إيهاب الملاح*
جبور الدويهي، اسم روائي معروف، وواحد من أصحاب الخطى الثابتة الواثقة في المشهد الروائي العربي بصفة عامة، واللبناني بصفة خاصة، ومنجزه الروائي (5 روايات) مفعم بكتابة سردية اختطت لنفسها طريقا متميزا وانتظمت في سلك روائي لا يخالط ولا يلتبس بمنجز آخر، استحق به عن جدارة مكانة كبيرة واهتماما ومحبة واعترافا مكينا بين قرائه وجمهوره في عموم الوطن العربي، ونال عنه جوائز عدة كان آخرها جائزة مؤسسة حنّا واكيم عن روايته “شريد المنازل” 2011.
شريد المنازلK إحدى الروايات الست التي تم اختيارها ضمن القائمة القصيرة للمتنافسين على الجائزة العالمية للرواية العربية العام 2012م، وهي تستعيد أجواء الحرب الأهلية اللبنانية بواقعية تجعل القارئ ينخرط في أجوائها، كما جاء في تقرير لجنة تحكيم الجائزة، حيث بطل الرواية مثال للفرد اللبناني المأزوم الذي فرض عليه واقع طائفي، في حين هو لا ينتمي إلى ذلك الواقع وجدانيا. شخصية كهذه في الواقع اللبناني تجد نفسها هشة وعرضة للتشكيك في انتمائها ولمواقف ونزاعات تجعلها مضطرة للبقاء في وضع التأهب معظم الوقت.
صاغ الدويهي في روايته البديعة “شريد المنازل”، الصادرة عن دار النهار البيروتية 2010، مأساة الشاب اللبناني “نظام العلمي” الذي راح ضحية الاقتتال العنيف في لبنان خلال الحرب الأهلية، “فلا المسلمون اعتبروه مسلماً، ولا المسيحيون حسبوه واحداً منهم.. لفظه الجميع وقبله الله”. مأساة يرويها ويتتبع فصولها وينسج خيوطها باقتدار وتمكن وبراعة لافتة، حتى انتظمت “سيرة نظام العلمي” في عمل روائي متميز بنائيا ولغويا، مستغلا أو متكأ على النواة التاريخية مضيفا إليها، وعبر تخييل فني متماسك ومحكم، تفاصيل معبرة وحوارات مؤثرة.
جبور الدويهي، روائي وأكاديمي لبناني، من مواليد 1949، في زغرتا بشمال لبنان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون، ويعمل أستاذا للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية.
تعرف القراء والمثقفون على إبداع جبور الدويهي منذ صدور مجموعته القصصية الأولى “الموت بين الأهل نعاس”، عن دار المطبوعات الشرقية ببيروت 1990، مرورا بأعماله الروائية “اعتدال الخريف” 1995، “ريا النهر” 1998، “عين وردة” 2002، وصولا إلى روايته الشهيرة “مطر حزيران” 2006، التي تم ترشيحها للقائمة القصيرة أيضا لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى 2008 م. وترجمت معظم أعماله إلى لغات أجنبية عديدة من بينها الإيطالية، الألمانية، الفرنسية، والإنجليزية، وكان لنا حوار مع الروائي اللبناني جبور الدويهي بمناسبة ترشح روايته للقائمة القصيرة للبوكر 2012م.
ـ جبور الدويهي اسم روائي معروف برز على ساحة الكتابة الروائية منذ قرابة العقدين.. كيف كانت بداية الاشتغال بالكتابة في إطلالة كاشفة ومضيئة على مسيرتك الروائية؟
ـ درستُ الآداب ودرّستُها، فكنت أشعر دائماً كأني واقع في الكتابة منذ صغري، لكني لم أنكبّ على إنجاز رواية إلاّ في العقد الرابع من عمري، روايتي الأولى “اعتدال الخريف” صدرت عام 1995م، عندما رحتُ أشعر بأني لم أعد صالحاً لأشياء أخرى كثيرة. كأنني، ومع بعض أبناء جيلي، وبعد الفشل في تغيير العالم، اخترنا الثأر بكتابة هذا الفشل وتحويل الأمر كله إلى متعة لا تقاعد منها. بدأت “تجريبياً” بمجموعة قصص قصيرة تحت عنوان “الموت بين الأهل نعاس” صدرت عام 1990م، ثم وكما يقول الفرنسيون، تأتيك الشهيّة وأنت تأكل، تلاحقت الروايات ليصل عددها إلى خمس روايات “اعتدال الخريف” و”ريا النهار” و”عين وردة” و”مطر حزيران” و”شريد المنازل”.. وكلها صادرة عن دار “النهار” البيروتية، أحاول فيها كل مرة استكشاف إمكانات كتابية جديدة، ويلزمني ما بين ثلاثة وأربعة أعوام لأنتهي من كتابة الرواية.
ـ الاعتقاد بقدرة الكتابة على التغيير والتأثير والخلق.. وانطلاقا من تجربتك الكتابية.. هل يمكن أن تصل رسائلك ككاتب وروائي لتساهم في صنع المستقبل؟
ـ كما أسلفتُ، الكتابة الروائية هي في أغلب الأحيان تصفية حسابات مع الماضي أكثر منها “صناعة” للمستقبل، حتى أني أشكّ في رغبة الروائي بالتغيير الاجتماعي، هو الذي يجد ضالته في أحوال وضع قائم قد يتردد إزاء زواله. علماً بأن الكاتب في مواقفه وحياته العامة قد يختلف جذرياً عن الراوي وخياراته، والأمثلة على ذلك عديدة في تاريخ الأدب الروائي، من بلزاك إلى دوستويفسكي.. في كل حال، لا رسائل مباشرة أسعى إلى توجيهها من خلال رواياتي سوى أن السيناريو المتخيّل وأفعال الشخصيات ومصائرها ينجم عنها مسار أخلاقي وسياسي أيضاً قد يستجيب له القارئ أو لا.
ـ تعرضت روايتك “شريد المنازل” لثالوث المحرمات الشهير “الدين والسياسة والجنس”.. هل ثمة مخاطرة حقيقية للتصدي لها مجتمعة في عمل واحد؟ خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار التباس واختلاط مفهوم “الحرية” بين الحقيقة والعدالة والمنطق والنسبية؟
ـ المحرّم السياسي يبقى ثانوياً فيما يخصّ ظرف الكتابة في لبنان، حيث أقيم، فلا أشعر بأن عليّ مراعاة سلطة أو حاكم أو حزب. أما “الدين”، ولو أن الرقابة الذاتية في التعاطي معه أقوى بكثير، فلا بدّ من “مسرحة” من يرفعونه عالياً كي ينقضّوا على الآخرين أو يُشيعوا التمييز والقمع، و”محرّم الدين” حاضر في مجتمعاتنا وكذلك “الجنس” الذي بدأت كتابات عربية، ومنها نسائية، تدكّ حصن تحريم الكلام عنه. تجتمع تلك المحرمات في روايتي، لأنها مترابطة وأحياناً متضامنة في خلفية المشهد العام للحروب اللبنانية.
ـ تنتمي لجيل أدبي في لبنان تمرد على شرنقة الكتابة الروائية التقليدية في الخمسينيات والستينيات.. ضمن سياق أشمل من التحولات الأدبية والإبداعية التي تلت أجيالا من الكتاب منذ سهيل إدريس وصولا لأسماء رشيد الضعيف وجبور الدويهي وغيرهما.. كيف ترصد المشهد الروائي في لبنان حاليا؟
ـ هناك وفرة روائية نسبية ومثابرة من قبل الروائيين على إصدار الأعمال دورياً ودخول أسماء جديدة وشابة ونسبة لا بأس بها من السيدات، والأجمل هو التنوّع في أشكال الكتابة واستخدامات اللغة. لبنان ما زال خصباً في هذا المجال منذ حوالي المئة عام مع غزارة غير مسبوقة في الحقبة التي تلت الحرب الأهلية. والكتابة الروائية عموما اجتاحت في العقود القليلة الماضية المشهد الأدبي العربي بشكل لافت. نوع مغرٍ فضفاض عصري وقديم يحمل تجاربنا وخيالاتنا على تنوّعها.
ـ كيف يموضع جبور الدويهي صوته السردي المميز ضمن هذا المشهد؟
ـ لكل كاتب صوت ونبرة وأسعى كي أكون أميناً لطبعي وذوقي.
ـ روايتك “شريد المنازل”.. هل يمكن إدراجها ضمن سياق ما اصطلح البعض على تسميته “رواية الحرب اللبنانية” وبعد أكثر من 35 سنة على نشوبها؟ وهل ترى أن ثمة رابطا أو خيطا موصولا بين روايتك وبأعمال أخرى سابقة قد تتدرج ضمن هذا السياق؟
ـ الحروب اللبنانية وما إليها من “لبننة” ونزاعات أهلية خلقت بالتأكيد حيّزاً روائياً لم يتمكن أيّ من الكتاب اللبنانيين من تفاديه، لا بل إن بيروت شكلت مسرحاً للعديد من الروايات والأفلام الأجنبية، وفي كل ذلك فكرة صراع الأخوة المتشابهين والعنف العبثي حاضرة..
ـ هل من دلالة معينة وراء اعتمادك صيغة “الراوي العليم” أو السارد دون الالتجاء إلى صيغ أخرى قد تبدو ظاهريا أنها أنسب لطبيعة الموضوع أو الوقائع المروية؟
ـ في روايتي السابقة “مطر حزيران” 2007م لجأت إلى تعدد الرواة والأصوات وإلى صياغة زمنية مركّبة، بحيث شعرت بأن عليّ في “شريد المنازل” اعتماد تماسك كرونولوجي في الزمن وصوت واحد يروي قصة نظام العلمي، سرداً بسيطاً وشفافاً.
ـ تنقلت الرواية بين فضاءات حورا وبيروت وطرابلس وجسدت بجمالية فائقة هذه الفضاءات بحمولاتها التاريخية والاجتماعية والدينية.. هل ترى أن هذا التركيز كان مقصودا لذاته وعنصرا أساسيا من عناصر البناء أم كانت فقط في خلفية الأحداث وتحضير مسرح السرد؟
ـ أكتب في كل حال انطلاقا من شعوري بالأمكنة، ولا أبدأ بالكتابة إن لم أحط شخصياً بميزات المكان وإمكاناته الروائية وأبعاده الرمزية والثقافية والاجتماعية. والبلدات والمدن التي تجري فيها أحداث الرواية عشت فيها وتنقلت فيها لزمن طويل. كتابتي مكانية في الأساس.
ـ شريد المنازل تعرضت بكثير من التفصيل لحياة التيار اليساري في لبنان وعرضت لنماذج من الشباب المثقف ونضالهم في السبعينيات من القرن الماضي. هل ترى أن الرواية كانت بمثابة إدانة جمالية دامغة لمن أسقط هذا الشباب وتلاعب بنضاله واستغل كفاحه للوصول في النهاية إلى الاقتتال الطائفي والعرقي للقضاء على هذه الحركات النضالية التقدمية؟
ـ تداخلت مع سيرة “نظام العلمي” بطل الرواية، وتقاطعت معها سيرٌ أخرى وتجارب شخصية وعامة واستعادة لجيل من اللبنانيين فتنتهم المُثل اليسارية وشتتتهم الحروب اللبنانية، وهناك بالطبع موقف خلفي في الرواية يشي بخيبة من كنت منهم يسارياً مناضلاً في سنوات الجامعة مفعمين بالآمال ومقبلين على الحياة بشراهة، فانزوينا أمام المدّ الأهلي المتفجّر وانقساماته الطائفية التي أودت بكل منا إلى “عشيرته” أو إلى خارج البلاد. بقي نظام في الوسط..
ـ الخطاب النقدي الدائر حول أعمالك الروائية.. من وجهة نظرك هل تعتبره مرضيا أم أن ثمة تقصيرا نقديا في التعامل مع خطابك الروائي؟ وما انطباعاتك حول ردود الفعل التي تلقيتَها بشأن “شريد المنازل” بالأخص؟
ـ ردود الفعل التي بلغتني ووصلتني حتى الآن، ردودٌ جميلة عموماً، تُسْعدني وتدفعني إلى “ارتكاب” المزيد، وكما قلت من قبل، فإنني لم أعد صالحاً لأمرٍ آخر غير “الكتابة الروائية”.. أثارت “شريد المنازل” بعض الوجْد لدى جيل ما قبل الحرب والكثير من الغضب على ما اقترفناه فيما بعد.. أنا راضٍ وأنا أرضى بالقليل.
ـ صدرت روايتك “شريد المنازل” عام 2010، واختيرت ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربية 2012” وأشادت بها لجنة التحكيم في تقريرها المعلن.. هل تجد المنافسة هذا العام شديدة بين الروايات الست المرشحة؟ وبرأيك ما أهم الأعمال التي قرأتها من الروايات التي رشحت للقائمة الطويلة أو القصيرة ورأيك فيها؟
ـ كلها روايات عظيمة ولا فكرة لديّ عن احتمالات الفوز.. وفي العموم، أقرأ بمحبة وتفاعل إيجابي الروايات العربية، وخصوصاً تلك التي يوقّعها جيل جديد من الروائيين في مختلف أنحاء العالم العربي.
ـ أشك في رغبة الروائي بالتغيير الاجتماعي فهو يجد ضالته في أطول واقع قائم
ـالحروب اللبنانية خلقت بالتأكيد حيّزاً روائياً لم يتمكن أيّ من الكتاب اللبنانيين من تفاديه