في طبقات النص الماثل “يارا”  سعيا إلى الوصول إلى النص الغائب ” نشيد الإنشاد”؟ وهل ثمة إزاحة متعمدة من قبل الشاعر للتجلي النصي للإصحاح الخامس من التوراة ولن يتمكن القارئ من الوصول إلى التفاعلات النصية إلا بالغوص في طبقات الرؤية التي تومض من بعيد كضوء خافت بالإنصات لصوته قد تبدد غياهب الظلام الماثل في النص الراهن؟. هذه أسئلة تطرأ على الذهن، ولن نعرف إجابات لها إلا بقراءة النص قرائية تفاعلية متأملة.

     يحضر نشيد الإنشاد في الديوان، ليس فقط بالتناص معه كعنوان، بل يصير بنية نصية باستلهام لغته وتراكيبه وجمله من ناحية، ومن ناحية ثانية بحركة السرد والدراما فيه:”حبيبيَ نجمٌ بعيدٌ ومخالبي عالقةٌ في الصخور، يُطل حبيبي كلَ ليلةٍ فيضيءُ ألمي، يغيبُ فتتشردُ أفكاريَ في الفضاء. أنا الطائرُ الشاعر. كنتُ سابحًا في السماءِ وأقعدتْني الهزيمة، مشيْتُ على الصخورِ حتى وَهَنَت مخالبي، جسمي ضئيلٌ وأجنحتي أثقلُ من الماءِ والذكريات”(24). 

     كما تحضر اللغة التوراتية وخاصة لغة نشيد الإنشاد في كثير من قصائد الديوان، فنجد الشاعر يستخدم تلك اللغة وهو يعبر عن علاقة الذات الشاعرة بالمحبوبة الأنثى وتجلياتها ورمزيتها.

     كما يحضر التصور التوراتي لدور حواء وتسببها في خروج آدم من الجنة وإلقاء اللوم عليها دون آدم واعتبارها محرضة على العصيان، فنجده  يقول :

“أيتُها المضيئةُ كتفاحةٍ ذهبية

كحوّاءَ محرّضةٍ على العصيانِ والتناسُل

أيتها الجنّيةُ التي روّعتنا

لا تكبري فينا

وابتعدي عن قصائدِنا المحاصرةِ حتى في الهواتف”(25).

     كذلك يتناص الشاعر مع أسطورة “إيثاكا” البلدة التي كان ينتمي إليه عوليس  أو أوديسيوس الذي غضب عليه إله البحر بوسيدون وجعله يتيه في البحار، حيث ترك بلدته  كي يكون من قادة حرب طرواة، وهو صاحب فكرة الحصان الذي بواسطته انهزم الطرواديون.وبعد فوزهم بالحرب فقد أوديسيوس صديقا عزيزا فأخذ يلعن الآلهة فغضب منه إله البحر بوسيدون فعاقبه بأن تاه في البحر عشر سنين لاقى فيها أهوالا كثيرة. ذكرت قصته في حرب طروادة في ملحمة الإلياذة لهوميروس كما أنه بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس أيضا:”إيثاكا ليست مطلقَ الحبِ، ولا مطلقَ الحلمِ، أو مطلقَ الحياة. ليست طالعةً من خيالٍ كما تصوّرنا. ففي كل زاويةٍ، في كل مقهىً أو شارعٍ، وحتى في السجون، إيثاكا جديدةٌ تخصُّنا، لم يبحرْ إليها أحدٌ، ولا اشتهاها محارب.

هنا يا جميلتي جنتنا المليئةُ بالجنودِ والمخاطر، المحاصَرةُ بالعصاباتِ والعملاءِ والانتحاريين، أنا شاعرُها، وأنتِ عيناها الطافرتانِ بالموسيقا، المشبعتانِ بنزْفِ الكبرياءِ ونصاعةِ البراءة. سنجعلُها حرةً من الوقتِ. نؤلُمها لكي تعترفَ بنا. ونغني لها قبل أن تنام. وعيونُها مفتوحةٌ على محبتنا.

شكرًا لضحكتِكِ التي تجلبُ الأساطير إلى غرفتي.

شكرًا لصوتِك

الذي يزرعُ الطفولةَ في دمي.. وفي موتي”(26).

     يدفع الشاعر محمولاته التراثية سواء كانت قومية أو كونية إنسانية إلى ما هو أبعد دائما من الطبقة الأولى من القراءة، وكأنه يدعو القارئ ليحفر عميقا في نصه الماثل بحثا عن نصوص غائبة تمثلها الشاعر وأقام جدلا بينها وبينه نصه، فالوعي بالتراث ليس فقط في تجليات ونصوص هذا التراث؛ لأن هذا التراث كامن في لاوعيه، فذاته الشاعرة تعيه وتحاول أن تستنطقه في نصوصها من أجل الوصول إلى الوصل مع الحبيبة:” أحبُّك

وأُحدِّثُكِ عن ساحراتٍ وآلهةٍ

عن حروبٍ قديمةٍ وأبطالٍ وأميرات

وفي عينيكِ يهدرُ الغضبُ وتهدرُ الشهوةُ

ويهدرُ الجنونُ والقتلُ والكبرياء

أنا الأكثرُ واقعيةً من كلِّ شيء

وجسدي موصولٌ بأولِ التاريخ

كطفلٍ يتعلقُ في حَلَمَة

طاقتي معادلةٌ للشمس

وحياتي أقلُ من طموحِ نملةٍ أو فراشة.”(27).

     يحرر محمد رياض قصيدته، ويمنحها حرية التحليق في فضاءات مباغتة، وينعكس هذا على اللغة، فتصبح أكثر شفافية واختزالا، ويكثفها بوخزات لها وقع الفلسفة أحيانا والسخرية أحيانا أخرى.. يدسها في نسيج الصورة، فتكتسب جدة وحيوية: “إن فمي يتذكرُ أنَّ نُدبةً تركتْ غموضًا فوقَ صدرِكِ، وأظافرُكِ التي علمتني اللهفةَ، لم تزل خطوطُها محفورةً فوقَ ظهري، كان الرصاصُ يعبُرُ في هتافِك، لهثتُ لأنقذَ القتلى، بينما تجمعينَ الأحجارَ في الميدان.

وكنتُ أحبُّكِ والموتُ ساخنٌ فوق كتفي

أحبُّكِ

والشوارعُ مزهوّةٌ بدمِ الحبيبات

أحبُّكِ

والعالمُ لا ينتظرُ اعتذارًا عن إقامتي وصخبي، التماثيلُ لا تعرفُني، والعشّاقُ يجمعونَ تذكاراتِهم من عبوّاتِ القنابلِ وفوارغِ الطلقات.

مَساءُ الخَيْر أيُّها الموت

مَساءُ الخَيْر أيّتُها الحرية”(28).

     يتسم النص الشعري لدى محمد رياض بجملة من السمات الجمالية والتقنية، حيث اللغة المكثفة والمختزلة للعالم، والولع بالمشهدية البصرية، وحضور العنوان بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبناء درامي له محمولاته الثقافية والمعرفية:” أيّتُها الزهرةُ المتقدة:

دعينا نرتّب أوراقَ الشقاءِ والتشردِ والنضالِ والكآبة

نعدُّ أسناننا المتآكلةَ من الدخانِ وطنطناتِ المقاهي

دعينا نخبّئْ رغباتِنا

من أجلِ لصوصٍ أكثرَ جدارةً منا

لم نكنْ ثائرينَ، ولا عشاق، ولا قديسينَ، ولا مجرمينَ، ولا بشرًا

أشباهُ وحوشٍ مموهةٍ نحن

نتاجرُ بأوجاعِنا الباردةِ القديمة

ويكنسُ التاريخُ العجوزُ عظامَنا المبعثرة

على أرصفةِ التثاؤب”(29).

     تتكامل الرؤية الكلية داخل الديوان، فتحضر الثورة والمواجهة كجزء مركزي في بنية الديوان، حيث لا نصبح أمام محض تأويل للإحالات المعرفية التي وردت في متن القصائد، بل نصبح أيضاً أمام نصوص تفتح أفق التلقي:”

وأنا شاعرٌ وشهيد

شجاعٌ ومتردد

عاشقٌ ومشتعلٌ بالكراهية

عاصفةٌ من الجنونِ والغناءِ والكتابة

حياتي تغريبةٌ يؤججُها التعصّب

ولديَّ من العبوّاتِ الحارقةِ والقصائدِ

ما يكفي لكي أقاومَ

لكي أنتصرَ”(30).

 

الخاتمة

     إن محمد رياض حينما عنون ديوانه بـ “يارا” ابنة الشاعر رفعت سلام التي سجنت على خلفية سياسية بعد ثورة 25 يناير وأهداه إلى شيماء الصباغ التي أغتيلت بعد نفس الثورة إنما يحيل بذلك إلى مروي لهما محددين، فتصير الثورة إطارا للحكاية، ونتتبع مسارات تلك الثورة في السرود المختلفة لقصائد الديوان، مع حفر جماليات شعرية وأسلوبية خاصة تجعل نصه مفتوحا على بِنى فنية أخرى، تستعير من السرد آلياته مع نزوع درامي  يعتمد في بنيته على مشهدية بصرية ضافية.

     كما أن الشاعر لم يتقيد بالتشكيل البصري المتوقع لقصيدة النثر التي تستخدم السطور الشعرية الطويلة المتوالية، فقد مزج بين السطور الطويلة والمقاطع الصغيرة. أما اللغة في الديوان، فقد مزجت ما بين اللغة المحملة بطاقات شعرية ولغة ما هو يومي واعتيادي مع الحرص على الصور الجمالية الكلية التي تناسب المشهدية البصرية التي ميزت الديوان.

 

المراجع والمصادر

1ـ سوزان برنار، قصيدة النثر، ت.زهير مجيد مغامس،معلي جواد الطاهر،دار المأمون،  

    بغداد،ص22.

2ـ صلاح فضل أساليب الشعرية المعاصرة – دار الآداب بيروت 1995،ص 12 
3ـ المرجع السابق،ص12.

4ـ  كمال أبو ديب: في الشعريةمؤسسة الأبحاث العربية – لبنان ط1ـ

    1987،ص12.

5ـ   كمال أبو ديب: في الشعريةمؤسسة الأبحاث العربية – لبنان ط1 – 1987

     م:12.

6ـ المرجع السابق،ص78.

7ـ المرجع السابق ص78.

8ـ أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت ، 1983،ص39.

9ـ المرجع السابق ،ص40.

10ـ أنسي الحاج، الأعمال الشعرية الكاملة، مقدمة ديوان “لن”، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الجزء الأول، .2007،ص22.

11ـ  المرجع السابق،ص21.

12ـ عبد القادر القظ، رؤية للشعر العربي المعاصر في مصر ، مجلة إبداع، عدد يوليو 97 ، ص 18 .

13ـ توفيق الحكيم: رحلة الربيع والخريف – دار المعارف، القاهرة 1964م.

14ـ “( شريف رزق: ظاهرة الشعر المنثور وتفعيل التأسيس  لقصيدة النثر- جريدة – القدس العربي، لندن 27/7/1999،)

15ـ (أنسي الحاج، مقدمة  ديوان “لن”، ط2، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1982،).

16ـ مجموعة مؤلفين، الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض،ط2،  1999.

17ـ أنس الحاج، لن، دار الجديد، بيروت،1994، ص5.

18ـ أيمن اللبدي: مسائل حول “قصيدة النثر العربية”، مكتبة الحوار المتمدن.

19ـ حورية الخمليشي ،الشعر المنثور والتحديث الشعري، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، المغرب،2011،ص34.

20ـ عز الدين المناصرة، تطور قصيدة النثر، جريدة الراية ، 2017. https://www.raialyoum.com/index.php/%D8%B9%D8%B2%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%87%D9%8A%D9%8E/.

21 ـ محمد رياض،يارا، دار روافد،القاهرة،2015،ص18.

22ـ المصدر السابق،ص63.

23ـ المصدر السابق،ص73.

24ـ المصدر السابق،ص11.

25 ـ المصدر السابق،ص31

26ـ المصدر السابق،ص19.

27 ـ المصدر السابق،ص56.

28ـ المصدر السابق ،ص17.

29ـ المصدر السابق،ص24.

30ـ المصدر السابق،ص25.

……………………………..

*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم