ثورة الوجود.. إطلالة على “الخروج إلى النهار”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة ريان

قراءة مجهدة ، وللحق فهي ممتعة .. و تحوي مفاجأة وجود هذا النمط من الكتابة في أدبنا المعاصر والذي يضفر العلم الحديث بالأدب بلا مبالغات .. ربما للمحاولات التي تسود النص بلا انقطاع لإغماض الأحداث ، فتبدو كأحجية . وللكاتبة كل الحق فهي تعرض لقضية قد تبدو كخيال علمي ، لكنها ترمي إلى ماهو أبعد ، وهو أقرب ما يكون للتعمق في الخلق والتكوين بالمعنى الكوني الأشمل ، بحيث يبدو الفعل الثوري أيضا هو كوني .. فالخلق نفسه هو ثورة على الجمود والجوامد .

ويلوح في أفق العمل أنماط التسلط التي يبتدعها الجنس البشري متمركزة في الجنس حيث تذوب الحدود بين النفس والمادة .. لذلك يقترب النص من تصورات المقدس للبداية ، وبلا صدام مع العلم بمعناه الأشمل لاستشراف ما هو آتِ .

ومنذ البداية وبنص كتاب الموتى الذي يستهل الرواية (الخروج إلى النهار وقد استعارت منه : بسلام إلى حقول الجنة من أجل أن يعرف) تأتي الاشارة الى الجنة .. وهي مفردة ربما تحيلنا الى قدر من اللبس بين المكان والزمان ، فهل هناك تصورلوجود احدهما بدون الآخر.. لكن تأتي بعدها “يعرف”.. أي المعرفة والتي وردت في المأثور كشجرة يبدو أنها كانت الأصل في الغضب الالهي .. والخروج وبداية التكوين . وهنا تدخلت كاتبتنا بالفرضية الأحدث ربما في نشأة الكون مغلفة بتصور لا نختلف فيه ، عبرت عنه بمفردة رائعة الدلالة “رتقا” والتي تليها بالتناص “ففتقناهما” .. والتي يبدو من تركيبتها نشأة الكون بكواكبه (الاشارة هنا لخمس ، والتركيز على الكوكب الاحمر) في نظرية الانفجار العظيم ، والتي ترى بالأدلة تولد الحياة من خارج الارض -كوكبنا- وان ما أتى بها إلى الأرض هي رياح كونية .. ربما لا تتعارض مع فعل “نفخ” ..  والإشارة أيضا إلى تولد قوة ناعمة شديدة التاثير .. تبدو بين الأجسام .. لكنها أيضا موجودة بين ما نتج عن هذا التكوين من كائنات تتصف بصفة غريبة .. هي الحياة .. وهي قوة جاذبة في المجمل .

وللتدليل على ذلك ، أسرعت الكاتبة بإظهار بعض مما ترمي اليه عبر حكاية قابيل وهابيل (من مننا لا يعرفها ؟) لكن بدا أن هناك ماخفي عنا .. الجاذبية بين كائن غريب منقسم إلى جنسين ذكر وأنثى .. والإشارة الى نشأة ما يشبه العواطف .. فمنذ اقتنع الرب بتقدمة (قربان) قابيل من الشواء بينما أهمل قربان هابيل من الثمار والأعشاب .. تصور قابيل تعاطف الرب معه في كل أفعال التسلط ، ومنها ان يستولى على الأنثى الخاصة بأخيه الطيب أو الرومانسي هابيل .. وصورت الكاتبة لنا مشاعرها البدائية بتعبيرات رقيقة دقيقة ، متضمنة وعيها بالحفاظ على النسل .. فقد أبدت إعجابها الغريزي بقوة قابيل و سطوته كنموذج للذكورة ، بينما في قرارة نفسها تحن إلى رقة وعاطفة هابيل ..

ولأن تصور تلك الحقبة يسوده الغموض ، فقد صورت لنا الكاتبة لغة ومفردات تتصف بالجمود .. اوضحت لنا بتسميتها (الفصّلا) ، ولعلها تحيلنا هنا إلى مسمى الحفريات عند دارون .. والتي اعتبرها سجل ناطق لأطوار الحياة على كوكبنا .. وتضمن حلقات مفقودة طبعا ، وهذا يفيد في تصورها لجفاف هذه اللغة .. وصورتها لنا في مرحلة لاحقة بأرقام كمسميات تدل على حالة من التجريد في العلاقات التي تخلو من أي حميمية . هذا ما أتاح لها في السياق تصور ما ستؤول إليه أحوال ذلك المخلوق العجيب الذي خضع لأنماط من التسلط تدور كلها حول الجنس .. فهما بلا أعضاء في مكان (وربما زمان) أسمته ” الهوانا” .. والدلالة واضحة بانتزاع الاعضاء التي تولد الحنو واللذة (الأمازونيات القاسيات في رحلات أوديسيوس كن بلا أثداء) .. وأصبح التعارف بالحواس الأولية بحيث يصبح أحدهما هو “اللين” .. ومستقبلاً سيصبح هناك نوع آخر من التسلط عن طريق تثبيت شرائح في ذلك الكائن الانساني ، تسلبه الأرادة (قضية مسير ام مخير) .

لكن هذا الكائن المتمرد بطبعه (والمقصد هنا رغبته في الاستمرار والتناسل) يتوصل عن طريق سجلاته التي تناولت وجود كُتب كآثار ..!! يتوصل إلى ما يسميه الحرية , ينالها بالتخلص من هذه الشرائح المقيدة لحريته ، حيلة القمع بالجنس .. فتظهر له علامات الأنوثة والذكورة .. تمهيدا لاستعادة الإنسانية والمشاعر (وربما الأدب والفن) التي توقظ الحب والرغبة والاكتمال .. وهنا درجة أعلى من التركيز على النسل الانساني وأنانية الجنس .. استعادة حكاية ايزيس واوزوريس .

وباستعادة المشاعر الانسانية أصبح من الممكن التأثر بزقزقة عصفور والسمو في مدارج الصوفية (أو اليوجا في تدريبات بقعة الضوء في قلب الظلام) أمكن لهذه الروح أن تسمو وتطير مع العصفور حالمة .. بأماكن وأزمنة وشخوص ، كلها تذكّر بأنواع من الثورات ، إلى أن تستقر بنا عند “هانيبال” القائد القرطاجي الفينيقي (عربي تونسي)  . وتونس هنا تمثل بداية الفعل الثوري الظاهر .. تصف لنا الكاتبة رحلتها الى تونس في صورة سياحية تتعقب خلالها منابع الثورة وامكانية تأثيرها على باقي الأقطار من خلال لقاءات مع مثقفات من جنسيات عربية مختلفة بحيث بدا الأمر كجامعة عربية نسائية تدعو للحرية وترفض الإذلال الذي يفرضه المجتمع الذكوري على الأنثى ، مع الاشارات إلى أريحية وحميمية المضيفين والاعتزاز بأبطالهم القوميين ..

ثم تأتي لحظة المخاض .. بعد المحاولات الفاشلة .. تأتي في غمار دخان قنابل الغاز لفض المتظاهرين .. تكتشف أن الحرية هي السبب للاستمرار .. فتلد .. تلد صغيرين .. تُعيد الخلق ، تشبهها الصغيرة .. يلفانهما في العلم ، أدم وحواء من جديد .. يتجهان بهما الى الميدان حيث الحرية منذ البداية .. غير متوجسة من غراب اسود .. يحوم في سماء الميدان ..

……………….

مجلة الثقافة الجديدة : العدد 279 ، ديسمبر 2013 .

   عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم