جدلية الماضي والحاضر في مرآة الأنا الشاعرة.. قراءة في قصيدة ” البنت الطيبة التي كانت تحب أصابعي ” للشاعر البهاء حسين

محمد سعيد شحاته
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد سعيد شحاتة

تحتفي شعرية البهاء حسين بالحزن، والأسى المتجذر في النفس الإنسانية احتفاء لا مثيل له، وتؤرخ لأربابه: من يتيم تتجول عيناه في أرجاء دنيا حاصرته بأوجاعها، إلى أرملة نسج الزمن أخاديده العميقة على وجهها، إلى أب غائب سافر يبحث عن قوت أسرته، فإذا عاد وجد امرأته التي انتظرته طويلا في حضن التراب، إلى امرأة ترسل خطابا لزوجها الغائب تخبره عن شوقها إليه، وحنينها إلى حضنه، إلى ماض مشدود على حبال الوجع يترنَّح بين شعابه، ويتخبط في أوديته، إلى قرية تتقاسمها الهموم، وتقدم أبناءها فداء للوطن، وتأمل أن تجد يدًا حانية تمسح أساها، وتغيِّر واقعها البائس الفقير ولكن دون جدوى؛ إذ تقع فريسة الاستغلال من أرباب المصالح، وإلى مدينة فقدت بوصلتها، ووقعت فريسة لاستغلالات متعددة ومتنوعة، وصارت متشظية الرؤى وجامدة المشاعر، ومتحجرة القلب تطحن عاشقيها؛ ليكونوا وقودا لاستمرارها.

وابتعد البهاء حسين إلى حد كبير عما اعتبره النقاد ملامح للشعرية الجديدة من حيث الاهتمام برصد كل ما هو هامشي وعادي لذاته، وعلى الرغم من حديث الشاعر عما قد يبدو أنه عادي ومألوف، من مثل حديثه عن حبال الغسيل والشرفة والملابس المبلولة، مما قد يفهم منه اهتمامه بالعادي، أو دورانه في إطاره إلا أننا ينبغي أن نأخذ ذلك في إطار رؤيته العامة للقصيدة؛ فهي تقدم المأساة الإنسانية من زوايا مختلفة، وليس القصد منه الحديث عن العادي في حد ذاته كما يحدث عند بعض شعراء جيله،كما أنه لم ينظر إلى القصيدة على أنها تهويمات غامضة، أو سبحات سريالية يحتفظ الشاعر وحده بشفرة فك طلاسيمها متهما المتلقي بعدم القدرة على مجاراة الحداثة الشعرية، مع احتفاظ قصيدته بالرؤية الفكرية المتخفية بعناية خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بدقة فائقة، وبذلك يختط البهاء حسين لنفسه طريقا يميزه عن غيره من الشعراء بصفة عامة، وشعراء جيله بصفة خاصة، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك؛ لأن قصيدته شاهدة عليه، وناطقة بتميزه، بحيث نستطيع التعرف على قصيدته من بين عشرات، بل مئات القصائد، إننا أمام شاعر حفر لقصيدة النثر مجرى جديدا كان هو علامته المميزة، وأصبح وجها من وجوه قصيدة النثر الذي يضاف إلى وجوه أخرى تمثل فروعا متعددة للنهر المتدفق، وسوف نتوقف هنا أمام قصيدته (البنت الطيبة التي كانت تحب أصابعي) محاولين التعرف على عالمها الإبداعي من خلال شبكة العلاقات اللغوية التي تشكل ملامح القصيدة، والتجول بين تضاريسها المختلفة صعودا وهبوطا في محاولة للقبض على بعض الخيوط الدالة على الطريق، واضعين في الاعتبار أن ما نقوم به مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءة أو قراءات أخرى، وبخاصة أن قصيدة البهاء حسين حمَّالة أوجه تجعلها متعددة التأويلات، كالقصيدة التي نحاول قراءتها (البنت الطيبة التي كانت تحب أصابعي)؛ إذ من الممكن تناولها من ثلاث زوايا تأويلية مختلفة تماما، وكل زاوية تمتلك مشروعيتها من خلال مجموعة من العلاقات اللغوية التي تمثل علامات دالة، ونتوءات يستطيع الناقد أن يضع قدمه عليها مستقرة أثناء سيره في طريق التأويل، وسوف نختار زاوية واحدة من هذه الزوايا التأويلية الثلاثة، على أننا يمكن إعادة قراءة القصيدة مرة أخرى من خلال الزاويتين الأخريين في وقت لاحق.

العنوان مفتاح تأويلي:

جاء العنوان جملة اسمية خبرية حذف أحد طرفيها، فإما أن يكون التقدير (هذه البنت الطيبة التي كانت تحب أصابعي) وفي هذه الحالة يكون المحذوف المبتدأ، ومن خلال تصور هذا التشكيل للجملة يمكن استنتاج أن الشاعر يقدم في هذا النص قصة البنت الطيبة التي أحبته، ولكنه تركها ذاهبا إلى غيرها رغم علمه بحبها الجارف له، ويشتمل النص على تفاصيل متعددة حول ذلك، سوف نتوقف أمامها لاحقا، وإما أن يكون التقدير (البنت الطيبة …تعود) وفي هذه الحالة يكون المحذوف الخبر، واستنتاجنا للخبر (تعود) ناشئ من أحداث النص وتطوره الدرامي، فعلى الرغم من أن الشاعر صرَّح في بداية النص أن (عبير) لا تخطر على باله فإن النص بأكمله يتمحور حول (عبير/البنت الطيبة) في تقلبات الأحداث معها، ومن ثم فإنها تعود إلى بؤرة الذاكرة؛ لتحتل كل المرايا بحيث يكون الحديث عن أي خيط من خيوط النص منطلقا من بؤرة النص (عبير/البنت الطيبة) فقد عادت بكل الزخم الذي لا يمكن تصوره، ومن الملاحظ أن حضورها لم يكن على المستوى المعنوي فقط، بل كان على المستوى اللفظي كذلك (البنت – كانت/هي – تحب/هي) أما حضور الشاعر فقد كان ضعيفا بجانب حضور البنت؛ إذ ورد ما يدل على الشاعر مرة واحدة، وهو الضمير الياء في (أصابعي) وهو ما يشي بأن (البنت الطيبة) سوف تستحوذ على النص بكل تضاريسه.

وإذا نظرنا إلى العنوان فإننا نجد في بدايته لفظ البنت عام الدلالة بمعنى أنه لا يحدد سوى الجنس/البنت فقط، فهي بنت بكل ما يحيط بهذا اللفظ من ظلال، ثم تتوالى النعوت لهذه البنت، فيصفها بأنها طيبة، وأنها كانت تحب أصابعه، ورغم أن لفظ (البنت) معرفة فإننا لا نستطيع تحديد ملامحها أو هويتها من خلال العنوان، فإذا ذهبنا إلى المقطع الأول نجد الشاعر يقول (لا تخطر على بالى ” عبير” … كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي) وهذا يعني أن البنت الطيبة الوارد ذكرها في العنوان هي (عبير) وهنا تصبح الدلالة منصرفة إلى (عبير) ووصفها بالصفات الإيجابية (الطيبة – تحب) يدل على أنها تحتل مكانة في نفس الشاعر، رغم محاولته التنصُّل من حبها بطرق شتى، وسوف نتوقف أمام هذه الفكرة لاحقا، وحضور عبير التي أحبت الشاعر، ولكنه تركها ذاهبا إلى غيرها يستدعي حضور الطرف الآخر الذي استحوذ على الشاعر، وهذا الطرف هو جيهان، ومن ثم فإن القصيدة تضعنا مباشرة منذ البداية أمام ثنائية ضدية سوف تتحكم في سير القصيدة وتطورها الدرامي، فقد اعتمدت القصيدة على الثنائيات الضدية في تشكيل شبكة من العلاقات اللغوية، والكشف عن محمولاتها الدلالية، وقد بدا ذلك واضحا منذ بداية القصيدة، وعبر تضاريسها المختلفة، فمنذ البداية يبني الشاعر شبكته اللغوية حول اسمين وردا بصورة بارزة في القصيدة (عبير – جيهان) وبالنسبة لاختيار الاسمين الواردين فإنهما ذوا دلالتين متضادتين؛ فـ(جيهان) اسم علم مؤنث فارسي، ومعناه العالم أو الدنيا والحياة، وأصلُ لفظه بفتح الجيم ومن غير ياء، ويُلفظ كذلك: جِهان بكسر الجيم، وهو من الاسماء القديمة ويستخدم حتى الآن، ومن خلال معناه نستطيع توصيف الشخصية التي يمكن أن تتسمَّى بهذا الاسم بأنها شخصية مفعمة بالحيوية والنشاط والديناميكية، وهو ما تتسم به الحياة في المدينة، أما (عبير) فإن هذا اللفظ يدل على (رائحة طيِّبة زكيَّة، أريج، أخلاط من الطِّيب، شذا ”امتلأ المكانُ بالعبير”)، وهو ما يتناسب مع الماضي/ماضي الشاعر الذي لم يعد موجودا على أرض الواقع فقد مضى وانتهي زمنه، ولم يتبق منه سوى رائحته، وهو ما يرمز إلى الحياة في القرية/قرية الشاعر، ومن ثم فإن الدلالتين متضادتان؛ إحداهما ترمز إلى ماضي الشاعر في القرية، والثانية ترمز إلى حاضر الشاعر في المدينة، وفي إطار هاتين الدائرتين من الدلالة بين الاسمين تتحرك القصيدة، وتأخذ مسارها الدرامي المتصاعد.

ونلاحظ أن العنوان يتمحور حول طرف واحد من طرفيْ الثنائية، وهو البنت الطيبة التي يشار إليها في النص باسم (عبير) ليكون لها الحضور الفعلي في العنوان، وينعكس هذا الحضور في العنوان على الحضور في النص، أما الطرف الثاني من طرفي الثنائية، وهو جيهان فلم يكن له حضور فعلي في العنوان، وإن كان له حضور على مستوى النص، وحتى حضور جيهان في النص لم يكن حضورا فاعلا، بل كان حضورا باهتا؛ إذ لم يكن حضورها إلا لإبراز جوانب في شخصية (عبير) ومن ثم فإن النص بأكمله يعد حديثا عن (عبير) وليس عن جيهان التي جاءت للكشف عن شخصية (عبير) وعلاقة الشاعر بها، وعلاقتها به.

حركة المعنى وإنتاج الدلالة:

لقد كشف العنوان في بساطته اللفظية المخادعة عن رؤية عميقة ومتجذرة في ذهن الشاعر عن الحياة الماضية/تاريخ الشاعر في بداياته الأولى، وطموحه في الخلاص من واقع رآه مؤلما، ورغم حبه له ويقينه بأنه يبادله الحب نفسه وأكثر (تحب أصابعي) إلا أنه يعلن ثورته على هذا الواقع، ويحاول الخلاص منه بطرق شتى، ورغم محاولة هذا الواقع جذبه إليه إلا أن الشاعر يبتكر الطرق والأساليب للفرار منه، وإن خانته اختياراته فإنه لا يندم على اختياراته، وسوف نتوقف أمام حركة المعنى في القصيدة؛ لتتكشف لنا الرؤية الفكرية التي يحاول الشاعر إخفاءها خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية فائقة، ودقة عالية، وإحكام شديد، تميَّزت به نصوص البهاء حسين، وإن طالت.

  • 1 –

لا تخطر على بالى ” عبير “
مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح
كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي
وأنا أحببتها مؤقتاً
لأنى لا أستطيع العيش بدون حب
لطالما عاملت صدرها بانتهازية
كنت أقضم قطعة منه في كل مرة
وأحتفظ بها في سلة الذكريات
لطالما رأيت الحب على أنه جسد
حين يكون بلا عيب
يكتمل حبى

يبدأ المقطع بجملة منفية (لا تخطر على بالي عبير) ومعنى أنها لا تخطر على باله أنها كانت ماضيا، وأن هذا الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأنه قد فارقه إلى غير رجعة، ولا وجود له في ذاكرته، ولم يعد يخطر على باله، ومن الملاحظ أن أداة النفي في الجملة هي (لا) الداخلة على الفعل المضارع، والدالة على نفي الحاضر والمستقبل، ولكي نعرف الدلالة المرادة فإن علينا أن نتخيل الجملة بصور أخرى للنفي (لم تخطر على بالي عبير – لن تخطر على بالي عبير) فالجملة الأولى تنفي الماضي ولكنها لا تنفي المستقبل، بمعنى أنها نفت أن تكون (عبير) خطرت على باله من خلال استخدام أداة النفي (لم) ولكن من الممكن أن تخطر على باله في المستقبل، وأما الجملة الثانية (لن تخطر على بالي عبير) فهي تنفي المستقبل من خلال استخدام أداة النفي (لن) ولكنها لم تنفِ الماضي، بمعنى أن (عبير) يمكن أن تكون خطرت على باله، ولكنها لن تخطر على باله بعد الآن، وهنا تأتي دلالة الجملة التي استخدمها النص (لا تخطر على بالي عبير) فقد استخدم أداة النفي (لا) وألحق بها الفعل المضارع، وهي في هذه الحالة تدل على نفي الحاضر والمستقبل إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على نفي أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أن (عبير) لا وجود لها في خاطره حاليا، ولن يكون لها وجود أيضا في المستقبل، ولكننا نلاحظ أن الشاعر يذكرها هنا مع دلالة النفي، وهذا يعني أنها خطرت على باله الآن لحظة صياغة النص، أو خطرت على باله فأدى ذلك إلى صياغة النص، مما ينفي ما أراد الشاعر أن ينفيه، وكما نعلم أن نفي النفي إثبات، ومن ثم فإن الشاعر حين ذكر (عبيرا) في قصيدته فقد أثبت أنها مازالت في ذاكرته وأنها خطرت على باله، فتحدث عنها، وهو ما يعني أيضا أننا لا نطمئن إلى الادعاء بأنها لم تخطر على باله في الفترات الماضية، لقد أثبت الشاعر – بطريق غير مباشرة – احتلال (عبير) مكانة – تبدو مركزية – في ذاكرته من حيث أراد نفي هذه المكانة، ثم يقول (مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح .. كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي.. وأنا أحببتها مؤقتاً لأني لا أستطيع العيش بدون حب) وهذا يدل على أن تفاصيل (عبير) النفسية، وملامحها الإنسانية راسخة في ذهن الشاعر، ولم تستطع الأيام أن تمحوها من ذاكرته، ويبدو من الجملة الأولى محاولة الشاعر تسجيل التعجب من هذا الفعل/لا تخطر على بالي عبير، من خلال قوله (مع أنها …) وكأنه يريد أن يقول: كيف لا تخطر على بالي وهي التي كانت تحب أصابعي؟ ولكننا نكتشف أن الشاعر يسوق مبررا منطقيا لعدم حضور (عبير) في باله، وهو أنه لم يكن صادقا في حبها (وأنا أحببتها مؤقتـًا لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) لقد أحبها؛ لأنه لم يكن يمتلك أن يحب غيرها، ولكنها أحبته بصدق (كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي) وإذا كانت (عبير) تمثل الماضي/القرية فإن تلك الحياة التي كانت تمثلها (عبير) لم تكن هدف الشاعر، ولا الطموح الذي يسعى إلى تحقيقه، ومن ثم فإن رؤيته لحب (عبير) كانت نابعة من أنه لم يكن أمامه إلا أن يتعامل مع الواقع المعاش الذي فرض نفسه عليه بحكم تواجده آنيًّا داخل هذا الواقع الذي لم يكن أمامه غيره، ولكنه كان يطمح إلى حياة المدينة/جيهان بكل ما فيها من صخب وديناميكية، وحيوية بهرته، وهذا يبرر تعامله مع عبير/الواقع/القرية بانتهازية، وفي هذا المقطع تتجلى الثنائية الضدية بين الشاعر والبنت فالشاعر أحبها؛ لأنه لم يكن يمتلك أن يحب غيرها، بمعنى أنه ليس لديه ما يجعله يحب غيرها، أو ما يغري غيرها أن تحبه، كما أنه لا يستطيع أن يعيش بدون حب؛ لذلك كان حبه مؤقتا، إلى حين تأتي من يحبها بصدق، أو يمتلك ما يجعل غيرها تحبه، ونتيجة لذلك تعامل معها بانتهازية، فكان حبه مرتكزا على الجانب المادي، أي المنفعة، فهو حب نفعي بالدرجة الأولى، يقول (لطالما عاملت صدرها بانتهازية كنت أقضم قطعة منه في كل مرة وأحتفظ بها في سلة الذكريات لطالما رأيت الحب على أنه جسد ) وتبدو الألفاظ المستخدمة دالة إلى أبعد الحدود (طالما – انتهازية – أقضم – سلة) أما هي فقد أحبته بصدق (كانت تحب رائحتي حين أفرح .. كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي) ونلاحظ استخدام الشاعر ألفاظ ذات دلالة خاصة (رائحتي حين أفرح – تحب أصابعي – عدة طرق إلى قلبي) فهل للإنسان رائحة حين يفرح؟! إن للفرح علامات تبدو على الإنسان تدل على فرحه، كما أن إشارته إلى أن البنت كانت تحب أصابعه وترى فيها عدة طرق إلى قلبه، فما العلاقة بين الأصابع وطرق القلب؟ وهنا ينبغي أن نشير إلى أن علينا أن ننتبه إلى أن الصور الواردة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها، ولكنها تأتي لدلالات أخرى غير مباشرة، وهذه إحدى السمات المميزة لشعر البهاء حسين، فالأصابع هنا قد تشير إلى العمل الدؤوب الذي يتميز به أهل القرية، ولذلك فإن (عبير) كانت تحب أصابعه أي تحب فيه العمل والإنتاج والدأب، أما رؤيته للحب أنه جسد، أي جانب مادي فإنه يشير إلى الفقر الذي يهيمن على القرية وأهلها، ومن ثم فإن هذا الدأب في العمل والجهد الجهيد ليس له مقابل يتساوى معه، ورغم أنه ينظر إلى الحب على أنه جسد فإنه لا يخرج عن منظومة القيم في القرية؛ فهو يرى أن تحقيق الجانب المادي/المتطلبات المادية يجب أن يكون بطرق مشروعة (لطالما رأيت الحب على أنه جسد حين يكون بلا عيب يكتمل الحب) ومن الملاحظ أن الشاعر كلما قضم قطعة من صدر البنت/القرية يحتفظ بها في سلة الذكريات، أي أنه يحتفظ بها؛ لتكون هذه القطعة دالة فيما بعد على تاريخه الذي سيدوِّنه، لقد بدا المقطع الأول مدخلا مؤسِّسا للبنية الفكرية في النص التي ستنداح عبر النص بأكمله ممسكة بتلابيب المحمولات الدلالية، وناسجة خيوط النص طولا وعرضا، ثم تنفتح الدلالة أكثر في المقطع الثاني، فيلجأ الشاعر إلى الحديث إلى (عبير) وجها لوجه.

– 2 –

نعم يا عبير
أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين
وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى
أسرّبه من تحت الباب
الآن
وأنا أتذكر مفترق الطرق التي وضعتك فيه
كتمثال مصدوم
أضم كفي ، ربما التقينا في خطوط يدى
الزمن
العداد الذي يحصى سنواتنا قبل أن ننتهى منها
الحب الذي تربكنا تصرفاته
واليد
التي تقود صاحبها إلى مصيره
المدقات
التي تخترعها أقدام المحبين
كلهم خذلوني
حتى جيهان التي تركتك من أجلها
هجرتني وبقيتُ بيد واحدة
الحب أب مختل
يقتل أبناءه بحجة تأديبهم
وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة

يبدأ المقطع الثاني بالحديث إلى (عبير) مباشرة (نعم يا عبير) وسواء أكانت (عبير) حاضرة حضورا ماديا أم كان الحضور معنويا، أي أن الشاعر يعود إلى ذاكرته في حديث يشبه المنولوج الداخلي فإن الشاعر – بطريق غير مباشرة – ينقض ما قاله في بداية المقطع الأول (لا تخطر على بالي عبير) وحديثه إلى (عبير) هو حديث اعتراف بأخطائه التي ارتكبها (أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين) وهو ما يتطابق مع قوله في المقطع الأول (وأنا أحببتها مؤقتاً لأني لا أستطيع العيش بدون حب.. لطالما عاملت صدرها بانتهازية) ولكن اللافت هنا دخول (جيهان) كعنصر مواز لـ(عبير) محدثا بذلك التوازن بين تجربتين/ مرحلتين، الأولى تمثلها (عبير) وهي مرحلة حب المضطر، الحب الذي لم يكن أمام الشاعر غيره، ولم يختره، بل كان مفروضا عليه بطريقة أو بأخرى، والثانية تمثلها (جيهان) وهي مرحلة الحب الذي اختاره اختيارا حرا، ويمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاثة أقسام، يبدأ الشاعر في القسم الأول باعتراف يبدو على شكل إجابة على سؤال موجَّه إليه (نعم يا عبير) وكأننا نتخيل (عبير) تلومه عندما وجدت فشل اختياره، وتخلي الجميع عنه، فتكون الإجابة (نعم يا عبير) في شكل إقرار بما فعل، ويستدعي ذلك مجموعة من الأوصاف تعبر عن انكشاف الوجه الحقيقي لحبه الانتهازي لـ(عبير) البنت الطيبة التي صدقت في حبها (أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين .. وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب) لقد كان يصرّ على التخلي عنها، وهي تصر على التمسك به؛ فهي تغلق الحجرة على حبه كناية عن التمسك بحبه، ولكنه يسرِّبه من تحت الباب، كناية عن إصراره على التخلي عن هذا الحب، ثم يأتي القسم الثاني من هذا المقطع (الآن وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه كتمثال مصدوم أضم كفي ، ربما التقينا في خطوط يدى … الزمن العداد الذي يحصى سنواتنا قبل أن ننتهى منها … الحب الذي تربكنا تصرفاته … واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره … المدقات التي تخترعها أقدام المحبين) إن الملاحظة الأولى في هذا القسم تتمثل في قوله (الآن أتذكر) ليعود بنا إلى المقطع الأول الذي نفي أن تكون (عبير) تخطر على باله حاضرا أو مستقبلا (لا تخطر على بالي عبير) ليؤكد أنه مازال يتذكرها، ويتذكر الاختيارات الصعبة التي وضعها فيها (مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) وقد حاولت المعاجم العربية المعاصرة تفسير دلالة (مفترق الطرق) فكان من دلالاتها (مفْترق الطّرق: ساعة الفصل والحسم ”تقف الأمة العربية الآن في مفترق طرق” – اِنْتَهَتِ الأَزْمَةُ إِلَى مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ، أي إِلَى مَوْقِفٍ مُتَشَعِّب – وَجَدَ نَفْسَهُ فِي تَحَيُّرٍ عِنْدَ مُفَتَرَقِ الطُّرُقِ: عَدَمُ تَبَيُّنِ طَرِيقِهِ وَالاِهْتِدَاءِ إِلَيْهِ( وقد اختزلت جملة الشاعر (مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) الدلالات السابقة كلها؛ فقد انتهت العلاقة بينهما (الشاعر – عبير) إلى مفترق طرق حين اختار غيرها (جيهان) حبيبة، وقرر اللجوء إليها، فكان لكل منهما طريق غير الآخر، وكانت النتيجة التي وصل إليها الآن، واكتشف انتهازية حبه الأول (عبير) وتخلي حبه الثاني (جيهان) عنه، فوصلت علاقته بالأطراف كلها أيضا إلى مفترق طرق، ثم يصف الشاعر (عبير) لحظة اكتشافها لحقيقة حبه (كتمثال مصدوم) فالتعبير يدل على حالة التجمد التي وصلت إليها عبير/كتمثال، وحالة الصدمة وعدم التصديق؛ لأنها قدَّمت كل ما تستطيع لإبقائه، ولكنه كان مصرا على الذهاب، ثم يتمنى أن يلتقيها ولكن في خطوط اليد التي قادت صاحبها إلى مصيره؛ ليعبر بذلك عن مسؤوليته عن اختياره (واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره) ويتذكر كذلك الطرقات التي سار فيها، وكانت من اختياره أيضا، ثم يأتي القسم الثالث من المقطع ليقر بالنهاية الأليمة لكل اختياراته (كلهم خذلوني .. حتى جيهان التي تركتك من أجلها.. هجرتني وبقيتُ بيد واحدة.. الحب أب مختل.. يقتل أبناءه بحجة تأديبهم.. وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة) في بداية هذا القسم يورد الشاعر جملة خبرية (كلهم خذلوني) ولفظ (كل) دال بدقة على الشمول، فكل الذين وضع الشاعر أمله عليهم تخلوا عنه مع قدرتهم على عدم التخلي؛ فقد ورد معنى (خذل) في المعاجم العربية دالا على تخييب الأمل فيمن رجاه (خذَل صديقَه/ خذَل عن صديقِه: تخلَّى عن نصرته وإعانته، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ – خَذَلتِ الظَّبْيَةُ : تَخَلَّفَتْ عَنِ القَطِيعِ – خذلته آمالُه: خاب رجاؤُه – خذلته قدماه: لم يقدر على المشي – فلان خَذولُ الرِّجل: تخذُله رجلُه من ضعفٍ أو عاهَة أو سُكْرٍ) ثم يشير في مرارة إلى (جيهان) التي ترك (عبيرا) من أجلها (حتى جيهان التي تركتك من أجلها .. هجرتني وبقيتُ بيد واحدة) ولكنه يحاول تبرير مرارته دون إخفائها حين يقول (الحب أب مختل.. يقتل أبناءه بحجة تأديبهم.. وخطوط الكف قضبان قطار يمضي من غير وجهة) فهل عاد الشاعر إلى (عبير) متحدثا عنها نتيجة وصوله إلى قناعته بفشل اختياراته، أو أنه لم يجد أمامه غيرها بعد أن تخلى عنه الجميع، ولم يعد أمامه غيرها؟ وهنا أيضا يقرُّ بطريق غير مباشرة بانتهازيته التي مازال يمارسها مع (عبير) لأنه ما كان ليذكرها لولا تخلي (جيهان) عنه، وهي التي ترك (عبيرا) من أجلها، وهذا يعني أن رجوعه إلى (عبير) متذكرا إياها ومتحدثا عنها ما هو إلا تأكيد لما تحدث عنه في المقطع الأول حين قال (وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) وهذا يعني أيضا أنه لم يتغير، ولن تتغير قناعاته، فعندما تخلت عنه (جيهان) التي ترك (عبيرا) من أجلها لم يجعله ذلك يدرك أن (عبيرا) هي الحب الحقيقي، وأنه أخطأ بتركها، ولكنه يعترف بخطأ اختياره ليس من أجل تصحيحه، وإنما ليكرر ما فعل في الماضي، وكأن (عبيرا) مجرد ركن يأوي إليه حين يتخلى عنه الجميع (كلهم خذلوني حتى جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني وبقيتُ بيد واحدة) ورغم إقراره بأن المأوى الوحيد له هو (عبير) إلا أنه يقر في الوقت نفسه بأنه يحبها حين لم يجد أمامه سوى ذلك، ثم ينتقل الشاعر إلى المقطع الثالث من القصيدة؛ ليعبر في مرارة عن صفاء الحب الذي كانت تمارسه (عبير) كاشفا عن براءتها والتوائه.

– 3 –

كانت عبير تنظر إلى يدي
كمعجزة
كانت تقارنها بأمها
وحين تجد فيها ملمحاً زائداً تحذفه
كأنه إصبع زائدة
يا ما أخذتْ يدي إلى مناطقها المأهولة
تبّتْ يدي
مرة ظلت تمصّ أصابعي
حتى نسيتها في فمها
الحب يجعلنا ننسى أنفسنا عامدين
لم يكن ليدي بدّ من الحب
لأنها ولدت يتيمة

لابد من قراءة هذا المقطع تماشيا مع الإطار العام للقصيدة بأن الصور المستخدمة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها، ولكنها تستخدم لدلالات إيحائية متعددة، ومن ثم فإننا نتلمس بعض الألفاظ العلامات في هذا المقطع؛ لنحاول فهم الدلالة المتخفية خلف الشكل اللغوي الظاهر في مجموعة من الألفاظ البسيطة، ولكنها عميقة الدلالة والإيحاء، ومن تلك الألفاظ (يدي كمعجزة – حين تجد فيها ملمحاً زائداً تحذفه – يا ما أخذتْ يدى إلى مناطقها المأهولة – لأنها ولدت يتيمة) وهنا نبدأ من الجملة الأخيرة (لأنها ولدت يتيمة) فإنها مفتاح الدلالة في هذا المقطع، وقد يكون مفتاحا للرؤية في القصيدة بأكملها، فاليد اليتيمة تعاني الحرمان ومن ثم فهي مجبرة على التعامل مع الواقع الذي تعاني منه (لم يكن ليدي بد من الحب) ولكنها ترى ضرورة الخلاص والفرار مهما حاول هذا الواقع فرض سيطرته عليها، ومهما كان هذا الواقع يحب تلك اليد اليتيمة، ولكنها ترى ضرورة الخلاص إلى نقيض مغاير، ومن ثم فإن محاولة الواقع إظهار جمالياته لهذه اليد اليتيمة للتمسك بها، وإقناعها بضرورة قبوله محاولة فاشلة، وهو ما عبَّر عنه الشاعر بقوله (يا ما أخذتْ يدى إلى مناطقها المأهولة) وإذا قلنا فيما سبق إن (عبيرا) تمثل الماضي/القرية بكل ما فيها فإنها عندما تأخذ يده إلى مناطقها المأهولة فهذا يعني أنها تحاول أن تقدم له ما يجعله يتمسك بها/عبير/القرية، ولكن نلاحظ إصرار الشاعر على الرفض من خلال قوله (تبت يدي) وإذا تخيلنا أن الشاعر كان يعيش في بيئة فقيرة فإننا نستطيع أن نفهم قوله (كانت عبير تنظر إلى يدى كمعجزة) فهي تراه المخلص لها باعتباره المتعلم والقارئ والشاعر – وقد أورد الشاعر ذلك في قصيدته (كاتب الخطابات) – وهو ما يفسر إصرارها عليه، وكذلك يفسر إصراره على الخلاص؛ فهي لا تستطيع تحقيق طموحه، وإن كان يقع أحيانا في خداع الاستسلام، وهو ما يفسر قوله (مرة ظلت تمصّ أصابعي حتى نسيتها في فمها الحب يجعلنا ننسى أنفسنا عامدين) ولكنه يسرع بتبرير ذلك بقوله (لم يكن ليدي بد من الحب لأنها ولدت يتيمة) إن البحث خلف المرآة اللغوية الظاهرة يكشف ملمحا من ملامح الصراع الخفي الذي كان دائرا بين الشاعر ونفسه من ناحية وبين الشاعر وعبير/القرية/البيئة من ناحية أخرى، كما يكشف عن الفكرة التي كان يلحُّ عليها باستمرار منذ المطلع النص، ولا يفتأ يكررها كلما سنحت الفرصة، وسمحت الدلالة، وهي قوله في المقطع الأول (وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) وقوله هنا (لم يكن ليدي بد من الحب لأنها ولدت يتيمة) وعبَّر عنه في المقطع الخامس بقوله (والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) وهو ما يعدُّ مفتاحا للدلالة في النص إذا أردنا تتبع خيوط الرؤية المنسوجة بعناية فائقة.

ثم يأتي المقطع الرابع من القصيدة؛ ليكون تطورا طبيعيا للنص، واستكمالا لحركة المعنى المتموجة صعودا وهبوطا مع تضاريس مختلفة، ونتوءات متعددة، معبرة عن مأساة إنسانية لإنسان يحاول الخلاص من واقعه متمردا عليه، ورافضا لكل الإغراءات التي يقدمها هذا الواقع، ومتخليا عن البراءة والحب الصافي الذي يمثله هذا الواقع؛ فالشاعر كان يطلب شيئا آخر لا يقدمه هذا الواقع، ومن ثم كان الفراق ضروريا، والفرار حتميا.

– 4 –

كان لا بد لي من جيهان؛ لأنها أجمل
كان لا بد للطرق أن تتقاطع
الأقدام تختار الطريق
لكن الطريق لا يخبرها بآخره
للطرق حيل هي الأخرى
تعرف النهاية، لكنها تفضل أن تصل الأقدام إلى هناك
النهاية بداية تبحث لنفسها عن مسمّى
لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله

يبدأ المقطع بإقرار حتمية اختياره (كان لابد من جيهان) ثم يبرر هذا الاختيار (لأنها أجمل) وهذا الاختيار لجيهان كان لابد أن يجعل الطرق تتقاطع، وقد عبَّر عن الفكرة نفسها في المقطع الثاني (وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) وإذا كان الشاعر قد أقر بفشل اختياره في المقطع الثاني (كلهم خذلوني حتى جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني وبقيتُ بيد واحدة) فإنه لم يقر بفشل الرؤية التي انطلق منها، وأنه لن يتخلى عن هذه الرؤية؛ لأنها نابعة من اختياره الحر، وليست مفروضة عليه، حين قال في نهاية المقطع (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله) وإذا كانت جيهان قد خذلته مثل الجميع فإن هذا لا يعني أنه سوف يختار العودة إلى (عبير) فهو لم يكن يعرف أن جيهان ستخذله؛ فالطرق لا تخبر عن نهايتها (الأقدام تختار الطريق لكن الطريق لا يخبرها بآخره) فهو قد اختار عن قناعة (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله) فهذا المقطع يقر بحتمية الاختيار/الخروج من القرية والفرار من (عبير) ويبرر كذلك بأن خذلان جيهان لا يعني العودة إلى (عبير) ولكنه يعني أن اختياره سيستمر بعيدا عنها؛ لأنه منذ البداية قرر الابتعاد عن (عبير) وهو ما عبَّر عنه في المقطع الأول (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب) ثم يأتي المقطع الخامس؛ لينفتح على زاوية أخرى من الرؤية وإن كانت تتكامل مع بقية الزوايا التي عبّر عنها النص في مقاطعه السابقة.

– 5 –

وحين كنت تتصلين بي لأسمع آية تلعن الخائنين
كنت آخذ لعنتي وأدفنها في صدرها
آسف يا حبيبتي
لكن ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل
لقلب من غير نبض
الزمن يا عبير
الزمن
تذكرين حين أردتُ أن أعريك تحت المطر
في محطة الرمل
حين دونت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين
اليوم وأنا أتصفحه
بعد خمسة وعشرين عاماً
وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة
كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر
ما أغرب المصادفات
ما أطول الطريق الذي نمشى فيه
ثم يكون على أحدنا أن يكمله وحده
يا إلهى
كان طريقي صعباً
وكنت أمشى حافي القدمين وراء اختياراتي
الحياة
طريق من حصى
والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين

يستمر المقطع الخامس في تقديم تطور آخر للقصيدة من زاوية مختلفة، ويمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاثة أقسام، أما القسم الأول فإنه يبدأ بالكشف عن استمرار عبير في الحب، فلم تنقطع عن مشاعرها يوما، وأما (آية) فمن الممكن تأويلها بأكثر من دلالة، ومنها أنها ترمز إلى الحب من حيث اللفظ والدلالة، فمن حيث اللفظ هي آية، والآية علامة دالة، ومن حيث الدلالة فهي آية على الحب المستمر من (عبير) والهروب المستمر من الشاعر، وهو ما يمكن أن يفسر جملة (تلعن الخائنين) أي أن هذه الآية دالة على خيانة الشاعر لــ(عبير)/الماضي/ القرية/الحياة الأولى، ولكنه يمتصّ اللعنة ويدفنها في الصدر، ثم يعتذر الشاعر مرة أخرى رغم أن الاعتذار لن يفيد (لكن ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل … لقلب من غير نبض) فالاعتذار هنا ليس من أجل العودة ولكنه اعتذار تبرير للأفعال، فمن المعروف أن الاعتذار يكون عن خطأ، وإذا كان الشاعر يقر بالخطأ فلماذا لا يعود إلى الصواب؟ الحقيقة أن الاعتذار هنا اعتذار عن التماهي مع (عبير) فيما تريد؛ لأن الاتجاهين – هي والشاعر – مختلفان، ومن ثم فإنه ليس اعتذارا عن خطأ ارتكبه الشاعر، وهو ما عبَّر عنه أكثر من مرة منذ بداية النص، فرغم إقراره بأن الجميع خذلوه بما فيهم جيهان (كلهم خذلوني حتى جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني وبقيتُ بيد واحدة) يعود ليقول (كان لا بد لى من جيهان؛ لأنها أجمل.. كان لا بد للطرق أن تتقاطع.. الأقدام تختار الطريق) ومن هذه الزاوية يمكن فهم اعتذار الشاعر لــ(عبير) أما القسم الثاني من المقطع فيقول (تذكرين حين أردتُ أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل.. حين دونت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين.. اليوم وأنا أتصفحه بعد خمسة وعشرين عاماً وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر) والتعرية التي يتحدث عنها النص هنا قد يكون المقصود منها الحديث عن عدم رغبة الشاعر في (عبير) رغم حبها الجارف له، واستخدام (محطة الرمل) إشارة إلى التعرية أما الجميع، أي الحديث الصريح عن عدم رغبته في (عبير) وهو يتذكر هذا الأمر اليوم كأنه العلامة الوحيدة الدالة عليه (كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر) وكأنه لم يفعل شيئا سوى أنه أهان (عبيرا) أمام الجميع (في محطة الرمل) وتحدث عن كونه لا تصلح له، وأنه مهما حدث من جيهان وخذلانها له فما زالت رغبته فيها لم تتغير، وكأن هذا الحديث هو الذنب الذي ارتكبه من وجهة نظر البعض ومنهم (عبير) بالتأكيد، ويأبى هذا الذنب أن يغتفر، ثم يأتي القسم الثالث ليقول الشاعر (ما أغرب المصادفات .. ما أطول الطريق الذي نمشي فيه.. ثم يكون على أحدنا أن يكمله وحده.. يا إلهي.. كان طريقي صعباً.. وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي.. الحياة طريق من حصى.. والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) من الواضح أن الشاعر لم يتراجع عن اختياراته، ولكنه يؤكد على هذه الاختيارات التي كلفته كثيرا (وكنت أمشى حافي القدمين وراء اختياراتي) وكأن النص يريد أن يؤكد أن بيئة الشاعر لا تقبل أن تكون له اختيارات، وأن طريقه مرسوم بعناية، وينبغي أن يمشي فيه، وأنه إذا حاول الاختيار فإنه سوف يعاني (كان طريقي صعبا وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي) والربط بين المشي حافي القدمين والاختيارات دليل على أن الاختيار في بيئته كان مرفوضا، وهذا ما يفسر ما قاله في بداية النص (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب ) وهنا تنفتح الدلالة أكثر؛ إذ يكشف النص عن المغزى الحقيقي لمعاناة الشاعر، وهو الاختيار، كما يكشف عن ملاحقة (عبير) المستمرة له، وعدم نسيانه؛ فهي تمثل الطريق المرسوم، وهو يهرب دائما من الطرق المرسومة، ويريد أن تكون له اختياراته الخاصة، وأن يتحمل نتائج هذه الاختيارات، وهو ما عبَّر عنه بقوله (الحياة طريق من حصى .. والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) ولماذا نتحمل نتائج الاختيار كأنه حجر ثقيل نحمله مرغمين؟ لأننا في بيئة ترفض فكرة الاختيار، ولا تتقبل إلا أن يعيش الإنسان وفق اختيارات بيئته، ومن ثم فإن هذا المقطع الخامس كاشف بصورة من الصور عن إصرار الشاعر على ممارسة الاختيار وتحمل نتائجه، ثم يأتي المقطع السادس والأخير لتتكشف الدلالة أكثر، ويبدأ النص في إسدال الستار على التطور الدرامي الذي بدأ منذ المقطع الأول.

– 6 –

غدارة جيهان يا عبير
كالمطبَّات، كحفرة مفاجئة
كانت تريد ان تعطى لأهلها نصف بيتي
نصفي
يدي اقتصتْ لك منى
تمثالك تناسل في
أظن لو أننا تزوجنا
كنت ستحرسين قبلاتنا
المصحف الصغير، البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي
غير أننى مشيتُ معك وراء جسدي
ومشيتُ معها عارياً
من جسدي وقلبي

في هذا المقطع الأخير من القصيدة تحضر الشخصيتان اللتان تنازعتا الدلالة منذ بداية النص، فيورد الشاعر المقارنة بين الشخصيتين: عبير وجيهان/القرية والمدينة، وفي حضور القرية تحضر مكونات محددة (المصحف الصغير – البرواز) ويحضر كذلك الضغط المادي/الفقر، وقد يكون السبب الرئيسي في مغادرة المحبوبة الأولى/عبير/ القرية (مشيتُ معك وراء جسدي) والجسد هنا إشارة إلى كل ما هو مادي من متطلبات ضاغطة على الحياة، وأما المدينة فيحضر معها أهم ملمح يركز عليه الشاعر دائما (ومشيتُ معها عارياً من جسدي وقلبي) فالمدينة قد جعلته عاريا من الجسد/الجانب المادي، ومن القلب/الشعور والإحساس، ومن ثم فإنه ينحاز إلى القرية، ولكنه لا يستطيع أن يعيش إلا في المدينة التي أصبحت واقعا ملموسا، وأما القرية فأصبحت مجرد عبير يذكره بصفاء حياته الأولى، وبدائية الحلم، ويتجلى ارتباطه بالقرية من خلال قوله (أظن لو أننا تزوجنا كنت ستحرسين قبلاتنا) كما أن النسل سيستمر اعتزازا به (البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي) فالبنت رمز للعطاء والحياة، وتعليقها في برواز وحراسته بمثابة حفاظ على الحياة، فالقرية/عبير تحفظ الحياة وتحافظ عليها في عطائها الراقي والنقي، وتجعله في برواز حفاظا عليه، وإن كانت الحياة المادية ضعيفة، ولكنها مليئة بالحياة والحب والعطاء (أظن لو أننا تزوجنا كنت ستحرسين قبلاتنا .. المصحف الصغير، البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي.. غير أننى مشيتُ معك وراء جسدي.. ومشيتُ معها عارياً من جسدي وقلبي) وهنا لابد لنا أن نستدعي الصورة الأخرى/جيهان/المدينة، وما فيها، فإذا كان الحب صافيا في القرية، وعبير حريصة على المصحف/الدين وصورة البنت في البرواز/احترام النسل والمحافظة عليه من أجل الامتداد فإن المدينة تختلف تماما؛ إذ يقول (جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني وبقيتُ بيد واحدة.. الحب أب مختل يقتل أبناءه بحجة تأديبهم.. وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة) ففي المدينة الحب كالأب المختل الذي فقد عقله وصوابه، فلا مقياس لتصرفاته، كما أن المحبوبة لا عهد لها ولا أمان (هجرتني وبقيتُ بيد واحدة) أما الكارثة الكبرى فهي أن يقتل الأب أبناءه إشارة إلى التفسخ والترهل الذي يصيب حياة المدينة، وهو مقابل تماما لما هو موجود في القرية (كنت ستحرسين قبلاتنا/ المصحف الصغير، البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي) أي أن القرية تحافظ على الحب والمودة، كما تحافظ على الدين، وتحافظ كذلك على النسل، لقد حاولنا في تتبعنا لحركة المعنى أن نرصد التوافق الدلالي بين مكونات القصيدة من هذه الزاوية التأويلية؛ لكي تجد الرؤية المطروحة مشروعيتها من خلال هذا التوافق الدلالي، وإن كانت هناك زوايا تأويلية أخرى تجد لها مشروعية من خلال تأويل آخر للعلاقات اللغوية في القصيدة.

التشكيل السردي للنص:

تلجأ القصيدة عند البهاء حسين إلى السرد باعتباره ركيزة أساسية تستند عليه، وتحاول أن تلغي الفواصل بين القصيدة والقصة، وقد أطلق الدكتور عز الدين إسماعيل على هذا النوع من الشعر اسم القصيدة القصصية، ويرى أن “كل الأنواع الأدبية تصبو إلى مستوى التعبير الدرامي … التعبير الدرامي هو أعلى صورة من صور التعبير الأدبي … فإذا كانت الموسيقى تلخص كل القيم التعبيرية في سائر الفنون فإن العمل الأدبي الدرامي يلخص كذلك كل القيم التعبيرية في سائر فنون القول” (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية، ص 278) ويتابع الدكتور عز الدين إسماعيل الفكرة مطوِّرًا إياها، فيقول: “فإذا كانت الدراما تعني الصراع فإنها في الوقت نفسه تعني الحركة، الحركة من موقف إلى موقف مقابل، من عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، فإذا كانت طبيعة بناء الحياة في مجملها قائمة على هذا الأساس الدرامي فلا غرو أن تتسلل الخاصية الدرامية في كل جزئية من جزئيات هذا البناء” (السابق، ص 279) ثم يتحدث عن التفكير الدرامي، ويربط بينه وبين الفن القصصي والشعري، ويقول “ولعلنا الآن قد اقتربنا من الحديث عن درامية التفكير الشعري … وكما تطورت القصة نحو القصة الدرامية كذلك تطور الشعر من الغنائية الصرف إلى الغنائية الفكرية، وصارت أروع القصائد الحديثة العالمية هي أولا وقبل كل شيء قصائد ذات طابع درامي من الطراز الأول” (السابق، ص 279، 281) أما الدكتور جلال الخياط فقد أشار في كتابه الأصول الدرامية في الشعر العربي إلى أننا إذا ” أردنا أن نجزم بأنَّ الشعر القديم غنائي محض فهناك أشكال درامية اتخذت طريق الشعر القصصي بسرد حادثة أو حوادث مع وصف أو إفصاح عن شعور وموقف ورأي، وكان للشاعر أن يطوّر حكاياته لو وجد الدافع أو أدرك أبعاد الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة” (الأصول الدرامية في الشعر العربي، ص65) ومما سبق نستنتج أن الشعر القصصي له أصوله في الشعر العربي منذ القدم، ولكن الشاعر الحديث أضاف إليه الكثير من روحه وثقافته وثقافة عصره وتطوره، فصارت القصيدة في شكلها السردي الدرامي مختلفة تماما، فإذا انتقلنا إلى قصيدة النثر بكل ما تتصف به من مغايرة فإننا أمام تصور مختلف لاستخدام فكرة الدراما في القصيدة، فإذا انتقلنا إلى قصيدة البهاء حسين فإننا نلاحظ ارتباط السرد بالرؤية الفكرية في النص الشعري بحيث يشكلان كلاهما ضفيرتين متداخلتين لا يمكن الفصل بينهما، أو وجهين لعملة واحدة؛ إذ أصبحت الرؤية هي الروح بالنسبة للسرد والسرد هو الجسد الذي تتجسد فيه الروح/الرؤية، فالرؤية هي الروح والسرد هو الجسد، وكل منهما كاشف للآخر، ومبرز له، وتطور السرد في القصيدة هو في الحقيقة تطور للرؤية، واندفاعها نحو التشكُّل أكثر وأكثر حتى تصل إلى اكتمالها مع اكتمال السرد، لقد استطاع البهاء حسين بهذا الشكل من الصياغة أن يشكِّل لنفسه نمطا مميزا من قصيدة النثر بحيث نستطيع أن نلمحها من بين عشرات، بل مئات القصائد، فهو – وإن كان يسير في إطار الرؤية الكلية لقصيدة النثر، ومقولاتها الفاعلة – قد استطاع أن يميز قصيدته عن غيره من الشعراء، ويتضح ذلك إذا قارنا قصيدته من حيث الشكل والصياغة بقصائد شعراء آخرين لهم أيضا نمطهم الخاص، أمثال الدكتور عيد صالح، وفتحي عبد السميع، ومحمد حربي، وغيرهم، فسوف يتضح التمايز بين هذه الأنماط من حيث الشكل والصياغة، وهو ما يدفعنا إلى الرجوع إلى طبيعة التمايز بين أنماط قصيدة النثر، ذلك التمايز الذي صاحب تلك القصيدة منذ بداياتها، فالقالب الكتابي لقصيدة النثر ليس جامدا، ولكنه يقدِّم آليات متنوِّعة وأحيانا مختلفة للكتابة يختصُّ بها كل شاعر، أو مجموعة من الشعراء، فإذا نظرنا إلى شعراء أمثال سركون بولص وسليم بركات وأمجد ريان وغيرهم فسوف نجد التجربة الكتابية عندهم مختلفة تماما عن التجربة عند كل من نوري الجراح وقاسم حداد مثلا، ومختلفة أيضا عن تجربة الكتابة النسوية في الشكل والصياغة، ومن ثم فإن قصيدة النثر لا تعتمد شكلا واحدا في صياغتها، وتبقى خصوصية الشاعر في صوغ تجربته محكومة بقدرته على حفر مجرى خاص به تتدفق فيه مياه الإبداع من المحيط الكبير الذي تمثله الأطر العامة لقصيدة النثر بمقولاتها الفلسفية الحاكمة لها، وقد استطاع البهاء حسين أن يجد له مكانا خاصا به على ضفاف قصيدة النثر، وهو مكان – كما أشرنا سابقا – يستطيع المتلقي أن يتعرف عليه بوضوح. 

أما الحركة والصراع اللذان هما من تجليات الدراما فإنهما ملمحان بارزان بوضوح في قصيدة البهاء حسين؛ فالشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، كما ينتقل من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وفي كل جزئية من القصيدة يعرض ملمحا من الرؤية للشخصيات التي ترد في النص، ويتنقل بين الشخصيات مبرزا الصراع الدرامي بين رؤاها المختلفة، وكاشفا عن التناقضات أحيانا، يقول الشاعر:

نعم يا عبير

أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين

وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي

أسرّبه من تحت الباب

الآن

وأنا أتذكر مفترق الطرق التي وضعتك فيه

كتمثال مصدوم

أضم كفي، ربما التقينا في خطوط يدي

الزمن العداد الذي يحصى سنواتنا

قبل أن ننتهي منها

الحب الذي تربكنا تصرفاته

واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره

المدقات التي تخترعها أقدام المحبين

كلهم خذلوني

حتى جيهان التي تركتك من أجلها

هجرتني وبقيتُ بيد واحدة

الحب أب مختل

يقتل أبناءه بحجة تأديبهم

في البداية يمكن النظر إلى هذا المقطع من القصيدة على أنه نوع من المونولوج الداخلي؛ ذلك أن عبيرا ليست موجودة في لحظة التكلم، والتوجه بالحديث إليها في هذه الحالة ليس منطقيا، ومن ثم يمكن تصور أن الشاعر استدعاها إلى بؤرة اللحظة الراهنة في ذهنه؛ ليتحدث إليها مفصحا عن مكنون نفسه، وكاشفا عن شعوره الحقيقي، ذلك الشعور الذي يتضمن ثنائية ضدية واضحة برزت في قوله (أنا الوغد الذي أحبك) فالجانب الأول من تلك الثنائية هو وصف نفسه بالوغد، والوغد في اللغة (صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من وغُدَ، والوَغْدُ: الأَحمقُ الدَّنِيءُ الرَّذْلُ، والوَغْدُ: الضَّعِيفُ الجسم، والوَغْدُ: خادمٌ القومِ بطَعام بطنه، ورَجُلٌ وَغْدٌ: ضَعِيفُ العَقْلِ، والوغد هو أَحْمَقُ، دَنِيءٌ، خَسِيسٌ، وَغْلٌ، والجمع: أوْغاد ووُغْدان، ووِغْدانُ، ووغد الرّجل: كان رذلاً دنيئًا صغير العقل ”وغُد في معالجة أموره العائليّة”.) ومن الملاحظ أن الوصف بالوغد صفة سلبية في جميع أحوالها ومعانيها، أما الجانب الآخر من الثنائية فهو (الذي أحبك) والحب يحمل المشاعر الإنسانية للطرف المحبوب، ولكن الصراع داخل النفس الشاعرة بين طرفي الثنائية (وغد – أحب) كان في صالح الصفة السلبية، فانتقل الشاعر من موقف وشعور إلى موقف وشعور آخرين، وإذا عرفنا أن الوغد صفة مشبهة تدل على الثبوت، وأن (أحب) فعل يدل على الحركة يتضح أن الانتصار لصالح الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب شيءٌ مؤكَّدٌ، ومن ثم كان حديثه التالي مباشرة (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي أسرّبه من تحت الباب) انتصارا لهذا الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب، ونلاحظ البناء الدرامي لهذا المقطع، ذلك البناء الذي يتحرك ضمن الصراع الحاكم لسيرورة النص؛ فالشاعر يتنقل بين المواقف والمشاعر والأفكار، فينتقل من فكرة أن عبيرا لا تخطر على باله إلى النقيض، وهو أن عبيرا تحتل مكانا مركزيا في ذهنه من خلال حضورها الفعلي على المستوى اللفظي، والمستوى المعنوي؛ لتكرِّس سيطرتها الفعلية على الذهن، وإمساكها بخيوط الرؤية، وتسربها في أنسجة النص بأكمله، وقد أشرنا سابقا إلى أن حضور جيهان/الحياة التي اختارها الشاعر، وقرر أن يعيشها كان حضورا باهتا بالقياس إلى حضور عبير التي قرَّر التخلص منها، ومن كل ما يتعلق بها، وهنا تتلبَّس الرؤية بالسرد – كما أشرنا سابقا – فتطور الرؤية مرتبط بتطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا من خلال المقطع الذي أشرنا إليه، فإذا ربطنا هذا المقطع بما ورد في بداية النص سنكتشف انتقال الشاعر من موقف إلى موقف مغاير، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن فكرة إلى فكرة، وهو الأساس الدرامي الذي يستند عليه السرد، يقول:

لا تخطر على بالى ” عبير “

مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح

كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي

وأنا أحببتها مؤقتاً

لأني لا أستطيع العيش بدون حب

لطالما عاملت صدرها بانتهازية

كنت أقضم قطعة منه في كل مرة

وأحتفظ بها في سلة الذكريات

لطالما رأيت الحب على أنه جسد

حين يكون بلا عيب            

يكتمل حبي                     

فإذا كان قد أقر في هذا الموقف بنسيان عبير فقد أقر في الموقف السابق أنها في بؤرة الاهتمام والتذكر، هذا على المستوى المعنوي، أما على المستوى اللفظي فقد تحدث في هذا المقطع عن عبير باستخدام أداة النفي (لا) الداخلة على الفعل المضارع، والدالة على نفي الحاضر والمستقبل، (لا تخطر على بالي عبير) فقد استخدم أداة النفي (لا) وألحق بها الفعل المضارع، وهي في هذه الحالة تدل على نفي الحاضر والمستقبل إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على نفي أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أن (عبيرا) لا وجود لها في خاطره حاليا، ولن يكون لها وجود أيضا في المستقبل، ولكنه في المقطع السابق تحدث إليها بصيغة المخاطب (نعم يا عبير) وإذا كان حضوره في هذا المقطع واضحا فإن حضور عبير في المقطع السابق كان طاغيا، وهذا يؤيد ما قلناه من أن تطور الرؤية مرتبط بتطور السرد؛ لأن الرؤية متلبِّسة بالسرد كما أشرنا سابقا، وقد نجحت القصيدة في إبراز ذلك بوضوح، وإضافة إلى ذلك نجد الانتقال من الحديث عن عبير إلى الحديث عن جيهان، وقد أشرنا سابقا إلى أنهما تمثلان وجهين مختلفين، أو مرحلتين في حياة الأنا الشاعرة، فعبير تمثل الماضي/حياة القرية، وجيهان تمثل حياة المدينة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا بالتفصيل، وهو ما دفعنا إلى القول بأن النص الشعري عند البهاء حسين منفتح على احتمالات معرفية وحدسية وخيالية متعددة، وأن هذا النص في أساسه يعبِّر عن الحساسية الحضارية الكبيرة المتأسِّسة على القلق النفسي الذي يصبغ حياة الشاعر المعاصر، فهو ليس نصا مباشرا يعبر عن تجربة حياتية ينقلها الشاعر بتفاصيلها بقدر ما هو نص يفجِّر تلك المواقف والمشاعر والأفكار المتداخلة والمتناقضة والمتفاعلة  والغامضة التي تحتل بؤرة النفس الشاعرة وتؤرقها، وقد تدفعها أحيانا إلى نوع من الجنون غير المعروف الأسباب، ولكنه يعبر عن العتمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، ونتيجة لذلك نجد الشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، ومن فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وهو الأساس الدرامي الذي قامت عليه طبيعة بناء الحياة، كما أشار الدكتور عز الدين إسماعيل، ومن ثم فإن تأويل النص ينقلنا من دائرة مغلقة على الذات إلى دائرة منفتحة على العالم، وهو ما سنشير إليه.

أشكال السرد:

إن استخدام السرد الحكائي في النص الشعري يرتقي بهذا النص، ويخرج به من أفق التعبير الذاتي إلى أفق التعبير الموضوعي، ذلك الأفق الذي يتميز بالرؤية العميقة المستوعبة للفعل الإنساني وتموجاته المختلفة، وصراعاته الداخلية والخارجية، ومن المعروف أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسرد عند ارتباطه بعنصر الزمن، وهي السرد المتسلسل (المتتابع) وهو سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي، فينتقل المبدع من البداية إلى الوسط إلى النهاية، وهو الذي يتوافق مع منطق الأحداث في الزمن، والنوع الثاني هو السرد المتقطع، وهو عكس النوع الأول؛ إذ نجد المبدع لا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأحداث، فمن الممكن أن يبدأ من الذروة، أو منتصف الأحداث، أو نهايتها، ثم يعود إلى البداية، وهكذا لا يلتزم المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث في الزمن، ولكنه يخلق تسلسلا يرتضيه وفق رؤيته الفنية والفكرية للعمل الإبداعي، وأما النوع الثالث من السرد فهو السرد التناوبي، وهو الذي يعتمد فيه المبدع على تناوب الأحداث، فقد يروي المبدع قصة معينة، أو يتحدث في موضوع معين، ثم ينتقل إلى قصة أخرى، ثم يعود إلى القصة الأولى، أو ينتقل إلى قصة ثالثة، وهكذا، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك ترابطا دلاليا بين كل ما رواه المبدع، أو خطا دراميا مشتركا يربط بين ما رواه المبدع في البداية، وما ظننا فيه أنه خرج عن الموضوع إلى موضوع آخر، ومعنى ذلك أن المبدع في السرد التناوبي يصنع لنفسه خطا دراميا معينا يربط بين أجزاء النص، وإن ظنناه خرج عن الموضوع الذي يتحدث فيه، فإذا انتقلنا إلى قصيدة “البنت الطيبة التي أحبت أصابعي” فإننا لا نجد السرد يتمحور حول خط مستقيم يتصاعد متجها من البداية إلى النهاية، ولكننا نجد الشاعر يربط مشاهد متعددة، مبتدئا من اللحظة الآنية متجها نحو الماضي في بداياته الأولى، ثم يعود من البداية إلى الحاضر، دون تسلسل في الأحداث؛ إذ يضطر أحيانا إلى العودة مرة أخرى إلى الماضي، وفي كل ذلك يسرد بعض الأحداث التي تخدم تطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا في حديثنا السابق عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة، فقد تحدث الشاعر في المقطع الأول عن عبير بحسبانها مرحلة من مراحل حياته الماضية، وأنها الآن لا تخطر على باله، أي أنه يتحدث في اللحظة الآنية عن مرحلة من مراحل حياته الماضية، ذاكرا صفات تلك المرحلة، ومعنى ذلك أن السرد هنا مرتبط بالزمن الحاضر، وقد بدت عبير مرحلة ماضية انتهت من حياته وصارت مجرد ذكرى، ولكنه ينتقل إلى الحديث إلى عبير مباشرة في حوار يبدو اعترافا بما ارتكبه في الماضي، ولكنه اعتراف المقر بما فعل، وليس النادم على ما فعل، ثم ينتقل إلى فشل كل اختياراته حين يقول (كلهم خذلوني/ حتى جيهان التي تركتك من أجلها/ هجرتني وبقيت بيد واحدة ….) ثم يعود إلى الحديث عن الماضي مع عبير (كانت عبير تنظر إلى يدي كمعجزة/ كانت تقارنها بأمها …) ويستطرد الشاعر في الحديث عن عبير، ومواقفه معها كأنه في حديث مباشر معها (تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل/ حين دوَّنت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين/ اليوم أنا أتصفحه بعد خمسة وعشرين عاما/ وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة) ثم ينتقل إلى الحديث عن جيهان وما فعلت به (غدَّارة جيهان يا عبير كالمطبات/ كحفرة مفاجئة …) من الملاحظ أن السرد هنا لا يسير على وتيرة واحدة في تسلسل منطقي، ولكنه يختار من القصة ما يلائم الرؤية التي يريد التعبير عنها، وهو ما أشرنا إليه أيضا سابقا من أن الرؤية متلبِّسة بالسرد، وقد نجح الشكل السردي – السرد المتقطع – الذي اعتمده الشاعر في صبغ القصيدة بالديناميكية المطلوبة، والبعد عن الرتابة والملل اللذين قد يصيبان النص الشعري إذا لم ينتبه الشاعر إلى فاعلية السرد وقدرته على الاستحواذ على المتلقي؛ ليتابع إلى النهاية محاولا الربط بين الأنسجة التي قد تبدو مختلفة ومتباينة؛ ليصل إلى الرؤية الكامنة وراء شبكة العلاقات التي نسجها الشاعر في النص.

وفي النهاية نستطيع القول إنه على الرغم من أن الشكل المباشر للنص يبدو بسيطا؛ إذ يرصد تجربة قد تبدو ذاتية مباشرة تنبني على رصد حياة الأنا الشاعرة وعلاقتها بالآخر/الأنثى/عبير/جيهان، فإن التأمل العميق للنص يأخذنا إلى زاوية تأويلية بعيدة المدى، وأكثر عمقا مما يبدو عليه التشكيل البسيط للنص؛ إذ تتجلى المعاناة الإنسانية بملامحها المختلفة، وزواياها المتعددة، وتتقاطع بعض الزوايا أحيانا فتتصارع في بعض التفاصيل، كما قد تتكامل أحيانا في تفاصيل أخرى؛ لترصد الرؤية العامة للمعاناة الإنسانية، ومن ثم فإن النص يستدعي المهمَّش والبسيط/التجربة الإنسانية البسيطة فيضعهما في متن الرؤية ومحور الفعل الشعري.

الصوررة الشعرية وإنتاج الدلالة:

لا أحد يستطيع أن ينكر أن قصيدة النثر انفلتت من أسر التقليد واتجهت بقوة نحو إيجاد شعرية جديدة منطلقة من سياق ثقافي وحضاري فرض عليها كسر القيود والأعراف المتوارثة من غنائية مفرطة إلى تدفق هادئ ينبني على تشكيلات فكرية عميقة للمعنى، ونزع الصفة الاعتيادية عن كل ما هو يومي وعادي وهامشي والدفع به إلى متن الفعل الشعري؛ ليشكِّل أساسا متينا في إنتاج الدلالة ، و الكشف عن وعي الشاعر الحداثي بالعالم المحيط به والمتفاعل معه والمندمج مع أنسجته الفكرية والاجتماعية والإبداعية، والكاشف عن انحيازاته الجمالية المبتعدة عن المتوارث من حيث الشكل والرؤية، ومن ثم كان البناء بالصورة، فاستخدم الشاعر لغة سردية تعتمد على الوصف في بناء الصورة مع استثمار كل المدركات  في تشكيل الصورة الشعرية، وأصبحت قيمة العناصر المشكِّلة للصورة مستمدة من قدرتها على التمازج فيما بينها لإنتاج صورة شعرية قادرة على منح القصيدة النثرية الصفة الدلالية المنعتقة من أسر التقليد؛ فهي قصيدة دلالية في المقام الأول، ومن ثم فإن عناصر الصورة لا قيمة لها في ذاتها، ولا يمكننا فهم قصيدة النثر بعيدا عن فهم طبيعة الصورة؛ لأن قصيدة النثر حررت البناء الشعري من الإطار الموسيقي وألحقته بالإطار التصويري، وبذلك أصبحت الصورة مشكِّلة للرؤية، ومنتجة للدلالة، وإذا كانت قصيدة النثر منطلقة من سياق ثقافي وحضاري مختلف عن الموروث فقد كان من الضروري أن تعتمد على تقنيات هذا السياق الثقافي والحضاري من حيث استخدام التقنيات غير اللغوية كالرسم والنحت والتصوير، والاعتماد على السيناريو والمونتاج والتنقلات السينمائية بين المشاهد المختلفة؛ من أجل تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة.

وسوف نتوقف في هذه الزاوية من الدراسة أمام بعض الصور البلاغية الواردة في النص باعتبارها دوائر دلالية، محاولين اكتشاف علاقتها بالإطار العام للرؤية التي اتضحت من خلال التحليل السابق للنص، وكذلك علاقتها بالدلالة العامة للشخصيات؛ حيث تتعاضد الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في النص، وإذا كنا سنختار صورة بلاغية محورية لكل موقف فإننا سنتوقف مع بقية الصور البلاغية الواردة؛ لبيان كيفية تعاضدها مع الصورة المحورية في الكشف عن ملامح الرؤية والعلاقات المتشابكة بين هذه الصور كأنها شبكة بلاغية موازية تماما لشبكة العلاقات اللغوية، ومن ثم تخرج الصور البلاغية من دائرة التزيين والتجميل إلى دائرة الدلالة، ولذلك قلنا في البداية إننا سننظر إليها باعتبارها دوائر دلالية، وتتنوّع الصور في النص بين صور تشبيهية، وصور استعارية، وصور كنائية، ومن الصور التشبيهية قوله (وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه كتمثال مصدوم) فالصورة المباشرة أنه شبه عبيرا في مفترق الطرق بالتمثال، ثم أسبغ على التمثال الحياة فوصفه بأنه مصدوم، معطيا إياه الصفات الإنسانية، وإذا أمعنَّا النظر حول الصورة سوف نجدها تتكون من عدة عناصر، فهناك مفترق الطرق وهناك التمثال وهناك الشاعر وهناك عبير، وتشبيه عبير بالتمثال في مفترق الطرق له أكثر من دلالة يمكن استنتاجها، فهو يدل على الحيرة التي سيطرت على عبير نتيجة تصرف الشاعر معها، ووجودها في مفترق يدل على أن كل الجهات مفتوحة أمامها وهي لا تدري أية جهة يمكن أن تسير فيها، كما أن وجودها في مفترق الطرق جعلها مكشوفة أمام الجميع، فالكل شاهد على ما حدث، وهنا يمكن أن يأخذنا التأويل على ما هو أبعد، وهو أن الجميع كان يعلم بحب عبير للشاعر، ويشهدون على ذلك، وكانوا يتوقعون نهاية طبيعية لهذا الحب، ولكن التصرف الغريب من الشاعر جعل عبيرا لا تعرف كيف تتصرف أو في أي اتجاه تسير، لقد أفقدها الموقف توازنها وإن ظلت متمسكة بهذا الحب حتى النهاية، وهذا يدفعنا إلى صورتين تشبيهيتين مرتبطتين بهذه الصورة، الأولى في قوله (كانت تحب أصابعي وترى فيها طرقا إلى قلبي) حيث شبَّه الأصابع بالطرق، ولا يمكن فهم هذه الصورة إلا من خلال الصورة الثاني حيث يقول (كانت عبير تنظر ليدي كمعجزة كانت تقارنها بأمها) هنا تتضح دلالة اليد ومن ثم الأصابع، فاليد هنا عطاء بلا حدود، فقد كانت عبير تنظر إلى الشاعر على أنه عطاء متجدد وبلا حدود، فهو معجزة على حد تعبير النص، ومعنى ذلك أن الشاعر والعطاء كانا وجهين لعملة واحدة في نظر عبير، فاليد هي الشاعر نفسه وهي العطاء أيضا، وقد توحدا فصارا شيئا واحدا، وهو ما يؤكده قوله (كانت تقارنها بأمها) فمقارنة اليد بالأم تدل دلالة واضحة على العطاء فقد شبَّه يده في نظر عبير بالأم، فتدل بذلك على الحنان الذي تتلقاه من يده كما تتلقاه من أمها، وهي صورة تدل على صدق التجربة عند عبير، وارتباطها بالحب ونظرتها إليه على أنه الخلاص، وهذا يعني أن اليد هي الشاعر نفسه بما يتميز به من حنان وعطاء، وهو ما تؤكده الصورة التالية في قوله (لم يكن ليدي بدٌّ من الحب؛ لأنها ولدت يتيمة) يشير إلى أن اليد هنا ليست هي اليد المادية، ولكنها إشارة إليه هو بحسبانه ذاتا إنسانية، وهنا يأتي تأويل لفظ اليد في قوله في قوله (كانت عبير تنظر ليدي كمعجزة كانت تقارنها بأمها) فاليد هنا إشارة إليه، ومن هذا المنطلق يمكننا تأويل (ياما أخذت يدي إلى مناطقها المأهولة) فالدلالة هنا ليست مادية، ولكنها دلالة معنوية بحتة؛ فالمناطق المأهولة هي المناطق الإنسانية في الشخصية، وقد تشير إلى منظومة القيم التي تنتمي إليها عبير/ القرية، ومن ثم كان تركه لها في مفترق الطرق مربكا، وتركها كتمثال مصدوم، إن الصدمة هنا ناتجة عن كونها لم تكن تتوقع هذا التصرف وهي التي تنظر إليه على أنه مصدر للعطاء، فإذا عدنا إلى تأويلنا لدلالة اسم عبير في بداية هذه الدراسة، وعرفنا أن عبيرا تدل على الحياة الأولى/القرية التي انتمى إليها الشاعر نفهم أن هذه القرية كانت تتطلع إلى الكثير من الشاعر؛ فهي تنظر إليه على أنه الخلاص لها بعطائه المنتظر، ورغم أنه ترك عبيرا/القرية وظن أنه تخلص منها فقد ظلت هي الشاهد الوحيد على وجوده، ويتضح ذلك في الصورة التشبيهية في قوله (بعد خمسة وعشرين عاما وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدَّرا له أن يُغفر) فمرور الزمن/خمسة وعشرين عاما لم يستطع أن يمحو وجود عبير من عالم الشاعر، وتشبيه اسمها برقم الإيداع في منتهى الدقة والدلالة على المعنى؛ فرقم الإيداع هو الذي يمنح الكاتب ملكية ما يكتب، أي ملكية الكتاب لصاحبه، ووجود اسم عبير دال على وجود الشاعر، ولكنه وجود مرتبط بما ارتكب في حقها (كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدَّرا له أن يُغفر) وهنا تكون المفارقة، فما فعله ظل ماثلا في الذاكرة ودالا عليه كما يدل رقم الإيداع على ملكية الكتاب لصاحبه، وكأن هذا الذنب لم يرتكبه أحد غيره فقد تم تسجيله باسمه؛ ليظل ماثلا في الأذهان ما فعل. فإذا انتقلنا إلى الصورة التشبيهية التالية (غدارة جيهان يا عبير كالمطبات، كحفرة مفاجئة) فقد شبَّه جيهان بالمطبات والحفر المفاجئة، وهو يدل على التصرفات غير المتوقَّعة من جيهان؛ فالمطب قد يدمِّر السيارة إذا لم ينتبه السائق، وأما تشبيهه لها بالحفر المفاجئة فإنه يدل على التقلب الذي تتسم به شخصيتها، وأن تقلباتها غير متوقعة، فإذا ذهبنا إلى مدى أبعد في التأويل فإن الشاعر هنا يكشف عن شخصية جيهان/المدينة فقد كان يأمل أن تنقله من حال إلى أخرى أفضل، ولكنه اكتشف أنها كالمطبات، أي يمكن أن تدمره بدلا من أن تدفعه إلى الأمام إن لم ينتبه، ومعنى ذلك أنه ينبغي عليه أن يكون يقظا دائما في التعامل معها، ولا يتعامل بتلقائية بل بحرص شديد ويقظة أشد، وينبغي عليه أن يتوقع المفاجآت السيئة منها؛ فهي متقلبة ولا تستقر على حال، لأنها تشبه الحفر المفاجئة، وهنا تنكشف المقارنة الحقيقية بين عبير/القرية وجيهان/المدينة من خلال الصور التشبيهية لكل منهما.

فإذا انتقلنا إلى الصور الاستعارية فإننا نجدها قليلة في النص بالقياس لغيرها، ومن ذلك قولها (وكنت حين تغلقين الحجرة على حبي أسرِّبه من تحت الباب) فقد شبَّه الحب بشيء مادي يسرِّبه من تحت الباب، وهذا هو التأويل المباشر للصورة، فإذا انتقلنا إلى الدلالة فإننا نستطيع أن نلحظ بعض الكلمات الدالة في الصورة، ومنها (تغلقين – الحجرة – أسرِّبه) ففي البداية تنتمي فكرة إلاق الباب على الشيء إلى البيئة الريفية؛ فالأم عندما تعاقب ابنها تحبسه في الحجرة وتغلق عليه الباب، ومن ثم يبدأ الابن في التعامل مع هذا الموقف من خلال تسريب الأشياء من تحت الباب، وهنا نستطيع فهم الصورة الاستعارية الواردة، فمن الممكن أن تكون عبير تعرف برغبة الشاعر في الانطلاق نحو جيهان/المدينة ومن ثم بدأت تضيِّق عليه الخناق رغبة في الإبقاء عليه (تغلقين الحجرة على حبي…) ومن المؤكد أن استخدام لفظ (حبي) هنا ليس مقصودا منه حبه لعبير؛ لأنها إذا عرفت أن المقصود حبه لها فليس من المنطقي أن تغلق عليه الباب، أي تحبسه خلف الباب، ولكن الشاعر لم يعدم الوسيلة في الخروج من هذا المأزق؛ فقد كان يسرِّب حبه من تحت الباب، لقد كشفت الصورة بعناصرها المشكِّلة لها عن الدلالة العميقة التي أراد الشاعر أن يسرِّبها للمتلقي.

أما الصور الكنائية فقد وردت بكثرة في النص، ومن ذلك قوله (كان طريقي صعبا، وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي) فقد صور معاناته مع اختياراته بأنه يمشي حافي القدمين بما يحمله ذلك المعنى من دلالة، وإذا كانت الكناية تشتغل على ظلال المعنى مع إمكانية إرادة المعنى الأصلي فإن ظلال المعنى هنا يأخذنا إلى دلالة حافي القدمين المستخدمة في البيئة القروية التي ينتمي إليها الشاعر، فالمشي حافي القدمين قد تدل على الفقر، وقد تدل على العمل الشاق المستمر، وقد تدل على التيه والبحث الدائم، وقد تدل على المفاجئة من فقدان شيء عزيز، ومن شدة المفاجئة خرج حافي القدمين، وهذه الدلالات كلها تحمل الصفة السلبية للكناية المستخدمة هنا، فإذا ربطنا ذلك ذلك بصورة كنائية أخرى وردت في السياق نفسه فسوف نكتشف الدلالة المراد للمتلقي يفهمها، ويستدعيها إلى بؤرة الرؤية لديه، إذا يقول الشاعر (غير أنني مشيت معك وراء جسدي ومشيت معها عاريا من جسدي وقلبي) فالمقارنة هنا بين عبير وجيهان، وفي الصورة الكنائية الأولى كان يتحدث عن جيهان، وإذا تأملنا هذه الصورة فسوف نكتشف أن المفارقة هنا في شخصية الشاعر نفسه؛ فقد مشى مع عبير وراء جسده، أي أنه تعامل معها من منطلق مادي، فهي لا تملك الجانب المادي الذي يريده كي تمنحه إياه، ولكنها تملك الجانب المعنوي، وهو الحب، والحب لا يشغله في هذه المرحلة، فظن أن جيهان سوف تمنحه ما يريد، ولكنه اكتشف فقدانه لكل شيء في علاقته مع جيهان؛ فقد تعرَّى معها من الجسد/المادة والقلب/المشاعر، ولذلك أصبح يسير عاريا، وهنا تتبدى دلالة الصورة الكنائية الأولى (وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي) فلفظ (حافي القدمين) يأخذنا إلى لفظ (عاريا من جسدي وقلبي) فالمعاناة هنا أنه فقد كل شيء كان يريده/ المادة، وفقده معه ما كان في يده/المشاعر الإنسانية، فهل تعدُّ هذه الصورة في حقيقتها بكاء على ما فقد رغم عدم اعتراف الشاعر بذلك وإصراره على اختياراته؟ وأن هذا الإصرار ما هو إلا محاولة بائسة للدفاع عن اختيارات فاشلة أفقدته كل شيء؟ فقد أصبح يمشي عاريا من جسده وقلبه، وماذا تبقى له إذا فقد الجسد والقلب؟ لقد اعترف الشاعر ضمنيًّا بالضياع؛ لأنه فقدان الجسد والقلب يعني فقدان الوجود. فإذا انتقلنا إلى صورة كنائية أخرى في قوله (حتى جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني وبقيت بيد واحدة) فقد استخدم الشاعر لفظ (بيد واحدة) كناية عن العجز الذي يشعر به، ويسيطر عليه، وإذا ربطنا هذه الصورة الكنائية بصورة تشبيهية وردت قبل ذلك في حديثه عن نظرة عبير إليه في قوله (كانت عبير تنظر ليدي كمعجزة كانت تقارنها بأمها) فسوف يزداد يقيننا بالعجز الذي أصاب الشاعر، فإذا كانت يده رمزا للعطاء بلا حدود في نظر عبير فقد أصبحت هذه اليد عاجزة عن العطاء، ومن ثم فقد أصبح شخصا غير قادر على تقديم أي شيء لأي إنسان، وهنا ترتبط الصورتان (مشيت معها عاريا من جسدي وقلبي – وبقيت بيد واحدة) للدلالة على ما وصل إليه الشاعر من معاناة، وتتأكَّد هذه الدلالة مع الصورة الكنائية الأخرى التي أوردها النص في قوله (لكن ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل، لقلب بلا نبض) فالصورة دالة بوضوح على العجز الذي أصاب الشاعر نتيجة اختياراته التي ظن أنه تمنحه ما يريد وما يصبو إليه، وهنا يحق لنا أن نسأل: هل فعلا لم يندم الشاعر على اختياراته؟ وهل ما زالت عبير لا تخطر على باله؟ تبدو الإجابة في الصورة التشبيهية التي تحدثنا عنها سابقا (بعد خمسة وعشرين عاما وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدَّرا له أن يُغفر).

النص بين الخبرية والإنشائية:

إن اللافت للنظر أن الأسلوب الخبري يهيمن على النص هيمنة كاملة، فعلى الرغم من الطول اللافت للنص لا نستطيع أن نرصد إلا سبعة أساليب إنشائية فقط عبر النص بأكمله، هي كالتالي (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله – آسف يا حبيبتي – الزمن يا عبير – ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل؟ – تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل؟ – يا إلهي كان طريقي صعبا – غدَّارة جيهان يا عبير) وهذه الهيمنة التامة للأسلوب الخبري توحي بأن الأنا الشاعرة في حاجة ملحة إلى البوح والإخبار؛ لأن الأسلوب الخبري يهدف في الأساس إلى الإخبار مع احتمالية الصدق والكذب للكلام، وقد فسَّر الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح في علوم البلاغة) الصدق والكذب للخبر بقوله (صدقه – أي الخبر – مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه للواقع، وقال بعض الناس: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبِر – أي المتكلم – صوابا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له) (ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 25) وفي جميع الأحوال فقد مثَّلت الحالة الشعورية المهيمنة على النفس الشاعرة سببا كافيا للجوء الأنا الشاعرة إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، وإذا كان أهم توصيف للأسلوب الخبري احتمالية الصدق والكذب في ذاته بصرف النظر عن مصدره فإن لجوء الأنا الشاعرة إلى بسط سيطرة هذا الأسلوب على النص توحي بأن هذه الأنا تؤمن منذ البداية أن ما يرد في النص مختلف فيه، وأن التصديق والتكذيب لما في النص شيء عادي، ولا يقدح في المبدع من حيث كونه منشئ النص، ومبدعه، فالانحيازات الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية للمتلقين قد تؤدي إلى التصديق أو التكذيب، أو بمعنى آخر تؤدي إلى قناعة بالرؤية الفكرية في النص أو عدم قناعة بذلك، ومن ثم فإن الإخبار عن الحالة الضاغطة بقوة على الروح الشاعرة هو نوع من التنفيس عن هذه الروح مع القناعة بأنه تعبير عن رؤيتها هي فقط، وليس بالضرورة، ولا يعنيها التصديق أو التكذيب؛ لأن ذلك هو أساس الأسلوب الخبري/احتمالية الصدق والكذب، وهنا يأتي الأسلوب الخبري كاشفا بوضوح عن توترات النفس الإنسانية، وصراعاتها مع اختياراتها المتعددة والمتنوعة، ومحاولة تلك النفس تبرير ما تفعل، أو تأنيب نفسها، أو التعجب، وفي كل الأحوال فإن الأسلوب الخبري يكشف بوضوح عن تلك التموجات التي تتحكم في اللاوعي الإنساني، ويبين الخطيب القزويني أنواع الخبر بقوله (فإن كان المخاطب خالي الذهن بحكم أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم ….. وإن كان متصوّر الطرفين مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر حسن تقويته بمؤكد، وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار…… ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا، والثاني طلبيًّا والثالث إنكاريًّا) (الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 28، 29) وقد استخدم النص/الشاعر الخبر الابتدائي الذي يكون فيه الكلام خاليا من التوكيد، وهو ما يدل على أن الأنا الشاعرة تنظر إلى المتلقي على أنه خالي الذهن وسوف يتقبل الخبر من غير شك أو إنكار، وقد تنظر الأنا الشاعرة إلى المتلقي الشاك أو المنكر على أنه خالي الذهن، أي تنزِّله منزلة خالي الذهن؛ لكون الخبر المسوق إليه من الوضوح بحيث يعدُّ الشك فيه أو إنكاره نوعا من المحال، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6) يقول الشاعر:

أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين

وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي

أسرّبه من تحت الباب

الآن

وأنا أتذكر مفترق الطرق التي وضعتك فيه

كتمثال مصدوم          

أضم كفي، ربما التقينا في خطوط يدي

إن الجمل في هذا المشهد كلها خبرية، والأساس في الجملة الخبرية هي إخبار المتلقي، بمعنى نقل معلومة إلى المتلقي، وفي البداية ينبئ مضمون الخبر أن الغرض منه هو التقرير في قوله (أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين) فالأنا الشاعرة تقرُّ  (أنا) بصيغة الاعتراف، ولكننا إذا نظرنا إلى مضمون الجملة بتأمُّل أكثر فسوف نرى أن التقرير مستبعد؛ فلا يمكن لأي إنسان أن يقرَّ بأنه وغد، وهي صفة سلبية بكل المقاييس – كما أشرنا سابقا – والإقرار بها هو إقرار بأن الأنا لا تتمتع بأي صفة إنسانية، ومن ثم فإن التقرير هنا لابد من استبعاده، وبالتالي لابد من البحث عن غرض آخر يمكن اعتماده من خلال دلالة الألفاظ والصياغة، ويمكن القول بأن أكثر الأغراض قربا من الدلالة هو التبرير، بمعنى أن الأنا الشاعرة تحاول تبرير ما قامت به، وبخاصة أنه يتنافى مع القيم الإنسانية الراسخة، وهو ما يتضح من الجمل التالية (الآن وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه كتمثال مصدوم أضم كفي، ربما التقينا في خطوط يدى) فالتأمل للمشهد من الأنا الشاعرة (أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) يضع الأنا الشاعرة في مواجهة قيمها الإنسانية، فتكتشف أن ما قامت به منافٍ لتلك القيم، ومن ثم كان لابد من تبرير لهذا التصرّف، ولذلك ينتهي هذا المشهد بقوله (ربما التقينا في خطوط يدي)  كنوع من إبراز الندم على ما قامت به الأنا الشاعرة، ولكنه ليس ندما حقيقيا – كما أشرنا سابقا – وإن كان محاولة للتخفي والتنصّل، ثم يأتي المشهد الخبري الآخر الذي يدور في فلك الغرض نفسه/التبرير، وهو قوله:

الحب يجعلنا ننسى أنفسنا عامدين

لم يكن ليدي بدّ من الحب

لأنها ولدت يتيمة

كان لا بد لى من جيهان؛ لأنها أجمل

كان لا بد للطرق أن تتقاطع

وقد بدا التبرير واضحا في قوله (لم يكن ليدي بدٌّ من الحب؛ لأنها ولدت يتيمة) فالأنا الشاعرة هنا تقدِّم تبريرا لعبير في الاندفاع إلى حبها رغم أن هذه الأنا كانت ترغب في حياة أخرى مختلفة تماما عن حياة عبير، ثم يأتي التبرير الثاني في قوله (كان لابد لي من جيهان؛ لأنها أجمل) وهذا التبرير امتداد للتبرير الأول، ومن ثم كان ختام المشهد الإخباري بقوله (كان لابد للطرق أن تتقاطع) لقد نجح الخبر هنا في نقل ما يدور في ذهن الأنا الشاعرة، ويؤكد غرض التبرير كثرة التعليلات التي يسوقها الشاعر( لأنها ولدت يتيمة – لأنها أجمل) فالتعليل هو تبرير سبب التصرف الذي قامت به الأنا الشاعرة، فإذا تأملنا هذه التبريرات وجدنا أنها تتفق مع قوله في البداية (أنا الوغد …) فالوغد هنا صفة له؛ لأنه كان يعرف أنه لا يريد حب عبير، ولكنه ذهب إليه؛ لأنه كان مضطرا له وهو يعرف أنه يخدع عبيرًا، على أننا يمكن أن نلمح غرضا آخر للخبر إلى جانب التبرير، وهو التأنيب ولوم النفس في قوله:

الأقدام تختار الطريق

لكن الطريق لا يخبرها بآخره

للطرق حيل هي الأخرى

تعرف النهاية، لكنها تفضل أن تصل الأقدام إلى هناك

النهاية بداية تبحث لنفسها عن مسمّى

فالواقع الملموس يشير إلى أن كل الذين ساروا في الطريق الذي اختارته الأنا الشاعرة وصلوا إلى النتيجة نفسها (الأقدام تختار الطريق لكن الطريق لا يخبرها بآخره) وهنا يبدأ التبرير؛ فهو لم يختر ولكن الأقدام هي التي اختارت، والطرق تعرف النهايات لكنها لم تخبره بالنهاية، وهنا يأتي التبرير، ولكن التأنيب قد يكون مفهوما من مضمون الخبر بأكمله؛ فالأنا الشاعرة لم تكن راضية عما وصلت إليه من نهاية لاختيارها لجيهان رغم أنها اختارتها بكامل الإرادة (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله) لكن النهاية لم تكن كما أرادت تلك الأنا (كلهم خذلوني حتى جيهان التي تركتك من أجلها هجرتني – غدَّارة جيهان كالمطبات ، كحفرة مفاجئة) فمضمون الخبر قد يفهم منه التأنيب، ولكنه ليس تأنيب النادم على ما فعل من اختيار، ولكنه تأنيب المخطئ في إدارة الأحداث؛ فالأنا الشاعرة لم يصدر منها أي اعتذار على الاختيار، بالعكس لقد أقرت الأنا الشاعرة باختيار جيهان بكامل الإرادة (لكنني … اخترت جيهان بقلبي كله، وحين كنت تتصلين بي لأسمع آية تلعن الخائنين كنت آخذ لعنتي وأدفنها في صدرها)، ثم يأتي الخبر الآخر الذي يصوغه الشاعر دالا على التعجب، حين تحدث عن عبير، وتدوينه تاريخ لقائهما بأحد الدواوين، ثم يقول:

ما أغرب المصادفات

ما أطول الطريق الذي نمشي فيه

ثم يكون على أحدنا أن يكمله وحده

فمن الواضح أن الغرض من الخبر هنا التعجب من خلال استخدام صيغة التعجب (ما أفعل) في قوله (ما أغرب المصادفات/ما أطول الطريق) وكأن ذلك نتيجة طبيعية لاختيار بدا منذ البداية مشوبا بالمراوغة.

وهكذا يكشف الأسلوب الخبري عن صراعات النفس الإنسانية مع اختياراتها، وتقلباتها المختلفة، وحركة اللاوعي المتموِّجة التي لا تهدأ، وإذا انتقلنا إلى الأساليب الإنشانية فسوف نجد أن النص اشتمل على عدد قليل جدا من هذه الأساليب، وهي كالتالي (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله – آسف يا حبيبتي – الزمن يا عبير – ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل؟ – تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل؟ – يا إلهي كان طريقي صعبا – غدَّارة جيهان يا عبير) ففي الجملة الأولى (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله) قد جاء الأسلوب الإنشائي/النداء جملة اعتراضية بعد استدراك (ولكنني) وقد يكون الغرض منه التنبيه، والجملة الاعتراضية تُحْدِث شرخا في البناء الأساسي للجملة من أجل أن تضيف إلى هذا البناء الأساسي معنى إضافيا؛ إذ إنها/الجملة الاعتراضية تأتي بين شيئين متلازمين، كالفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر أو الصفة والموصوف، فإذا عرفنا ذلك أدركنا أن قوة الجملة الاعتراضية ناشئة من كونها محدثة لهذا الشرخ؛ لإيصال رسالة محددة، وهنا يكون الأسلوب الإنشائي (لكنني يا عبير اخترت جيهان بقلبي كله) الغرض منه التنبيه، وكأن الأنا الشاعرة تريد أن تنبه عبيرا إلى أن اختيار جيهان كان عن قناعة تامة، ومن ثم فإن الاعتذار عن هذا الاختيار غير وارد نهائيا، وهنا يأتي الأسلوب الإنشائي الثاني (آسف يا حبيبتي) فالغرض من النداء/الأسلوب الإنشائي هنا هو الاعتذار إلى عبير عن إقراره باختيار جيهان، واعتذاره كذلك عن عدم إكمال رحلته معها/عبير، وهو إقرار في الوقت نفسه بقناعته التامة باختياره وإن أدَّى إلى تلك النهاية (كلهم خذلوني حتى جيهان التي تركتك من أجلها) فهذا الاختيار صعب جدا ولكنه قرار كان لابد من اتخذاه وتحمل نتائجه، وهو ما عبَّر عنه بقوله (وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي – والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين)، وقد بدا الاعتذار واضحا من خلال استخدام اللفظ الدال على ذلك صراحة (آسف) ثم يأتي النداء (يا حبيبتي) ليعبر عما تكنُّه الأنا الشاعرة لعبير من أحاسيس؛ فقد وصفها الشاعر بأنها حبيبته، وقد يكون هذا الوصف دالا على التوزُّع التي تعيشه الأنا الشاعرة بين اختياراتها، فقد اختارت جيهان بكل قلبها، ولكنها مازالت ترى في عبير صفاء غير مألوف، هو صفاء الحياة الأولى التي لا تعرف التقلب أو المراوغة، وهو ما عبر عنه النص في النهاية بقوله (أظن لو أننا تزوجنا كنت ستحرسين قبلاتنا .. المصحف الصغير .. البرواز الذي أضع فيه الآن صورة ابنتي) وإذا وضعنا هذا الكلام إلى جانب الكلام الآخر الذي ورد سابقا على لسان الأنا الشاعرة (وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي – والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) يمكن أن نستنتج أن الأنا الشاعرة ما زالت ترى في عبير حبا حقيقيا ولكن الاختيار كان يحتِّم عليها/الأنا الشاعرة ضرورة اختيار عبير، وسوف نشير إلى ذلك لاحقا، ( وقد يكون هذا الوصف (حبيبتي) هدهدة لنفس عبير، وتخفيفا عنها من أثر هذا الاعتراف، ثم يأتي الأسلوب الإنشائي التالي (الزمن يا عبير) ليستدعي عبيرا أيضا إلى بؤرة الأحداث، وقد يكون الغرض منه التنبيه لعبير بعدم مسؤوليته، وهو نوع من التبرير، ولكننا نلاحظ أن عبيرا ما زالت في بؤرة الرؤية قابضة على روح النص، وإن حاول الشاعر إقناعنا بنسيانها وأنها لم تعد تخطر على باله، أما الأسلوب الإنشائي التالي فهو (ما الذي يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل؟) وهو كما يبدو لنا أسلوب استفهام والغرض منه النفي؛ فالشاعر ينفي في هذا الأسلوب الإنشائي قدرة الأسف على تغيير الواقع، فالأسف هو مجرد تعبير عن الاعتراف بالهزيمة في الاختيارات، ولكنه لن يستطيع تغيير النتيجة التي آلت إليها الأمور، وأما الأسلوب الإنشائي (غدَّارة جيهان يا عبير) فالغرض منه إظهار التألم والتحسُّر؛ فالاختيار الذي قام به كان مؤلما؛ إذ كان الغدر من نصيبه بعد أن ترك عبيرا التي أحبته بكل كيانها من أجل جيها التي اختارها من كل قلبه، وعلى الرغم من ذلك فقد غدرت به، ولا يمكن أن يكون الغرض من النداء هنا (غدَّارة جيهان يا عبير) هو الندم؛ لأن الشاعر أقرَّ بأنه رغم كل هذه السلبيات فإنه يصرُّ على اختياره، ومن ثم فإن الندم ينتفي هنا كغرض بلاغي من الأسلوب الإنشائي/ النداء، ثم يأتي الأسلوب الإنشائي التالي (تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل؟) وهو أسلوب استفهام قد يكون الغرض منه التمني، إذا قدرنا مكان أداة الاستفهام أداة التمني (ليت) واستقام المعنى، فكأن الشاعر أراد أن يقول لعبير: ليتك تذكرين، وقد يكون الغرض منه الحثّ، كأن الشاعر أراد أن يحث عبيرا على التذكر، وفي جميع الأحوال فإن أسلوب الاستفهام هنا متوجه إلى عبير، ثم يأتي الأسلوب الإنشائي الأخير (يا إلهي كان طريقي صعبا) وهو أسلوب نداء الغرض منه التعجب، كما قد يكون الغرض إظهار التألم، ومن الملاحظ أن معظم الأساليب الإنشائية قد دارت حول عبير، أو وردت عبير طرفا فيها، وهو ما يعبر عن احتلالها مكانا مركزيا في الرؤية في النص، وإن حاولت الأنا الشاعرة إظهار غير ذلك إما لفظيا (لا تخطر على بالي عبير) أو معنويا.

وهنا يضع الناقد عصا الترحال مع يقينه أن النص يمتلك الكثير الذي يمكن قوله، ولكن الثقة في المتلقي كبيرة أن يكتشف الملامح التي لم تشر إليه الدراسة النقدية قياسا على ما أشارت إليه، فالحديث عن السيناريو والمونتاج والتنقلات السينمائية بين المشاهد المختلفة؛ من أجل تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة في النص، كلها أمور تستحق الدراسة، والوقوف أمامها طويلاً .

 

لقراءة قصيدة “البنت التي كانت تحب أصابعي”: اضغط هنا

مقالات من نفس القسم