“جريمةُ” الفقراء وتفوُّق عليٍّ ذي الصّندل المقطّع

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د. إلياس زيدان

إطلالات تربويّة من شبابيك الوطن – 7

“جريمةُ” الفقراء وتفوُّق عليٍّ ذي الصّندل المقطّع   

ما كان ذنب هؤلاء الطّلّاب في المدارس سوى أنّهم كانوا فقراء مادّيًّا، و/أو أنّهم تعلّموا وعملوا لغرض تأمين العيش الكريم لأُسَرِهم. في سِيَرِهم ومذكّراتهم يُطلعنا بعضهم على قِمَم جديدة من القهر – مُضافة إلى تلك المذكورة في إطلالتنا السّابقة – بلغَها مديرو مدارسهم ومعلّموها. اعْتقدَ الطّالب رءوف عبّاس (1939-2008)، الّذي يسَّر لنا فهم معنى “المِقرعة” في إطلالتنا السّابقة، أنّه بعد تركه الكتّاب الّذي دخله وهو في سنّ الرّابعة وانتقاله إلى مدرسة السيّدة حنيفة السلحدار في القاهرة وهو في سنّ السّابعة “بدأ النحس الذي لازمه منذ الرابعة من عمره ينقشع، وتحول الكُتَّاب وقسوة الشيخ، وساديته في تعذيب التلاميذ إلى مصاف الذّكريات الحزينة”.[1] لكن سرعان ما خاب أمل الطالب رءوف، إذ “كان الضرب أساسيًّا في عمليّة التّعليم” في هذه المدرسة أيضًا، لا بل ترافق مع خاصّيّة إضافيّة. يشدّد رءوف: “ولكن المقامات الاجتماعية كانت تُراعى عند توقيع العقاب؛ فالمدرس يحرص في بداية العام على سؤال كل تلميذ عن “وظيفة” والده، فإذا كان موظفًا اهتم بالسؤال عن درجته، فإذا كان ولي أمر التلميذ موظفا “محترما” حظي بعقاب متوسط، وإذا كان الوالد برتبة “بك” اكتفى المدرس بقرص أذنه، أما غالبية التلاميذ من أبناء العمال والحرفيين فكانوا يُضرَبون ضرب الإبل”.[2] ولأيّ المقامات انتمى صاحبنا رءوف؟ يكتب في ذلك: “ولد صاحبنا لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ. كان والده عاملًا بالسكة الحديد يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال”.[3] بناء على ذلك، كيف تعامل معلّموه معه؟ يؤكّد الطّالب رءوف في هذا السّياق: “وكان صاحبنا من تلك الفئة التي يُشبع المعلمون فيهم ميولهم السادية”.[4] لم يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك ذروة أخرى في عقاب هذه الفئة من التّلاميذ: “ويبلغ عقاب التلميذ ذروته عنما يُستَدعى ولي أمره ليتولى عقابه بنفسه أمام جميع طلاب المدرسة في طابور الصباح، فيعلن ناظر المدرسة ما ارتكبه التلميذ من جرم، ثم يتولى ولي الأمر مراسم العقاب بقسوة بالغة.[5]  

أمّا الطّالب الحِمْصِيّ عدنان الملوحي (1924-) فيروي لنا في مذكّراته “بين مدينتين” أنّ ظاهرة الكتاتيب كانت قد اختفت تقريبًا في مدينته حمص، فانتسب إلى المدرسة الابتدائيّة مباشرة. صحيحٌ أنّ الكتاتيب أخذَت بالتّلاشي، لكنّ مديري ومعلّمي المدارس أَبَوا إلّا أن يحافظوا على “تراث” الفلق والعصا. يقيّم الطّالب عدنان الوضع واصفًا إيّاه بهذه الكلمات: “لكن ما روعني، بعد ذلك، وعذبني وأرهبني كثيراً، أن الفلق والضرب بالعصا على أكف الطلاب وظهورهم والإساءة البالغة إليهم، لم يكن قاصراً على صبيان الكتاتيب فحسب، وإنما كان الفلق والضرب بالعصا يقع أيضاً على الطلاب في المدارس الرسمية، وكنت أظن أنني وجيلي الصغير الذي لم يدرك عصر الكتاتيب قد نجونا من الفلق والضرب والتعذيب، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً، إذ لم يمضِ أسبوع على افتتاح العام الدراسي الجديد، حتى وقعنا بين أيدي بعض المديرين والمعلمين في مدرستنا، أو مدارسنا الابتدائية يومئذٍ، حيث كانوا يضربون الطلاب ويتشفون منهم، خاصة إذا كانوا من الطلاب الفقراء، ولم يكونوا من أبناء الذوات والوجهاء، وكان هؤلاء الطلاب يأتون إلى المدارس بثيابهم الرثة وجواربهم المرقعة، وبالقباقيب يستعيضون بها عن الأحذية التي لا قدرة لأهلهم على شرائها لهم، وكان أبناء الذوات والوجهاء يلقون الترحيب والعناية والرعاية”.[6] من التّبِعات الخطيرة الأخرى لمعاملة الطّلّاب القاسية هذه تَرْكُ العديد منهم المدارس إلى غير رجعة. يطلعنا الملوحي في مذكّراته على اتّساع تلك الظّاهرة بين أبناء الفقراء، فيكتب: “حتى أن عدد الطلاب الفقراء الذين كانوا يتركون المدارس الرسمية بسبب الضرب والعذاب والهوان، يساوي في بعض الأحيان عدد الطلاب الذين كانوا يتركون الكتاتيب ولا يعودون إليها!!”.[7]

يبدو أن ظاهرة ترك الكتاتيب والمدارس بسبب تعنيف الطّلّاب فيها كان ظاهرة واسعة الانتشار عمومًا، وليس ضمن فئة الطّلّاب الفقراء فحسب. في إطلالتنا السّابقة، ذكر أحمد أمين (1886-1954) قصّة ذلك الطّالب الذي ترك المدرسة بعد أن ضبطه مدير المدرسة يسرق كرّاسًا وعلّق في رقبته لوحة كتب عليها “هذا لص”.[8] لسنا ندري كيف كانت الحالة الاقتصاديّة لأسرة ذلك الطّالب. أمّا الطّالب المقدسيّ واصف جوهريّة (1897-1973) وأخوه توفيق، وقد كان والدهما محاميًا، فقد تركا مدرسة الدّباغة، وانتهى الأمر بأن ترك توفيق المدارس كلّيًّا. [9] وها هو نبيل عَناني (1943-)، وهو يصغر عدنان الملوحي بنحو عشرين سنة، يصف ظاهرة مشابهة في مدرسته الابتدائيّة في حلحول الفلسطينيّة. يؤكّد عَناني في مذكّراته “الخروج إلى النور” على أنّ “الخوف والإرهاب جزآن من العملية التعليمية”.[10] ويضيف: “اشتهر مدير المدرسة بجلد الطلاب قبل الدخول إلى الصفوف في مراسيم تُنظَّم صباح كل يوم أمام الجميع”.[11] وكان أشدّ الضرب إهانةً للطّلّاب حين كان المدير يدخل الصّفوف “ومَنْ يقع عليه العقاب يجلس في المقعد بشكل معاكس، ويقف المدير خلفه ويمسكه من يده ويضربه بالعصا على مؤخرته أمام جميع الطلبة في الصف”.[12] ويذكر الطّالب نبيل: “كثيرون من الطلاب تركوا المدرسة احتجاجاً على هذا الإجراء المهين”.[13]

وفي العودة إلى الطّلّاب الفقراء في المدارس، يكتب عدنان الملوحي: “فمن كان منهم صابراً وراغباً في العلم، احتمل كل هذا العذاب والضرب والهوان، وتفوق على جميع أقرانه، خاصة أولاد الأغنياء والوجهاء وأبناء الذوات”.[14] كانَ عليٌّ أحد هؤلاء الطّلّاب. لم يتعلّم في مدارس حمص ولا في سوريّة. ولد عليٌّ وتعلّم في فلسطين. جايل نبيل عَناني، لكنّه لم يكن من حلحول، ولم يتعلّم في مدارسها. سوف نخصّص بقيّة إطلالتنا هذه لزيارة عليّ والتعرّف على تفاصيل من مسيرته خلال السّنوات الأولى من تجاربه المدرسيّة.

عجيبة ظاهرة الضّرب على “المؤخّرة” التي ذكرها العناني، وتسمّى “القفا” أيضًا، ففي حالة الطّالب عليّ الخليلي (1943-2013)، ابن نابلس – جبل النّار – لم تُوَجَّه النّار هذه المرّة نحو عدوّ خارجيّ غاشم، بل نحو “قفا” الطّفل عليّ ابن هذا الجبل، طالب الصّفّ الأوّل في مدرسة الغزاليّة. في سيرته الذّاتيّة “بيت النّار”، يصف عليّ المشهد: “مدير المدرسة بهيج دروزة، يصرخ بالبوّاب “يا حسن” اسمه على اسم أخي الكبير حسن. شتان. يأتي البواب المطيع حسن مسرعاً، ويرفعني مثل قشّة، بين يديه. قفاي إلى وجه المدير، ووجهي إلى الأرض، تهوي عصا المدير على قفاي. مرتين، ثلاث مرات، أربع مرات. أكتوي بالنار. عشر مرات. أكاد أن أموت […] وأنا لم أتأخر عن المدرسة. والدي هو الذي أخّرني. وأنا أحب المدرسة. ولا أحد يسمعني، حتى وأنا أغمغم مبتعداً “أبو لهب”، أبو لهب، لقباً قاصداً به هذا المدير”.[15] يَدْخُل الطّالب الملتهبة قفاه الصّفّ علَّ النّار المشتعلة فيها تخمد. ربّما يحِنّ الأستاذ على هذا الطّفل المسكين ويناوله مرهمًا لتهدئة الحروق! وكيف تُخْمَدُ النّار ونحن في جبل النّار! يروي عليٌّ بحسرة: “وفي الصفّ، يعاقبني أستاذ الفن “فتيان” بضرب قفاي مرة ثانية، بإِجباري على الانحناء، على أول بنك […]”.[16] لكن، لماذا تأخّر عليّ، أو بالأحرى لماذا أخّره أبوه عن المدرسة؟ مثل الكثيرين من الأطفال في نابلس، وفي سائر فلسطين والوطن العربيّ الكبير، كان عليّ طالبًا وعاملًا كادحًا في الوقت نفسه. كان عليه هو وإخوته مساعدة والدهم الفرّان في إعالة الأُسْرَة التي عانت الأمرّين من النّاحية الاقتصاديّة. كان عليّ يعمل في فرن والده صباحًا وبعد الظهر – بعد الرواح من المدرسة – حتّى المساء. يصف صباحاته بقوله: “كنت أنقل طبالي الخبز على رأسي، من بيوت أصحابها إلى الفرن. مدوّرة من شرائط متسخة على رأسي الموجوع تحتها. ثم أعود بها إلى تلك البيوت الواسعة الكبيرة، ساخنة طازجة. أجرتي رغيف أو كماجة، من كل بيت. وأجرة والدي بضعة قروش، في كل أسبوع، أو كل شهر. لم أكن أذهب إلى المدرسة في الصباح، إِلا إذا شاهد الوالد طابور الصباح، وقد اصطفّ في ساحة المدرسة”.[17]

كان الطّالب عليّ يصل إلى المدرسة “مُشَحْبَرًا”، وبملابس رثّة وصندل مقطّع “والمعلمون قساة، وهم يكرهون الأولاد غير النظيفين. وأنا ابن فران، نهاري كله، وبعض ليلي في معظم الأحيان في الفرن. وكلي وسخ وشحبار”.[18] وعلى هذا يستحقّ العقاب، وأيّ عقاب! يروي عليّ أنّ أحد المعلّمين كان “يأمرني بالحبس الذاتي، داخل خزانة في حائط الصف، أنكمش وأدسّ جسمي فيها، عقابا لي، لأنني غير نظيف، أو أن صندلي مقطع […]”.[19] رغم ذلك كلّه، كان عليّ صاحب إرادة صخريّة، كصخور جبلَي جرزيم وعيبال النّابلسِيَّيْن، وكان طالبًا ذكيًّا ومجتهدًا، فبعد إنجاز العمل مع الوالد في الفرن كان يجلس هو وأخوه غازي مساءً “في البيت على ضوء نمرة 2، أو نمرة 4، ندرس وننسخ أو نحل الوظائف البيتية. ونحصل في نهاية كل فصل، على معدلات عالية”.[20] وهل شَفَعت هذه المعدّلات العالية لهذا الطّالب الكادح؟! هل نال الثّناء من مديره ومن معلّميه؟ على العكس من ذلك، فإنّ “جريمة الفقر” التي ارتكبها عليّ لا تُغتفر، وعلى المدير والمعلّمين تلقينه “الدّروس” التي لن ينساها أبدًا. شعر الطّالب عليّ بأنّ مدير المدرسة ومعلّميها كانوا يحبّون ويحترمون الطّلبة الأغنياء، وكانوا يحتقرونه، ووصل الأمر بهم أنّهم كانوا “يغاوزون لهم، ويسرقون من علاماتي المدرسية ليعطوها لهم”.[21] أمّا ذاك المعلّم الذي كان يأمره بالحبس الذّاتيّ فقد “كان أحياناً، حين أحصل على علامة كاملة، عشرة من عشرة، يقول إِنه “قررنا أن نأخذ خمس علامات من علي، ونعطيها إلى أحمد!””.[22] وعندما كان يسأل عليّ أستاذه مستنكرًا: “لماذا، يا أستاذ؟” كان الأستاذ “يلطمني على وجهي، ويقول: “أنت لا تستحق هذا النجاح الباهر!””.[23]

كان المدير والمعلّمون يضربونه وكان هو ينسخ دروسه، كانوا يلطمونه وكان هو يحلّ وظائفه البيتيّة، كانوا “يغاوزون” ضدّه وكان هو يجتهد في دروسه، كانوا “يسرقون” علاماته وكان هو يُطالع… كانوا… وكان هو… نعم، كان عليّ محبًّا للمطالعة. وأين كان يعثر على الكتب والصحف والمجلّات؟ كان لديه منبعان أساسيّان؛ المكتبة – مكتبة المغربي – والفرن، فرن والده. وكيف يكون الفرن “منبعًا” للثّقافة والتّثقيف؟! ينوّرنا عليّ بأنّه كانت في فرن والده “أكوام المجلات والصحف المستعملة التي يشتريها الوالد بالكيلو، لتساعد في إيقاد الشعلة الأُولى تحت الحطب والجفت […] أفتش عن مجلةٍ تحت الطاولة، وبين الحطب، فأجد واحدة، أقلِّب صفحاتها الباقية، المهترئة، المتسخة”.[24]

كان الطّالب عليّ يهرب من العمل الشّاقّ في الفرن، ومن المعلّمين القساة، ومن منغّصات أخرى. ما أجمله من هَرَب! لم يكن هروبه تقهقر الجَبان المخذول، ولا هروب النّاقم المُنتقم من الدّنيا. كان يهرب إلى “المكتبة، أو دكان الورّاق المغربي”. وهو يؤكّد بإصرار: “أستعير كتاباً أو مجلة بتعريفة فيها ثقب، وفيها مصروفي الأسبوعي كله، لأقرأ غير فروض المدرسة الصارمة، ولأكتشف إبراهيم طوقان وحدي مبكراً، وقبل أن تعلمني مدرسة الخالدية نشيده الخالد “موطني””.[25] من خلال مطالعاته اكتشف عليّ أنّ الدنيا أكبر بكثير من عالمه الصّغير الذي يعيش فيه، “وأوسع أيضاً من رغبتي الطفلية الجامحة في معرفة المزيد عن حيطان ذلك البيت العالي، بيت إبراهيم، من درج إلى درج، ومن باب إلى باب، إلى شجرة تعلو فوق القناطر والسقوف، فكيف؟ إِلى امرأة بقفازها الأبيض، ومظلتها، ونسيمها وظلالها وشهرتها، هي فدوى طوقان”.[26]

وعن فدوى ولقائه بها يكتب: “كنت أعرف أنها الشاعرة التي تتبعها الأعين، وتلهج باسمها الألسن، في كل مكان، ومن ذا الذي يهتم بمعرفتي لها، وهي التي يعرفها الجميع في نابلس، كباراً وصغاراً؟ لم أتمايز في هذه المعرفة، ولم أكلمها أبداً، وأين لي أي كلام معها؟ وهل يمكن لطبليّة الخبز على رأسي، من بيتها إلى الفرن وبالعكس، أن توفر لي فرصة الكلام؟ أي مجنون صغير، لو كان هذا، يمكن لي أن أكون؟”.[27] ويضيف الطّفل حامل طبليّة الخبز والصّخريّ الإرادة: “لكن هاجس الشعر الذي صار يطرق صدري طرقات عنيفة، كان يعصف بلساني أن يحكي، وأن ينطق، وبيدي المرتجفة أن تمتد أكثر فأكثر، نحو تلك الظلال، ولم أفعل شيئاً، ما حكيت، وما نطقت، وما عبرت إِلى الظلال، إِلا إِنّ الشعر في داخلي، كان قد ولد حقاً، فانكببتُ على الكتب أقرأ فدوى، وأقرأ إبراهيم، وأقرأ العالم كله، دون كلام، وما حاجتي إلى أن أكلّم أحداً، وهذه الكتب ناطقة، حاكية معي، بما أحببتُ، وبما يشتعل في دمي، دون تردد أو تساؤل عمّا يجوز، ولا يجوز، […] أو كأنني أهجس بأغان من عندي، أصنعها في داخلي، فتحملني إليها، دون أن أدرك أنني حاملٌ أو محمول فيها”.[28]

بعد الصّف السّادس انتقل عليّ إلى مدرسة الكندي، وشكّلت هذه المرحلة “مفصلاً جديداً بالنسبة لي، ليس على صعيد المكان فقط، وإِنما أيضاً، وبما هو أكثر تأثيراً، على صعيد “النص” الذي كان يغلي ويفور في داخلي”.[29] ويضيف: “لم تعد تسحرني الأناشيد المدرسية، ولم أعد أعشق رسم العصفور على الشجرة […] لكنني أبحث عن شيء مختلف. أندفع إلى مكتبة المغربي، أنقب وأفتش فيها، دون هدف أو كتاب بذاته […] ولا أنسى أن أقلّب الكتب والصحف والمجلات القديمة الممزقة والجاهزة للحرق في الفرن، ما بين حين وآخر، لأحصل على كتاب من ذلك الركام القذر، أستطيع أن أقرأ ما تبقّى من صفحاته”.[30] وجاءت الزلزلة “التقطت من تلك “الزبالة” في أحد الأيام، كتاباً شبه سليم، يحمل على غلافه الداخلي الباقي، عنوان “نذير العاصفة” لمؤلفه مكسيم غوركي […] قرأت الكتاب فزلزلني من أساسي […]”.[31]

مرّ الطّالب عليّ بحادث سيّارة أليم، أقعده مدّة شهر في البيت استغلّها “لقراءة المزيد من الكتب والمجلات الممزقة في معظمها. كان الوالد يحمل لي، كي يرضيني ويخفف عني، من “زبالة ورق” الفرن، ما يستحسنه من أشكال الكتب والمجلات التي تتراكم عنده كل يوم، وقد كان يرضيني هذا الحمل الجميل منه فعلاً، فوق أي رضاء يمكن لأحد أن يتصوره”.[32] تماثل عليّ للشّفاء… ويتابع قصّته: “ثم، عدت إلى مدرستي الكندي، ومعي حفنة صغيرة من أشعاري، عرضت الحفنة على أستاذ اللغة العربية، كان اسمه محمداً […]”.[33] لكن الأستاذ “لم يكترث بيدي الممدودة بالورق، أو بالحفنة الغالية، وقال لي: “التفت لدروسك!””.[34] تعيدني هذه المعاملة إلى إطلالتنا الأولى، وإلى تعامل الأستاذ “ربيع” مع طالبه إبراهيم نصر الله (1954-) في كلّ مرّة كتب إبراهيم فيها نثرًا أو شعرًا أو أغنية.[35] وقع سلوك الأستاذ كالصاعقة على عليّ، ويقول صراحةً: “كرهته […] لماذا لا يكترث بي؟ ولماذا لا يفهم أنني قرأت كل كتب اللغة العربية المقررة لصفي، وتلك المقررة للصف الذي يليه، كتب غازي أيضاً، وقد صار يقرزم مثلي، فنحسب أننا الشاعران، دون ريب؟”.[36]  

كيف كانت ستتطوّر قصّة حياة الطّالب عليّ وشِعْره لو تجرّأ على محادثة فدوى طوقان (1917-2003)، ومدّ يده إليها بتلك “الحفنة الغالية” من أشعاره؟ كيف كانت ستتطّور قصّته وشِعْره لو حظيَ بمعلّمة أو بمعلّمات كما حظيت فدوى بمعلّمتها السّتّ “فخريّة الحجّاوي”؟ تلك المعلّمة التي اكتشفت موهبة الطّالبة فدوى، فأطرتها وشجّعتها على تعلّم نظم الشّعر من أخيها إبراهيم طوقان.[37] هل كان سيصبح شاعرًا وكاتبًا أفضل، وفي وقت مبكِّر؟ إلى جانب ذلك، كيف كان حضور النّساء المديرات والمعلّمات في الكتاتيب والمدارس سيؤثّر على التّعامل مع الطّالب عليّ الخليلي ومع إخوته المقهورين في مدارسهم، من أمثال رءوف عباس وعدنان الملوحي ونبيل عناني وإبراهيم نصر الله وغيره؟ كيف كان هذا سيؤّثر فيهم آنذاك، وفي حياتهم المستقبليّة؟ وأيّ ذكريات كانوا سيحملون وسيروون في سِيَرِهِم ومذكّراتهم؟ ليس في الإمكان الجزم، كما ليس في الإمكان إعادة عجلة التّاريخ إلى الوراء، لكنّ في إمكاننا أن نتعلّم من شهادات بعض الطّلّاب – كتّاب السّيرة، لاحقًا – الذين سنحت لهم فرصة التّعلّم في كتاتيب ورياض أطفال ومدارس أدّت فيها النّساء أدوارًا إداريّة وتعليميّة. يساعدنا بعض هؤلاء الطّلّاب على المقارنة بين تجاربهم مع النّساء وتجاربهم مع الرّجال خلال تتلمذهم في تلك المؤسّسات.

من دواعي سروري أن ترافقوني في جولة على بعض هؤلاء الطّلّاب في إطلالتنا القادمة.

ألقاكم/نّ بخير.

 

………………………………..

[1] . عباس، رءوف. (2008). مشيناها خطى: سيرة ذاتية. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية. ص 31.

[2] . المصدر السابق. ص 38.

[3] . المصدر السابق. ص 22.

[4] . المصدر السابق. ص 38.

[5] . المصدر السابق. ص 38-39.

[6] . الملوحي، عدنان. (1990). بين مدينتين: من حمص الى الشام.  لندن: رياض السيد للكتب والنشر. ص 120.

[7] . المصدر السابق. ص 120-121.

[8] . أمين، أحمد. (2011). حياتي. القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 48.

[9] . جوهريّة، واصف. (2003). القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الأول من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية 1904-1917. تحرير وتقديم سليم تماري وعصام نصار. القدس: مؤسسة الدراسات المقدسية.

[10] . عَناني، نبيل. (2019). الخروج إلى النور. مراجعة النّصّ وتحريره رنا عناني. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ص 11.

[11] . المصدر السابق. ص 13.

[12] . المصدر السابق. ص 13.

[13] . المصدر السابق. ص 13.

[14] . الملوحي، عدنان. (1990). بين مدينتين: من حمص الى الشام.  لندن: رياض السيد للكتب والنشر. ص 121.

[15] . الخليلي، علي. (1998). بيت النار: المكان الأول، القصيدة الأولى، سيرة ذاتيّة. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع. ص 60-61.

[16] . المصدر السابق. ص 61.

[17] . المصدر السابق. ص 60.

[18] . المصدر السابق. ص 66.

[19] . المصدر السابق. ص 158.

[20] . المصدر السابق. ص 72.

[21] . المصدر السابق. ص 158.

[22] . المصدر السابق. ص 158.

[23] . المصدر السابق. ص 158.

[24] . المصدر السابق. ص 29.

[25] . المصدر السابق. ص 152.

[26] . المصدر السابق. ص 153.

[27] . المصدر السابق. ص 153.

[28] . المصدر السابق. ص 153.

[29] . المصدر السابق. ص 159.

[30] . المصدر السابق. ص 159-160.

[31] . المصدر السابق. ص 160.

[32] . المصدر السابق. ص 181.

[33] . المصدر السابق. ص 183.

[34] . المصدر السابق. ص 183-184.

[35] . نصر الله، إبراهيم. (2022). طفولتي حتّى الآن: رواية. الطبعة الأولى. الشارقة: الدار العربية للعلوم ناشرون. ص 239.

[36] . الخليلي، علي. (1998). بيت النار: المكان الأول، القصيدة الأولى، سيرة ذاتيّة. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع. ص 184.

[37] . طوقان، فدوى. (1985). رحلة جبلية رحلة صعبة: سيرة ذاتية. الطبعة الثانية. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.

مقالات من نفس القسم