كان الموت في الشهور الأخيرة ظلاً للأبنودي، كلاهما يلاعب الآخر، شائعات تنطلق كل يوم عن رحيله، وتحدى منه، سأعيش حتى في موتي.. كتب قبل رحيله «كتاب المراثي» عن الشخصيات التي عرفها وصادقها واقترب منها، ورحلت.. في إقامته في بيته الريفي كان يأتنس بالكتابة (أنهى روايته الأولى والأخيرة “قنديلة” التي حملت اسم امه فاطمة قنديل).
ويأتنس بصور من «الزمن الجميل» كما توزعت على جدران البيت، مع نجيب محفوظ، والطيب صالح ومحمود درويش، ويوسف إدريس: «كلهم رحلوا، هذه فترة تصفي أعمدة إنارتها» كما قال.
في بداية الستينيات حمل القطار القادم من الصعيد ثلاثة مواهب استثنائية: أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن الأبنودي، كان الثلاثة سمر الوجوه، ناحلين، مزاجهم ناري، من الصعب إخضاعهم، وفي أعماقهم ضعف عميق تجاه الفقراء، كان لديهم تصور بضرورة «غزو المدينة»: القاهرة التي كانت أشبة بـ «النداهة» (فيما لو استعرنا عنوانا ليوسف إدريس) تدعو كلّ صاحب كلمة وقت الثورة ليشارك في معاركها وآلامها وآمالها وانتصاراتها، جاؤوا بعدما اقتسموا فنون الإبداع بينهم، لكل واحد منهم منطقته الخاصة: لأمل شعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودي شعر العامية، بعدما وجد أن «الفصحى» لا تعبر تعبيرا دقيقا عن «الرسالة» التي يريد أن يوصلها. كان «الأبنودي» يعرف أن لديه كنزا لا يملكه الآخرون: قرية ابنود في جنوب مصر، بكل ما تمتلكه من عادات وتقاليد وبشر، الأم فاطمة قنديل التي كانت سجلاً حافلاً لكل أشعار القرية وغنائها وبكائياتها وطقوسها، والجدة «ست أبوها».. وكانتا، الأم والجدة: «فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملان من أغانٍ وما تحرسان من تقاليد وطقوس هي خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية. اعتبر نفسه محظوظا أن عاش مع هاتين المرأتين حياتهما، لم يكن يتابع القرية من شرفة عالية ولا من خلف زجاج نافذة. أما الأب الذي كان شاعرا فلم يتحمل في ذلك الوقت ما يكتبه ابنه من أغاني وكان أن مزق ديوانه الأول «حبة كلام». ولكن موهبة الابن كانت أكبر من الاستيعاب، أرسل مجموعة من قصائده بالبريد إلى صلاح جاهين، كان وقتها صحافيا في مجلة «صباح الخير»، مشرفا على باب بعنوان «شاعر شاب يعجبني»..
لم يكتف جاهين بنشر القصائد، ولا الكتابة عن موهبة جديدة قادمة من الصعيد، بل أرسل قصيدتين له إلى الإذاعة لتبدأ تلحينها وتسويقها. الأغنيتان هما «بالسلامة يا حبيبي» لنجاح سلام و «تحت الشجر يا وهيبة» لمحمد رشدي.. ومن هنا بدأت شهرة الأبنودي كأحد أبرز شعراء العامية، والأغنية في مصر. وحين انتقل جاهين من مجلة «صباح الخير» إلى جريدة «الأهرام»، ظل حريصا على أن ينشر قصائد الخال الجديدة في مربعه اليومي المخصص للكاريكاتير.
الشيوعي
في «القاهرة» اكتشف صاحب «المشروع والممنوع» أن ثمة مسافة بين «الثورة» و «ما يحدث بالفعل» فالتحق بأحد التنظيمات الشيوعية، ليتم إلقاء القبض عليه ويسجن (1966) أثناء اعتقاله، أخذت المباحث مخطوط ديوانه «جوابات حرجي القط لزوجته فاطنة عبد الغفار» والكثير من أوراقه الأخرى، وبعد الإفراج عنه أخذت المباحث تساومه على التعاون معها حتى تعيد المخطوط، ولكن كما يقول.. «سلمت أمري لله واعتبرت كأني لم أكتبها وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح.. وذات ضحى يوم شتائي هتف بي حراجي لأكتبه، فجلست لتندلع الرسائل متتابعة بكرا كأني لم اكتبها من قبل، أنجزت الديوان في اسبوع ودفعت به الى المطبعة دون مراجعة وكأنه تحد لمن اغتصبوا حراجي الأول».
تجربة السجن يراها الأبنودي من أعظم التجارب التى مر بها.. في السجن اكتشف أن الشيوعية ليست طريقا لتحقيق الذات أو تقديم خير للفقراء. خرج من تلك التجربة لا يجد قوت يومه، ولكن جاءت النكسة ليرى كل الأحلام تنهار، كتب وقتها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ: «تصور هو الوحيد الذي لا تجمعني به صورة برغم علاقتنا القوية». وخرج إلى الجبهة يكتب هناك ديوانه «وجوه على الشط» وفي تلك المرحلة «وفر له إعجاب الرئيس عبد الناصر بقصائده وأغنياته حماية من بطش «زوار الفجر». ولكن عندما جاء السادات، وقام بانقلابه الذي عرف بثورة التصحيح بدأ التضييق الأمني على الأبنودي، رفض «أمن الدولة» سفره إلى تونس ليستكمل مشروعه في جمع الهلالية، واتصل به أحد الضباط، يفاوضه على السفر مقابل «كتابة تقارير على زملائه».. رفض الأبنودي. ولكن أكثر ما يضايقه «إشاعات الرفاق الثوريين» حوله في تلك الفترة: «قالوا إنني أسكن في «الزمالك».. أحد أرقى المناطق في القاهرة، ولكنهم نسوا أنني كنت أستأجر غرفة فوق سطوح أحد العمارات». وهو ما كتبه الأبنودي في قصيدته «المد والجزر: (ما نيش ساكن يا سيدي في الزمالك/أنا ساكن خرابه ع السطوح). كانت الشائعات على المقاهي أقرب إلى المؤامرة التي وزعت أدوارها، «بينما أعاني منفردا حصار الداخلية فأنال الأذى من هنا ومن هناك». ولكن استطاع الأبنودي الخروج بعدما يئست أجهزة الأمن منه، فاختار أن يقيم في لندن في رحلة منفى اختياري، استمرت لثلاث سنوات، لم ينهها إلا عبد الحليم حافظ الذي استخدم سلطته في السماح له بالدخول إلى مصر بدون «منغصات أمنية». اعتقد السادات أن الأبنودي سيكون صوته، فأعلن عن رغبته في تعيينه «وزيرا للثقافة الشعبية».. ولكن الأبنودي كان يرى بحدس الشاعر، مصر أخرى غير التي عرفها، وكان كامب ديفيد الذي جعله يكتب قصيدته الشهيرة «المشروع والممنوع» وهي أقسى نقد لنظام السادات. وبسبب هذا الديوان تم التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانونه الذي سماه «حماية القيم من العيب».
عن جاهين
لم يفارق الأبنودي جاهين، ظلا صديقين، جمعهما الشعر والثورة والأحلام الكبرى، ولكن فرقت بينهما السياسة في أيام جاهين الأخيرة، التقيا على غداء في كافتيريا الأهرام. ودار بينهما حوار حاد، قال جاهين: لن أكف عن الحلم. وقال الأبنودي: علينا أن نحلم فالشعر يقوم أساساً على الحلم واننا اذا فقدنا الحلم فسنموت ولكن يجب حين نحلم بأن نكون نائمين بكامل ملابسنا. كان الحوار قاسيا، حوار أوقف «الحوار» بينهما» لفترة. وبعد أن رحل جاهين كتب عنه الأبنودي:
الاسم زي الجواهر في الضلام يلمع..
تسمع كلامُه ساعات تضحك ساعات تدمع
شاعر عظيم الهِبات.. معنى ومبنى يا خال
يشوف إذا عَتَّمِت واتشبَّرت لاحْوال
كإنه شاعر ربابة.. ساكن الموّال
يقول.. وحتى إن ماقالش تحسّ إنه قال
ولا يقول مِ الكلام إلا اللى راح ينفع!
لم تكن القصيدة هي النهاية، إذ يبدو أن الأقدار أرادت أن تجمعهما مرة أخرى أختار الأبنودي أن يرحل في نفس اليوم الذى رحل فيه صديق عمره صلاح جاهين.
في لقاء أخير معه في بيته بالإسماعيلية.. ضحكنا طويلا. وتحدثنا كثيرا.. فجأة صمت الأبنودي قليلا قبل أن يفاجئني بلهجته الصعيدية الحادة التي لم يتخلّ عنها مطلقا: «شوف.. في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها، ولكن صدقني فى الشعر لم أندم على أي قصيدة كتبتها أو حتى أغنية.. الشعر مقدس، ليس فعلاً إرادياً، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله». سألته هل يشعر بمرارة تجاه الهجوم عليه قال: «لا، ولكن شعري لم يُقرأ حتى الآن، تمّ التعامل معي أنا ومحمود درويش باعتبارنا نجوماً، ولذا كان التركيز طوال الوقت على مواقفنا، تحركاتنا، أكلنا وشربنا..». أنت فقط واحد من بتوع الأدان؟: يضحك. نعم لا أقف في طابور، لي رؤيتي الشخصية، لست تابعاً لأحد، لا للحكومة ولا المثقفين بأنواعهم المختلفة، أتعاطف مع الحقيقة فقط، والحقيقة هي ما أراه وأصدقه». وداعا يا خال!