محمد عبد الفتاح السرورى
المبدأ معروف الموهبة وحدها لا تكفي – وهو مبدأ صحيح بالمطلق، يؤكد الواقع صدقه ويبرهن التاريخ على ديمومته… فالموهبة تحتاج إلى إدارة أما الإدارة فتحتاج إلى وعيٍ بالواقع وفاعلية فى القرار… وكما أن بضدها تتمايز الأشياء فأيضاً تتمايز الشخصيات والسير.. ولنبدأ تاريخياً ولنطرح السؤال ولنعيد طرح السؤال الذى طالما طرحه الكثيرون ما هو الفرق بين مسيرة أسمهان وأم كلثوم ؟ إنهما يتباريان فى طلاوة الصوت وقوة الأداء ولكن أم كلثوم تميزت بأنها أكنت أكثر تواصلاً مع الجمهور، فلم يكن بينها وبين مستمعيها أى حائط حتى لو كان حائطاً زجاجياً ربما يرجع ذلك إلى طبيعة النشأة وأيضاُ إلى ماضيها الذى كان السفر فيه إلى المناطق الريفية وإحياء الأفراح شيئاً متكرراً وضرورياً بحكم السعى وراء الرزق ولكن وعلى النفيض تماماً نجد أن الإرستقراطية أسمهان لها أداءً شمعياً – تمثيلاً وغناءً –حتى أن بعض ممن يحبون تقليد الفنانين كانوا يقلدون أسمهان بذكر كلمتهيا الشهيرتان – إذن.. لكن – بطريقتها المتعالية، وعلى حد علمنا أنّ أسمهان لم تحيي حفلات حية على المسرح مثل أم كلثوم وإن كان قد حدث – فهو لم يستمر ويرجع ذلك لسبب بسيط هو أن التواجد على المسرح يحتاج الى شخصية هى أبعد ما تكون عن شخصية أسمهان المترفعة فمن المعروف أن للجمهور سطوة وقسوة فى كثيرٍ من الأحيان مما يستلزم من الفنان أن يكون على نفس مستوى القوة سواء بالتفاعل معه أو بمواجهته إذا خرج عن حدوده وهو ماكانت تفعله سيدة الغناء العربي ذات الشخصية القوية واللسان الحاضر بالرد اللفورى إذا إستدعى الأمر…
أما الفنان الذى يعد وبحق مثالاً للبرجماتية هو الموسيقار محمد عبد الوهاب.. مسيرة عبد الوهاب الفنية معروفة ولا مقام هنا لتكرارها ولكن ما يهمنا فى هذا المقام هو أن نذكر العقلية العملية لموسيقارالأجيال فى التعامل مع الزمن – ومع الواقع – ففى وقت معين لا يخلو من حكمة الرصد – وفضيلة الإعتراف – إنسحب عبد الوهاب من أمام كاميرات السينما تاركاً المجال لهذا الشاب الصاعد عبد الحليم محتضناً إياه. ورغم أن عبد الوهاب ترك الكاميرا لكنه يترك السينما وأسس مع عبد الحليم شركة صوت الفن…. إعتزل الغناء فترة طويلة لكنه لم يعتزل التلحين يوماً… بإختصار.. إحترم عبد الوهاب الزمن – وقليلو من يفعلون ذلك – ولذلك إحترمه الزمان.. إنسحب حتى ينتصر.. وأنصرف حتى يظل موجوداً وهو ما حدث بالفعل..
… ومن ذكر موسيقار الأجيال نقفز عبر الأجيال التى تلته.. إلى بداية التسعينات من القرن الماضى كانت هناك مساحة من الفراغ وبحكم القانون الفزيائى المعروف (الطبيعة تكره الفراغ) فقد وجد المطربون الشباب – آنذاك ضالتهم فى هذا الفراغ – وملؤه.. وظهر من بعد جيل الحجار ومن قبله هانى شاكر.. مجموعة كبيرة من المطربين قادهم بكل جدارة حميد الشاعرى الذى كان قاسماً مشتركاً فى كثير ٍ من الألحان الناجحة… وبالتوازى هناك من تفاعل وواكب الزمان – كما فعل عبد الوهاب فى وقتٍ من الأوقات مع عبد الحليم – وهناك من رفض وعادى هذا التيار الجديد وكان أبرزهم أثنينأولهما الموسيقار محمد الوجى والملحن حلمى بكر… أما الموجى فمن الممكن أن نلتمس له العذر فـ الجيل غير الجيل والفجوة الزمنية والمعنوية هائلة لهذا كان الموجى شديد العداء لهذا التيار الغنائى الجديد الذى لاقى نجاحاً بين أوساط الشباب.. أما الموسيقار حلمى بكر فلا عذر له.. فقد كان وقتها لايزال فى أوج عطائه.. ملحناً قديراً لمع أسمه بشده مع الفنانة نجاة ودعمه تلحينة لمقدمات الفوازير – نيللى – ولكن – ولسبب غير مفهوم – اتخذ بكر موقف معادى للفنانين والفنانات بشكلٍ مبالغٍ فيه… ومنذ مايقرب من ثلاثين عاماً وحتى الآن لم يضف حلمى بكر شئياً يذكر لعالم الألحان رغم موهبته التى لا يختلف عليها إثنان… ولم يقتصر الأمر فقد على الملحنين بل تعدى أيضاً الى مطربين من نفس الجيل، ناصبوا التيار الجديد العداء رغم أنهم بشكل أو بآخر مدينون له بنجاحهم وأكان أبرزهم المطرب إيمان البحر درويش الذى نجح فى بداياته نجاحاً مدوياً وليس حقيقة أن نجاحه يرجع إلى اعتماده على إسم جده خالد الذكر بل لأنه كان يتمتع بحضور قوى وملامح بريئة أحبها الناس ولكن وللأسف لم يستمثر إيمان البحر كل هذا المعطيات ونصّب من نفسه ناقداً وناقماً ومع مرور السنين دخل فى دواماتٍ أخرى لا علاقة لها بالغناء بل على العكس تماما ً إعتزل لفترة ثم عاد ورغم عودته لا يزال يمارس دور الناقد على زملائه ناسياً أن يجب عليه أن يفعله فى الأساس وهو الغناء… منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عاماَ أو يزيد لم يضف أيما البحر درويش شيئاً يذكر لا إلى عالم الغناء ولا إلى عالم التلحين.. ولكنه أضاف الكثير من الآراء والمداخلات و…و…..
ومن جيل إيمان البحر درويش كان الطرب محمد ثروت الذى لمع كثراً فى منتصف الثمانينات تقريباً ولكن ثروت سار فى نفس الطريق الذى سار فيه موسيقار الأجيال ليس بنفس السيناريو لكن بنفس المنهج والعقلية.. أحسّ ثروث أنه لن ييستطيع أن يجاري التيار الجديد الذى يستلزم نوعية معينة من الأداء لا يتسق مع طبيعة شخصيته المتحفظة فآثر الإنسحاب بهدوءٍ متفرغاً لمشرعة الصناعى الذى ورثه عن أسرته.. وكان يتواجد بين الفينة والأخرى على أستحياءٍ.. وأضاف هذا الإبتعاد الى ثروث الكثير وكان أهم شئ أضافه اليه هو إحترامه لنفسه وإحترام وحب الجمهور له.. لم ينصب ممد ثروت نفسه حكماً –كما فعل غيره – ولكن أنعزل ولم يعتزل حتى عاد مؤخراً بأغنية لم تلق الكثير من النجاح ولكنه وجدث الكثير من التقدير المستحق لمؤديها…
ومن نفس الجيل كان مدحت صالح الذى عرف النجاح مع أغنية – السهرة تحلى – التى استقبلها الجمهور استقبالاً حسناً ثم توالت النجاحات مع الفنان شريف منير فى دويتو – المليونيرات – التى كانت كثيراً ما تذاع فى البرنامج أمانى وأغاني الذى أعاد الحياة لفترة الظهيرة فى الإرسال التلفزيونى آنذاك… ثم جاءت رائعتة – كوكب تانى – التى قفزت به إلى الأمام… وماهى إلا سنواتٍ حتى حتى حقق تواجداً آخر بعرض إحدى المسرحيات التى لا قت نجاحاً تجارياً كبيراً ولكن رغم كل هذه النجاحات لم يفلح صالح فى استثماره عبر الزمن مكتفياً بالنجاح المؤقت الذى يحققه كل عملٍ على حده ناسياً مثله مثل المطرب محمد فؤاد أن النجاح يحتاح إلى متابعة وهو ما لم يفعله فؤاد بدوره.. بدأ محمد فؤاد فى نهاية الثمانينات وحقق النجاح بنوعية من الأغانى كان لها صداها فى الشارع المصرى وخاصة بين الشباب والمراهقين – القوة الضاربة لأى مطرب أو فنان بصفة عامة – ثم توالت نجاحاته بعد ذلك وحقق نجاحاً ملحوظاً بفيلم أسماعيلية رايح جاى ثم جاءت أغنية أودعك فى منتصف التسعينات – لكى تضيف إليه الكثير ثم أغنية الحب الحقيقى – رغم ما يؤخذ عليه من استغلاله للأطفال فى أغنية موضوعها أبعد ما يكون عن عالمهم– إلا أن الأغنية بصفة عامة حققت نجاحاً ولكنه لم يستثمر ذلك النجاح بل دخل فى دومات أخرى مثل التأليف التلفزيونى – وهو ليس مجاله – أو نوعية من الأفلام ذات الموضوعات المفتعلة والتى بها الكثير من التقليد لموضوعاتٍ قديمة – وبكارثة برنامج رمضانى ينتمى الى نوعية برامج المقالب.. حتى أزمته الأخيرة فى أحد المسلسلات الذى لم يحقق نجاحاً يذكر… وكل هذه الإخفاقات ترجع إلى عدم التركيز والتشتت فى الإدارة والدخول فى مجالات غير مجالاته رغم أنه من أكثر الأصوات دفئاً مثله مثل محمد الحلو صاحب أغنية عراف والمقدمة الشهيرة لمسلسسل ليالى الحلمية والذى تاه بعد ذلك فى غياهب النسيان.. مثله مثل الكثيرين…
ومن نفس الجيل تقريباً كان شريف منير الذى بدأ مبكراً، عرفهُ الناس من خلال مسلسل رحلة المليون وتوالت أعماله وكان أشهرها الجزء الأول من المال والبنون ودوره الرائع فى مسلسل ليالى الحلمية… أما فى مجال السينما و التى لها قوانين مختلفة قام بالعمل فى فيلمٍ مع المخرجة إيناس الدغيدى وعلى ما يبدو أنه شعر وقتها أنه أصبح نجماً أو بمعنى أخرى أنه يجب التعامل معه على هذا الأساس وهو مالم يحدث بطبيعة الحال ولأن السينما قوية لا أحد يستطيع أن يُغير قوانينها.. وجد شريف منير نفسه لم يحقق تقدم وبعقلية برجماتية – تحسب له – عادَ مع الفنان أحمد السقا فى أحد الأفلام رغم أنه ليس صاحب الشخصية الأولى فى الفيلم ورغم أنه يسبق السقا زمنياً وكان من نتيجة – إدارة الموهبة – أنه يعمل من وقتها ويتقدم حتى أكتسب مكانة فى قلوب الناس وها هو الآن يحترم سنهُ. إن ما فعله شريف منير هو الترجمة الحرفية لمعنى إحترام الذات والتعامل مع الواقع وعدم التعالى على الحقيقة (مثله فى ذلك فتحى عبد الوهاب وأحمد رزق).. ولذلك هو موجود وهم موجودين يعملون وينجحون….
وبالعودة إلى جيل ٍ سابق… حقق الفنان محمد صبحى نجاحاً تلفزيونياً كبيراً فى السبعينات بمسلسل فرصة العمر وشخصية على بيه مظهر وأضاف إليها الكثير وكانت (اللازمة الشهيرة لعلى مظهر) سبباً فى تعلق الجمهور بها ثم توالت نجاحات صبحى المسرحية مع نديمه لينين الرملى.. لم يتواجد صبحى فى السينما اللهم إلا بفيلم حقق نجاحاً لابأس به وهو فيلم (هنا القاهرة)…. ثم عاد مرة أخرى إلى التلفزيون بمسلسل (رحلة المليون )…ومرت السنوات.. وتغير الزمان ولكن صبحى رفض الأعتراف.. وأقدمَ على كتابة وتمثيل وإخراج بعض المسلسلات التلفزيونية ولكنها لم تلق النجاح المعتاد.. يستطيع صبحى أن يتواجد على الساحة الفنية ولكنه يرفض ويتعالى لأنه لن يستطيع أن يكتب على كل عمل أنه (رؤية تلفزيونية ) مثلما حدث مع أحد المسلسلات رغم أنه لم يكن هو مخرجها…
هناك من يقبل تغيرات الزمن ويعترف بها ويحترمها مثل الفنان محمود حميده الذى أقر بحضور الزمان فى قبوله لأعماله..
الموضوع يطول فيه الحديث والامثلة لا تعد ولا تحصى.. وأجيال وراء أجيال هناك من ينتبه ويعترف وهناك من يرفض ويتكبر حتى يقع إما فى براثن الإكتائاب أو هاوية الأمراض أو يكتفى بالهجوم على الآخرين.. وهو ما يفعله كل من لا يريد أن يعى أنه إنما فقط يقوم بدورٍ من أدوارٍ فى دورة الزمان.