يبدأ هذا الإحكام باختيار واحة منعزلة فى الصحراء يطلق عليها الخمايسى اسم “الوعرة” مكانا للأحداث، وهو اسم يليق بحياة ساكنيها، حياتهم محاطة برمال الصحراء، ومعيشتهم تعتمد على نبع وبئر، الشمس والقمر والنخيل والجمال و حيوانات الصحراء تؤنس وحدتهم، الصحراء عموما منحت الرواية مجالا مكانيا واسعا، وطبيعة بدائية، تتسق مع ما يدور فى ذهن بطل الرواية “حجيزى بن شديد الواعرى ” من أفكار وأسئلة باتساع حياة البشر، اسمه يعبر ، مثل معظم أسماء الرواية، عن بعض من صفات الشخصية، رجل بلغ المائة عام أخذ نفسه بالشدة والوعورة مشغولا بفكرة واحدة هى الموت، والد حجيزى الراحل كان يرتزق من تحنيط جثث الحيوانات وبيعها، وفى مرة قام بتحنيط جثة فارس وحصانه عثروا عليهما فى الواحة، رأى حجيزى الجسد الإنسانى وهو يفرّغ من أحشائه، ثم رأى حلما يظهر فيه راهب يعرفه اسمه “يؤأنس”، تنبأ أن يموت حجيزى بعد أيام ثلاثة.
مشكلة حجيزى ليست فى مخافة الموت. رجل بلغ من الكبر عتيا، ولديه ابن يدعى بكير، وثلاثة أحفاد، عجوز لا يفوته فرض فى مسجد الواحة، يعتبر الموت حقيقة راسخة. سؤال حجيزى عن الجسد. إنه لا يريد أن يدفن فى مقبرة، لايريد أن يغادر الواحة الى الصحراء، يبحث عن وسيلة لبقاء جثمانه ، حتى بعد موته، بين أعز الناس. أمنية حجيزى فى حقيقتها ليست إلا التفافا على فكرة الموت، إنه يبحث عن بقاء بعد خروج الروح، انشغاله ببقاء الجسد بعد الموت أفسد حياته، لدرجة أنه لم يجامع امرأته العجوز سريرة (حافظة السر والصابرة أبدا) سوى مرات ثلاث خلال نصف قرن، كلما اقترب من الجسد، تذكر فتح الجسد على يد والده، حجيزى إذ يرفض الدفن، وإذ يريد جسدا باقيا وسط أحبائه، إنما يحلم بالخلود، وهى الفكرة التى سيطوّرها أشرف الخمايسى فيما بعد فى روايته التالية “إنحراف حاد”، التى وصلت الى قائمة البوكر العربية الطويلة فى عام 2015.
إحكام البناء لم يكن ممكنا إلآ بهذا التفكيك الكامل للزمن مما أتاح للسارد حرية كاملة فى الإنتقال بين الماضى والحاضر، والى تقسيم الخطوط، والإنتقال بين أكثر من حكاية وزمن فى نفس الفصل. حقق ذلك هدفين فنيين بارعين: أولهما سرد وقائع الأيام الثلاثة التى يعتقد حجيزى أنها أيامه الأخيرة فى الدنيا بناء على رؤيا حلم بها، ولكن هذا السرد سيقدمأايضا ممتزجا بمشاهد من حياة رجل عاش مائة عام، هنا تكثيف بارع للزمن فى وحدة واحدة متماسكة. أما الهدف الفنى الثانى الذى تحقق بامتياز، فهو تتبع الفكرة بشكل عابر للزمن، ولذلك لم يشغل الراوى نفسه بترتيب الزمن، لإنه يتابع جدلية الحياة والموت، سواء فى مسيرة حجيزى، أو فى مسيرة الشخصيات المحيطة به مثل صديقيه اللذين فقدهما فى خمسة أيام قبل حلمه : سعدون الضحوك، وغنيمة صاحب التجربة، ومثل زوجته سريرة، وزوجة ابنه ثريا، وزليخة المغرية والجميلة دوما زوجة سعدون الأولى، أو فى قصص الرهبان الذين عاش معهم حجيزى فى جبلهم البعيد، وخصوصا الراهب “يؤأنس” الذى لم يكن مؤنسا، والذى لم يقدم لحجيزى دواء شافيا.
التهشيم لفكرة الزمن ليست لعبة حداثية مجانية عند الخمايسى، إنه يريد قارئا يقظا يكمل ملامح القصص والحكايات رغم تناثرها، بنفس الدرجة التى يتأمل فيها جدلية الموت والحياة فى تجاورها السردى رغم اختلاف الأزمنة، بناء اللوحات يقوم أساسا على هذا التضفير المحكم للحياة فى تجلياتها المختلفة ( ضحكات، مجالس أنس، مضاجعة جنسية فى الصحراء، طعام، شراب، ليلة زفاف، حكاية حب، محاولة إغواء ، صناعة تمثال، إنقاذ عصفور/ عصافير فى عربة قطار.. الخ)، بالموت سواء فى تجليه المباشر أو غير المباشر ( تحنيط جثة، غرق أوزة فى شبر ماء، غرق طفل فى بئر، وفاة سعدون وغنيمة، احتراق جميل ابن سعدون وكذا بثينة زوجته الثانية ، غنيمة ينتظرالموت وسط عاصفة، غنيمة يذبح كلبه لكى يأكله، الذئاب تمزق الناقة حية، تمثال يتحطم، صبحى / الراهب يؤأنس يقتل سيرين التى تشتعل رغبة، جوع الرهبان وحياتهم المتقشفة، ثم تفكير حجيزى الدائم فى الموت ..) ، هذه المقابلات المتواصلة، دون اعتبار لترتيب زمنى هى سبب التأثير القوى للرواية على قارئها، ذلك أنه لا حياة دون حضور للموت، ولا موت دون أن تليه لوحة حياة، والرائع حقا أن الخمايسى قد وصف الحالتين بقوة، يمكنك مثلا أن تقارن مشهد المضاجعة بين سعدون و زليخة أسفل شجرة البرتقال، بمشهد الوداع لحجيزى أسفل نفس الشجرة، لا تستطيع أن تستدعى مشهد إغواء سيرين لصبحى دون أن تستدعى مشهد قتلها، ولا تستطيع أن تفصل فتنة الجسد كما تعبر عنها زليخة أو ثريا أو سيرين حتى المراهقة سكيرة ، منفصلا عن معاناة الجسد محترقا، أو جائعا، أو محروما من متع الحياة، أو منهوشا من ضوارى الصحراء.
الزمن تحوّل إذن الى ما يشبه قطعة شطرنج، البشر هم قطع اللعبة، والموت والحياة يلعبان بكل قوة وذكاء، وبطلنا حجيزى يتكلم باسم الإنسان رغم ملامحه المحلية الصميمة، ويبحث عن بقاء بعد خروج الروح، بقاء مكانى، يريد جسدا لا يأكله الدود، فيمتص نباتا مرا قبل أن يموت ، يريد جثة لا تتعفن، فيأكل برتقالة قبل الوداع، نشعر بالأسى والتعاطف، ونحن نتأمل تلك الحلول العبثية، ونشعر بمعاناته الوجودية عندما يلجأ الى جبل الرهبان، ثم يستدعى المسيح لكى يحل له إشكالية الموت والقيامة. اختار الخمايسى شخصية المسيح بالذات لأنه يجسد ثنائية الموت والحياة، هو نفسه صاحب معجزة إحياء الموتى، نلاحظ فى الجزء الذى يتعلق بتجربة حجيزى فى جبل الرهبان، استخداما مميزا للحقيقة وللخيال، للرؤيا والواقع، ومزجا مدهشا للرموز الدينية ضمن بناء الرواية وشخصوها وأجوائها، تنمحى تقريبا الخطوط بين ما هو متخيل أو ما هو ممكن الحدوث، شىء أقرب الى واقعية سحرية تتيح للروائى فى المقام الأول أن يطرح كل أسئلته الشائكة بصراحة. تنتهى التجربة بإيمان حجيزى (كان وقتها فى سن الثمانين) بأن الذين يحرمون أجسادهم ( الرهبان) لن يستطيعوا أن يمنحوه سر الحفاظ الى جسده بعد موته، وتنتهى التجربة بمسيح جديد يرفض فكرة الهروب من الحياة فى الصحراء تحت لافتة منافى الرب، أو البحث عن منفى من أجل الرب، الله لايريد منا ذلك، مسيح يريد قيامة الأرواح لا حفظ الأجساد، يتعلم منه حجيزى أن الإنسان يجب أن يكون سيدا على الأرض، وأنه يجب أن يكون جديرا بخلافة خالقه.
“منافى الرب” ليست فى جوهرها إلا رحلة دفاع عن الحياة فى كل تجلياتها، فى مواجهة الموت بكل تجلياته، المنافى ليست هى الصحراوات البعيدة التى نهرب بها من حياتنا وأجسادنا فحسب، ولكنها تكون أيضا فى الحزن والوحدة والخوف، فى عدم الثقة بأن لدينا ما يجعلنا حقا جديرين بالخلافة، فى فهمنا الخاطىء لمقصد الرب فى أن نكون على الأرض، فى رفضنا للحب، فى بحثنا خارج أنفسنا عن منقذ ومخلص، بينما توجد داخلنا طاقة الحياة العظيمة، التى سيمدها أشرف الخمايسى الى نهايتها مكونة طاقة خلود حقيقية فى “إنحراف حاد”.
ليست الأرض منافى الأرباب، ولكنها ساحة العمل والبقاء والبناء، ليست المعوّل على الفعل، ولكن المعوّل على القلب، الرهبان أخطأوا الطريق، وسليم ( حفيد الحجيزى) الذى عشق سكيرة فصنع لها تمثالا هو الذى أصاب، حجيزى نفسه شغله الموت فعاش ميتا وهو على قيد الحياة. لا يجب أن نخاف من دفن الجسد، لأن خلود الذكرى والذكر أبقى وأكثر استمرارا، ولأننا نستطيع أن نهزم النسيان بالوجود، ولأن الحياة فى حركتها تتجه الى الأمام، ولأن إنسانا قادما سيكون جديرا بأن يكون سيدا وخليفة لله على الأرض. خلاصة رحلة حجيزى / الإنسان يقولها المعزّى الذى يرافق لحظاته الأخيرة، رسالته يجب أن تكون رسالتنا جميعا:” المجد للإنسان الذى يعرف قيمة نفسه، رب هذه الأرض، والعزة لله، الذى خلقه ليكون خليفة، وأول ما علّمه علّمه سر أسماء مفاتيح الربوبية، أنا الذى قلت للإنسان أعظم كلمة: اقرأ، وأيقظ العقل، لتعرف كم أنت عظيم” . وكيف نهزم الموت؟ بكل أفعال الحياة وأولها الحب : “السعادة امرأة تحبك وتحبها، كلمة تشبه ما قاله الأب يوأنس: لو وجد أحدنا امرأة تحبه ما ألقى نفسه فى منافى الرب”، نهزم الموت بالكتابة التى تخلّد المعنى والإنسان، مثلما فعل الخمايسى عندما سرد قصة معاناة ورحلة السيد الحائر المعذب “حجيزى بن شديد الواعرى”، فكانه سرد حكايتنا نحن، وكأنه طرح أسئلتنا نحن.
فى رواية تتعدد فيها الأصوات، وتتداخل فيها الأزمنة، وتمتزج فى سطورها الحياة بالموت، والأجساد بالجثث، ويحضر فيها اللحم بقدر ما تحضر الروح ويحضر العقل، وتصبح فيها المرأة مرادفا للحياة ، فإن من العبث أن تتساءل عن حدود الحقيقة وحدود الخيال: هل رؤيا حجيرى حقيقة أم محض أوهام؟ هل معجزة الجبل والذئاب حقيقة أم خيال؟ هل يمكن أن يبقى جسد جندى وفرسه سليمين بعد عشرات السنين؟ هل يمكن أن يتبقى جيش الفُرسْ رغم سطوة الرمال؟ لقد صنع الخمايسى رحلته بقوانينها الخاصة التى تأخذ ما تشاء وقتما تريد، سواء من الخيال أو الحقيقة، تماما مثل حكايات حجيزى لأحفاده، الحكايات يمكن أن تكون حقيقية وغير حقيقية فى نفس الوقت، ربما لأنها تطرح أسئلة، وليست للأسئلة آفاق أو حدود، فكيف يكون التعبير عنها محدودا؟ بل إن ما كنا نعتبره حقيقة فى الرواية، سنكتشف فى النهاية أنه ليس كذلك (سنكتشف مثلا أن مسجد الواحة لم يكن فى الواقع سوى سجنا بلا نوافذ بناه العثمانيون لتعذيب المماليك).
خذ من رواية “منافى الرب” ما شئت على قدر خيالك وتصورك، ولكن لا تنس أبدا سؤالها المزعج الذى يكرره حجيزى، فيذكرنا بما أردنا أن ننساه، يقول الرجل متألما: “لماذا يدفن الناس أعز الناس؟”.