والفانتازيا fantasy/fantasia في الأدب هي الأثر الأدبي الذي يتحرر من قيود المنطق والشكل والإخبار، ويعتمد اعتماداً كلياً على إطلاق سراح الخيال .. ويطلق هذا المصطلح على جنس أدبي قصصي تقع أحداثه في عالم متخيل، يخضع لقوانين فيزيائية تختلف عن العالم الذي نعيش فيه، ويتناول شخوصاً غير واقعية وخيالية محضة وغرائبية غالباً، أو يصور عالماً يخضع لقوانين فيزيائية لم تُكتشف بعد، أو ميتافيزيقية تتناقض والحاضرَ والتجربة الواقعية ، ([1]) ، وهي تبدو – في النصوص الأدبية – في رؤى الأحلام والنصوص السيريالية ، والخيال العلمي ، وقصص الرعب وكل الممكنات الأخرى التي يمكن استحضارها من الإنسان ، رافضة كل ما هو واقعي ، وبعبارة أخرى ، فإن الفانتازيا هي سرد مؤسس ومحكم ، يقدم انتهاكات للأمور المقبولة بشكل عام([2]).
وفي تجربة الشافعي الأعمال الكاملة لإنسان آلي ، ( صدر الجزء الأول تحت عنوان : البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية ” القاهرة ، يوليو 2008 م ، ، أما الجزء الثاني فجاء بعنوان: غازات ضاحكة ” ، وصدر عام 2011 ، عن دار الغاوون ، بيروت ) وسنناقش هنا الفانتازيا بوصفها تيمة جمالية مميزة في نصوصه .
إن الملمح الأوضح في البعد الفانتازي هو ابتكار الكائنات الإلكترونية ، نيرمانا ومن تابعها ، لقد استطاعت الذات الشاعرة أن تجعلنا نعيش في عالم متخيل ، من صنعها ، قوانينه مأخوذة من الخيال ، من الواقع الافتراضي ، حيث لا نجد قانونا فيزيائيا حاكما ، فكل ما يعنّ في النفس ، يمكن إبرازه ، إنه عالم أقرب إلى الحلم في المنام ، حيث يمكننا رؤيتنا كل جماد ناطقا ، وكل ناطق جمادا ، يتداخل الزمن ، ويتعارك المكان، ويصحو الأموات ، ويموت الأحياء ، ناهيك عن الكائنات الإلكترونية المتغيرة في هيئات كثيرة ، وأشكال عديدة ، وأحداث مثيرة .
وإذا كنا نجد أحداثا متخيلة في الفضاء الإلكتروني ، فإننا يمكننا رؤية تلك الأحداث أيضا في أعماقنا ، وفي عالمنا الواقعي ، بل وفي دمائنا .
( بِمَنْ أَحْتَمي في هذه الليلةِ الباردةِ؟
القمرُ قريبٌ جدا
لكنه فريسةُ الرّحّالةِ والشعراءِ والمرضى النفسيين
المعاطفُ آثيرةٌ جدا
لكنني أخشى أن تفترسَنِي
نيرمانا حاضرةٌ في الدورةِ الدَّمويّةِ.. جدا جدا
لكنها أنبلُ من أنْ تُذيبَ دهونًا بيضاءَ
استقرَّتْ بِلُطْفٍ تحت جِلْدِي منذ سنواتٍ ) ([3])
نيرمانا من الواقع الافتراضي ، هذا الكائن المتخلق إلكترونيا ، يغزو الجسد البشري، ويعربد في دورته الدموية ، ويستقر تحت الجلد لسنوات ممتدة . والذات الشاعرة تعاني البرد ، ولا فائدة من المعاطف ، ولا حتى الاحتماء بالقمر ، والتلحّف بالسماء، فلا يجد نصيرا له إلا نيرمانا . دلالة المقطع الشعري السابق تشير إلى السخرية بكل ما هو تقليدي في حياتنا : القمر ، ملاذ الشعراء والحالمين والمرضي النفسيين والرومانسيين ، والمعاطف التي تدثرنا من البرد ، ويجعل البديل فانتازيا عبر نيرمانا.
( انقضضتُ عليكِ كنسرٍ
وانغرسْتُ فيكِ كحربةٍ
وتلاشَيْتُ ذرّةً ذرّةً
هكذا انتصرتُ عليكِ،
لأنني فعلتُ ما أريدُ
هكذا انهزمتُ منكِ،
لأنني فعلتُ ما تريدين!
مَن أنتِ؟
ومَن أنا؟ ) ([4])
النسر طائر حقيقي ، ولكنه اكتسى بعدا فانتازيا ، عبر تعملق الذات وهي تهاجم الأنثى المخاطبَة ، ثم تتخذ الذات شكل الحربة ، ولكن مفارقة الفانتازي كامنة في أن الهجوم تحول إلى ذوبان ، حيث تلاشت الذات ذراتٍ ، ويستوي بالتالي فعلا النصر والهزيمة ، لتكون ضدية جديدة ، وهي ضدية التعادل بين المنتصر والمنهزم ، فكلاهما ذاب في الآخر ، وحقق ما أراد .
( في اعترافاتِ نَحْلةٍ في قسمِ الشّرطةِ
وَرَدَ أﻧﻬا تغشُّ عَسَلَها بالجلوكوزِ
في اعترافاتِ زهْرةٍ في القسمِ نفسِهِ
وَرَدَ أﻧﻬا تغشُّ رحيقَها بالماءِ
في اعترافَاتِي أنا،
في منزلي ودونَ أيِّ ضغوطٍ،
وَرَدَ أنني أغشُّ الجميعَ،
حيث أَحْتَضِنُهمْ بذراعينِ مستعارَتَيْنِ
بينما ذراعايَ الحقيقيّتانِ تُطاردانِ نونا
أملاً في احتضانِها) ([5])
تأنسنت النحلة واعترفت بالغش ، وأن عسلها الطبيعي من الجلوكوز ، وكذلك الزهرة أن رحيقها مغشوش بالماء ، وكلتاهما في قسم الشرطة ، حيث الاضطهاد والقهر ، الذي أنطق حشرة ونباتا ، أما الذات الشاعرة فهي تعترف في منزلها ، دون ضغوط أنها اتخذت حالة فانتازية ، فتقرر أنها تحتضن الجميع بذراعين مستعارتين من آخر، وفضلت أن تستخدم ذراعيها الحقيقيتين في مطاردة كائنها الإلكتروني “نونا”. المقطع السابق يدين الغش مجتمعيا ، عبر تناص مفهوم ، مع موقف عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) ، عندما سمع بائعة اللبن تأمر ابنتها بمزج الحليب بالماء .. ، الموقف معروف ، وهنا تعاد صياغته ، عبر مزج العسل بالجلوكوز ، والمفارقة أن النحلة – وليس النحال ولا العسال – من يقوم بذلك ، وكذلك الزهرة تمزج رحيقها بالماء . إنه عالم الغش ، وتتورط الذات فانتازيا في حمايته بذراعيها المستعارتين ، وتبقى الإشارة بالذراعين الحقيقيتين واضحة ، في أنها تبحث عن الحقيقة والصدق في الفضاء الإلكتروني ، فقد سئمت عالمنا المغشوش كله .
( ما أسعدَ الدُّمية،
التي هَدْهَدَتْها أصابعُكِ
متى تُهدْهدينني
أيتها الدُّميةُ المحظوظةُ،
وتنفخينَ فيَّ من روحكِ
ومن سعادتِكِ؟ ) ([6])
الدمية الفانتازية ، تصبح أمة تهدهد الذات ، والعجيب أن الذات صارت دمية، إنها بنية المفارقة الضدية ، الدمية إنسانة ، والذات دمية ، ثم ينتهي النص بسؤال ، عن موعد نفخ الروح في الذات الجامدة ، من الدمية المؤنسنة ، إنه يعيد النظر للأشياء والجامدات والأشكال ، ويكتشف أنها قد تكون أكثر حنانا من الإنسان ، فليرتشف بعضا من هذا الحنان ، ومن روحها .
( قاسٍ ذلك الحَجَر
وكيف لا يقسو،
وهو صائمٌ عن ماءِ المطر؟
ليِّنٌ ذلك الحَجَر وكيف لا يلينُ،
وهو صائمٌ لربِّهِ؟
مزدوَجٌ ذلك الحجر وكيف لا يَزْدَوِجُ،
وهو: أنا، وأنا؟ )([7])
فانتازيا الحجر ، فصار هذا الجلمود عنوانا للقسوة ، ولكن القسوة تتخذ دلالة جديدة، وهي دلالة الصيام عن استقبال المطر ، ثم تنقلب الدلالة إلى ضدية ، فالحجر صار لينا وإنسانا عندما صام لربه ، فكل الموجودات حسب الرؤية الإسلامية للوجود عابدة لله ، والازدواج في الدلالة بين القسوة واللين ، هو الذات الأنوية . لتكون الفانتازيا أساسها : عالم الحجر صار إنسانا ، وعالم الإنسان صار حجارة ، فربما تكون الحجارة أعطف من بني البشر .