مروان ياسين الدليمي
في رواية «نينا تُغنِّي بياف» للمؤلف بولص آدم يتداخل الواقع الحقيقي جدّاً مع الفانتازيا في فضاء من السرد يجنح إلى التخييل بعيداً في ما يذهب إليه من حكايات وصور تترى، كما لو أنها في شريط سينمائي سريالي. فبينما كانت نينا في شقتها أثناء الإغلاق العام لموسكو في بدايات حصار جائحة كورونا مُنهمكة في ملء حقول استمارة مسابقة فنية لعموم روسيا بعنوان «أنت رائع بعد الستين» سيتحقق لقاؤها بإديث بياف بعد سنين انتظار طويلة، كان حلمها الذي لطالما داعبها في سنوات شبابها الأولى قد أمسى بعيد المنال. وفي ذلك إشارة إلى أن ثمة حقلاً عن قصة مأساوية في حياة كل مشترك متقدم للمشاركة في المسابقة. هنا ينفتح باب الرواية الموارب على مصراعيه، ومن هذه الفاصلة الدراماتيكية تندلع الشرارة لتشدّ القارئ، وليطلع منذ فصولها الأولى على مدى قرب بياف من نينا ومدى معرفة نينا بفنها وشخصها عبر ثنائية النص.
مستويات القراءة المختلفة
يمكن قراءة هذه الرواية على مستويات مختلفة، كرحلة فخمة عبر الزمن أو ببساطة كمجموعة قصص مقنعة للغاية، في كل هذه القصص المختلفة؛ تظهر جميع الاختلافات الممكنة. هي رواية جمعت تقنيات روائية غاية في الانسجام والموائمة، بين ما له صلة بوقائع حقيقية استند إليها المؤلف وما ينتمي إلى التخييل السردي، وعند الدخول الى المستوى التخييلي، فالذهاب والعودة منه وإليه يبدوان محسوبين ومبررين، عبر تشابك يتكئ على اللغة لا ينفصم فيه الواقع عن الخيال، ليفتح السرد تدريجيا، هاوية الوجود المأساوية مع مسار الزمن المتشظي أمام القارئ، مما قد يسمعه ويدركه في خياله، والذي سرعان ما يصبح حقيقة.
جذور الحكاية
الرواية تتصدى للماضي بقصد لملمة شظاياه متمثلاً في حكاية نينا وحلمها بالغناء وتاريخ عائلتها، وتماهيهاً مع أمها التي كانت تعشق إديث بياف، المغنية الفرنسية المشهورة، وكيف اكتشفت أنها هي أيضاً تملك روح بياف وعشقها للغناء، رغم تبدِّي تلك الموهبة في وقت مبكر من حياتها.. نينا هذه المرأة سليلة بلاد الرافدين تعتز بأصولها العراقية. كانت جدتها التي تسكن في هكاري عند أعالي بلاد الرافدين، قد غادرت ميناء إسطنبول في عام 1915 لتصل مدينة مرسيليا. وفي الطريق الى الميناء تتوفى طفلتها الصغرى، ثم في مرسيليا، تلتحق بها الكبرى ايضاً. وبعد خمسة عشر عاماً يعثر عليها زوجها. وتلد ابنة ويتوفى الزوج في العيادة نفسها. تكبر ابنتها ويعيشان معا هناك، حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثم تغادران الى موسكو حيث يعيش الخال. فتتزوج الابنة وتنجب نينا. وبعد أن تنهي نينا دراستها الموسيقية الأولية، تتزوج مبكراً، شاباً أرمينياً ترحل معه إلى يريفان. فتحصل هناك على فرصة الغناء في أوبرا يريفان. لكن الزوج يمنعها من الغناء. فما كان منها إلا أن تقبل بالأمر الواقع، وبعد سنتين تنجب ولدا وتعود العائلة الصغيرة إلى موسكو.. والد نينا ملاكم معروف، هو الآخر تتحطم أحلامه بخصوص مستقبل ابنته الفني، ما ينعكس على مجمل مصير العائلة. نينا ورثت الموهبة والغناء وخاصة غناء أغاني بياف من أمها المولودة في مرسيليا.. تعود بعمر خمسة واربعين عاماً إلى الغناء ثانية وتدخل معهد غناء ودراما معروفاً في موسكو. تفترق عن زوجها بطلاق. ثم يتوفى ابنها بعد إدمانه المخدرات.
تداخل الأزمنة
يختار الكاتب مسارين روائيين، أحدهما يجري في الحاضر بينما يعطي المسار الآخر صوت الماضي، ممهداً الطريق لفكرة، «أن كل شيء سيحصل هو احتمال من بين الاحتمالات، وأن هنالك تداخلاً قوياً في الأزمان». والرواية تدور أحداثها في مدن شتى من الشرق والغرب، عبر عشرات القصص الخلفية والشخصيات الحقيقية، التي تدفع بالحكاية الرئيسة إلى الأمام بعنصر المفاجأة الغزير. والشخصيات هي التي تتفاجأ المرة تلو المرة قبلنا، بينما نحن نكتشف ذلك في الوقت المناسب فقط، لندرك بأن أمكنة ومدن الخلاص الموعودة للمهاجرين قسراً، ما كانت في حياة نينا ومن حواليها، سوى أمكنة تُخفي لعنة وخديعة وانصهاراً.
المتواليات القصصية، في هذه الرواية لشخصيات تملأ عوالم السرد، أسهمت في تنوُّع الحبكات، وكل حبكة تسهم في إبقاء القارئ منخرطاً في قراءة النص، حتى الفصل الأخير وهو ينتظر نتيجة مشاركة نينا ديلون في مسابقة «أنت رائع بعد الستين!»، لكنه يبقى مأخوذاً إلى خبايا عالم يتأرجح ما بين الواقعية والفانتازيا، فثمة قاطع تذاكر سينما هو فلاديمير بوتن وعاملة هاتف دليفري لشركة أطعمة هي تاتشر!
الأنا البديلة
تتوسع حكاية نينا إلى مجالات مختلفة لكن الفرصة ربما تأتي بعد ربع قرن! فيلجأ بولص آدم إلى الأنا البديلة ليطرح على لسان نينا أسئلة تفتح أبوابا كثيرة، بالكاد تكون مواربة. إنها تسأل عن إمكان استمرار حياتها دون حلم؟ وكقراء نكون قد خطونا خطوات مهمة ونحن نتعرف على الجدة زيريني المسماة على اسم قريتها النهرينية في جيلو وهجرتها القسرية هرباً من إسطنبول وحياتها في مرسيليا، والمثقف خَوشو، الضحية من ضحايا التطهير الستاليني الذي تنكر في الترحال والعودة وتغيير أماكن العمل وتصنع الغرابة والعبث، ودور الإسكافي لادو دافيدوف في حياته، فالأول خَوشو هو شخصية خيالية، ولادو بطل حقيقي معروف في روسيا، وقُلِّد أعلى الأوسمة خلال الحرب العالمية الثانية.. لهذا الإسكافي كابينة أو كشك تصليح أحذية في ساحة ياروسلاف عند تقاطع كومسومولسكايا في موسكو، عاد إليه بعد الحرب. إنه مكان لقاء دائم لخوشو به، وهو مصلح أحذية عائلة نينا كما الآخرين، كان والدها الملاكم بوريسوفنا يصحبها معه وهي طفلة وطالبة في مدرسة موسيقى، لتصليح حذائها، ولادو بأوسمته ينقذ خَوشو من مقر الأمن العام في ميدان لوبيانكا، أيام نيكيتا خروتشوف.
يتعمد الكاتب أن يدفع القارئ إلى الشعور بأن من يروي عنهم، إنما هم جزء من موضوع ثانوي انتهى في رواية شفاهية بين زوجين. لكنه وتحت منسوب الخداع والصرامة التقنية يخبئ مواضيع كبرى يمررها للقارئ، وذلك من خلال ما يبدو من أنها مواضيع أسرتها الثانوية والهامشية بمواضيعها وشخوصها ومجمل علاقاتها. وما تعرض للتخلخل سيعمل الهامشي والثانوي من حيث لا نتوقع بترميمه وبعث الأمل فيه ثانيةً.
………………..
*نقلاً عن “القبس” الكويتية
اقرأ أيضاً:
الفصل الثامن من رواية “نينا تغني بياف”