جدع زي الورد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

"يا لك من شنقيط"

عبد المنعم إبراهيم ــ فيلم إسماعيل يس في الأسطول

خالي الذي كان "يحب السينما زي عينيه" كما تقول أمي، لم يكن يشاهد فيلما واحدا على بعضه، لأنه كان مشغولا بقبول تقبيل الفتيات له في السينما، لأنه جدع ولا يكسر بخاطر واحدة، وكانت الواحدة منهن تستغل مشاهد التقبيل في السينما على الشاشة الكبيرة في أن تفعل مثلما يفعل أبطال الفيلم، وربما لو كان خالي يعيش إلى هذه اللحظة لهجر ارتياد السينما التي كفت عن مشاهد ممارسة الحب والقبلات في الأفلام فيما عرف بمرحلة السينما النظيفة، بالإضافة إلى سبب آخر وهو أنني أصبحت أكلف خالي ثمن تذكرة كاملة، بعد أن أصبح طولي حاجزا يمنعني من الدخول المجاني بصحبته.

خالي كان يكره أفلام الحرب وأفلام الأكشن، ويقول إنه لا يحبها، ولا أفهم ساعتها أيهما يعني الحرب أم الأكشن، لكن فيما بعد سأدرك أنه كان لا يحب الحرب لأنه سيموت فيها، هو فقط كان يحب الأفلام الرومانسية، وأتذكر حين دخلت فيلم تيتانيك بعد سنوات من مصرع خالي في ساحة الحرب، أنني فكرت أنه لو كان موجودا على قيد الحياة فسوف يحب هذا الفيلم جدا، وسيدخله مرات عديدة بعدد رفيقاته، وستناله قبلات كالمطر من صاحبته في السينما، وأعرف أن عينيه ستتلألآن بالدموع مع مشاهد غرق السفينة تيتانيك، وأن شعره الناعم سوف ينسدل على جبينه بينما يبكي فتلمُّه له رفيقته، وتعيده إلى الوراء وهي تطبع قبلة حنونة على شفاهه الموردة، ساعتها أتخيل نفسي صانع الفيلم وأقوم بكتابة إهداء يظهرعلى الشاشة يشاهده ملايين الناس في كل الدنيا، وسيكون الإهداء رقيقا ومكتوبا على الشاشة قبل تترات الفيلم: إلى خالي، كان جدع زي الورد. أو أكتب: إلى خالي.. يا لك من شنقيط. تلك الجملة التي كان يقولها عبد المنعم إبراهيم في فيلم إسماعيل يس، ويقولها لي خالي حين يلاحظ أني أراقب الفتيات وهن يقبلنه. لكن لأني لست من صناع الأفلام – فقط أنا من مشاهديها – لذلك سوف أكتفي بالبكاء حين أتذكره أثناء الفرجة على الفيلم، وذلك حين رأيت شابا يشبهه إلى حد بعيد، وكانت هناك فتاة تشبه فتيات خالي تقبله رغم أن شفاهه ليست وردية ولا أسنانه بيضاء مثل خالي.

ساعتها أعرف أن الجدعان كثر، لكن لا أحد جدع زي الورد مثل خالي، الذي كنت أراه أحلى من كل أبطال الأفلام التي شاهدتها برفقته، وأعرف أنه كان سيُختار بطلا لموجة أفلام الشباب التي ظهرت بعد رحيله، وأنه بالتأكيد كان سيصبح نجم الشباك الأول، وأنني سوف أكتب قصة فيلم خصيصا له، حيث يكون بطل الفيلم جذابا وسيما يتهافت عليه النساء والرجال. النساء يشعرن تجاهه بالجاذبية، والرجال يشعرون نحوه بالغيرة، وربما الإعجاب الخفي أيضا، ذلك الإعجاب الذي تكنُّه به بعض صدور الرجال تجاه رجالٍ آخرين، لكنه يظل داخل الصدور فقط.

الجدع زي الورد الذي قادته بلاده إلى ساحة حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، قادته ويا للمفارقة إلى ساحة حرب حقيقية مع أنه كان لا يحب أفلام الحرب في السينما، وكان يغمض عينيه وأذنيه مع صوت كل طلقة فشنك تضرب في أي فيلم يشاهده.

خالي الذي كانت تمتلئ حجرته بأغلفة مجلات الكواكب، والموعد، والراديو المصري ــ مجلة الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية ــ وأتذكر العدد الذي تحتل غلافه فقيدة الفن السينمائي “إسمهان” كما يقول الغلاف، الذي ينوّه إلى حضور حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم الحفلة الأولى لفيلم “غرام وانتقام” بطولة إسمهان، التي رحلت قبل أن يكتمل تصوير الفيلم، وتذكرني الدعاية للفيلم بهذه الطريقة بمقولة: كوهين ينعي ولده ويصلح ساعات. ومجلة الكواكب التي كانت دائما تحرص على أن تكون هناك هدية للقراء مع العدد مثل عدد فريد الأطرش على الغلاف، وكانت هدية العدد نتيجة سنة 1965، بينما غلاف المجلة الخلفي يؤكد بحسب شركة النصر لتصنيع الأسماك، أن نجمة السينما ليلى طاهر تحتفظ دائما بمنتجات الشركة في ثلاجتها من الخضراوات الجمدة! أما العدد الممتاز الصادر بمناسبة بداية شهر رمضان الكريم، فتقف الفنانة مريم فخر الدين على غلافه ممسكة بفانوس صاج بديع الألوان، وفي هذا العدد تتابع الكواكب حفل يوسف وهبي الذي أقامه بمناسبة شم النسيم في فيلته. يا ترى من الذي حضر؟ وتنشر مذكرات محمد عبد الوهاب وهو يحكي عن أول لقاء له مع أحمد شوقي أمير الشعراء، وماذا دار باللقاء، وتكشف أسرار البلاتوه، ولماذا رفض كمال الشناوي تقبيل كاميليا. وتسرد المقلب الذي وقعت فيه كريمان في أول يوم رمضان، وأيضا تعرض صفحة كاريكاتور شيِّقة بريشة مهيب. ستجد بها كل الفنانين المحبوبين حسن فايق، القصري، إسماعيل يس، سامية جمال، شرفنطح، ماري منيب.. وغيرهم، وتابع إعلانات أفلام عفريتة إسماعيل يس، حسن ومرقص وكوهين، وشاهد واختر أفضل أجهزة الراديو الحديثة من الإعلانات.. يا ترى ما هو الأفضل لك، فليبس، سودفونك، مندي، ماريللي تسلا، شوب… ماركات متنوعة من الرداوي!

أما في مجلة الموعد اللبنانية فكنت أحب جدا العدد الذي يظهر الفنان خفيف الظل محمد فوزي على غلافه وهو يرتدي روب “دي شامبر” ويروي قصارى الزرع في بيته!

حجرة خالي حيطانها كانت جميلة وملونة، ومليئة بهدايا مجلة الكواكب، التي كان يحرص على شراء أعدادها القديمة من سور الأزبكية، لذلك ليس غريبا أن يرى خالي في منامه؛ مديحة كامل ونجلاء فتحي وميرفت أمين، وإن كان في بعض تلك المنامات يطارده رشدي أباظة لخطفه الجميلات منه، لكنها مطاردة لذيذة، كما يصفها خالي الذي كان يحكي لي أحلامه الفنية. ويسألني مداعبا: تعرف تفسير الحلم ده إيه؟

فأخبره على الفور وبتلقائية طفولية: هتتجوز رشدي أباظة!

فيغرق في الضحك ويسألني: ليه؟

فأقول له: عشان هوَّ بيجري وراك، زي البنات اللي بتجري وراك وعايزة تتجوزك.

ويسألني: وعرفت منين؟

فأخبره أن أمي قالت: البنات بتجري ورا خالك عشان عاوزه تتجوزه.

خالي الذي كان يلعن أباه، لأنه أنجب أخا له على كبر، أضحى سببا لالتحاقه بالجيش أو بالأحرى كان سببا في التحاقه بالسماء، هل قصد أبوه هذا؟ هل أراد جدِّى لابنه الوحيد أن يسترجل فأنجب له أخا وهو في أرذل العمر؟ أم أن هذا كان مجرد نشاط جنسي متأخر يشبه مكافأة نهاية الخدمة أراد به جدي أن يثبت أن ذكره لا يزال في الخدمة، ويعمل رغم أن السكر هدَّه، وحتى يخرس الألسنة تزوج تلك السيدة التي تصغره بثلاثين عاما، وأنجب منها الولد المفعوص بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيبا، الولد المفعوص الذي منح خالي بطاقة التأهل للتجنيد.

هل تحقق حلم جدي في أن يجعل خالي يسترجل؟ رغم رحيل جدي بعد أن التحق خالي بالتجنيد بأيام قلائل، فإنني رأيت ابتسامة الانتصار على وجه جدي الميت، وقد رأى ابنه الكبير حالقا شعره أخيرا على نمرة واحد.

صحبة خالي أيام السينما جعلتني أتعلم منه أشياء كثيرة، بالطبع غير تقبيل الفتيات جعلتني رقيقا مثله، أنهْنه بصوت خافت من المشاهد الرومانسية في الأفلام، وأبكي تأثرا حين أرى شجار النهايات في قصة حب في الحديقة.

كنت أرى الحديقة مثل شاشة السينما، أتابع عليها مشاهد الحب بشغف، لكن في الحديقة دوري أصبح أكبر من المشاهدة، كنت بشكل أو بآخر متداخلا في قصص العشاق داخل الحديقة، أسهم ولو بجزء ضئيل فيها، حتى لو كانت هذه المساهمة غير مباشرة، تأتي عن طريق التلصص.

 

*فصل من رواية حارس “حديقة المحبين” الصادرة أخيراً عن دار العين 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال