محمود حمدون
الأجل
حقًّا، الغريب أعمى. شوارع لا أعرفها.. تُرى أين ذهب شريكي، رفيق رحلتي؟ ربما تهتُ كطفلٍ فقد أمَّه في الزحام. ضحكتُ من نفسي.
كانت ليلة باردة. أجيد لغة أهل هذه البلدة جيدًا، لذلك لا خوف ممّا سيحدث. وضعتُ يدي في جيب معطفي الثقيل، ورحتُ أتفحّص واجهات المحلّات على جانبي شارعٍ لا أذكر أني مشيتُ فيه من قبل.
طقس لطيف، نسمة تميل إلى البرودة، شيء أفتقده في بلدتي البعيدة. هناك سرحتُ بعقلي وسألت: تُرى ما أخبار الأهل والأصدقاء؟ سأحكي لهم كلّ شيء عند عودتي…
أفقتُ على شيءٍ حادٍّ في جنبي الأيمن، كدتُ أصرخ من الألم. التفتُّ لأجد عملاقًا يسدّ الأفق، تطق عيناه شررًا. عبارة غامضة نطق بها:
ــ “هات اللي معاك، لا تفكّر في محاولة سخيفة قد تكلّفك حياتك. تبدو غريبًا عن المكان، لا أحد هنا سيهتمّ بك.”
لا أعلم كيف حلّ بيّ ذلك الهدوء. خاطبته بودّ وبسمة صافية على وجهي: “كما ترى، أنا كهل، وكلّ ما معي مبلغ زهيد.”
قال بجفاء: لا شأن ليّ، قدرك ساقك إليّ. تلك مهنتي التي أعيش منها وعليها. لا يخرج للشارع في هذا الوقت إلاّ ضالّ أو من سعى بإرادته إلى حتفه.”
أخرجتُ مرغمًا كل ما معي، خطفه بسرعة، ثم أدخل “مُديته” بستره. انطلق من فوره. بعد بضعة أمتار نظر خلفه، وجدني أقف مضطربًا، فعاد من جديد وسألني:
ــ “لماذا تقف؟ منتصف الليل يقترب، الهوام تكثر بهذا المكان، ينبغي أن تنصرف من فورك… والآن. أرجوك.”
تعجّبتُ! هو نفس الشخص، لكنه عندما رجع لم يكن قاطع الطريق اللص الذي سرقني منذ دقيقة.. ربما ارتدّ إلى طبيعته.
قلتُ:
ــ “أنا غريب عن البلدة، لا أدري كيف أعود إلى الفندق الذي أقيم به.”
= أخذني من يدي وقال:
ــ “هلمّ بنا من هنا.”
كان يسير بجواري، يضع يده على كتفي، وكل فترة ينطق بعبارة واحدة:
ــ “لا تخش شيئًا، أعرف الطريق جيدًا، ستعود لرفاقك بخير.”
قطعنا مسافة كبيرة حتى وصلنا إلى محطة حافلات. صحبني حتى صعدتُ إلى إحداها، ثم أوصى السائق همسًا بيّ. رأيته يلوّح بيده مودّعًا. والأخرى تقبض من جديد بقوة على المطواة.
**
علامة تجارية
التقيتُه للمرة الأولى في بدايات العقد التاسع من القرن العشرين. دخل علينا في جلسة رسمية، يسبقه لقبه: “المستشار العشماوي”.
هذه كنية جديدة على أذني، لذلك ملتُ على زميل يجاورني وسألته: مين ده؟ مستشار في إيه؟ مين يستشيره؟!
الزميل، وكان يسبقني في العمل ببضعة أعوام، أخرج سيجارة، أشعلها ثم نفث دخانها في الهواء. من بين أسنانه الصفراء خرجت كلماته: لا أعلم عنه إلاّ أنه “مستشار”.
مطّ الزميل شفتيه، وأكمل: لم نهتم كثيرًا بمعرفة طبيعة المشورة التي يقدمها أو لمن. تلك أمور لا تعنينا نحن صغار الموظفين. ثم أشار بعينيه إلى “بذلته” الغالية الثمن، وقال: أنظر! أجهل علامتها التجارية. تلك الرائحة التي تفوح منه، تلتصق بيديك بعد أن يصافحك، ذلك إن حالفك الحظ للقائه ورضي أن يمدّ يده إليك.
كما أن وسامته فاقت “حسين فهمي” في عزّ مجده السينمائي، طغت أناقته في المكان، فتوارى الجميع خجلًا بوجوده. يختفي خلف “نظارة شمس” شديدة السواد، يعلو فمه شارب ثقيل يختلط بياضه بسواده، فيبعث رهبة في أفئدة الرجال.
أرّقتني تلك الشخصية. فرحتُ أعسُ خلفها. كنتُ نزقًا، رأيتُ فيما أفعله مهمة مقدسة. كبر عليّ أن أقنع بتابوهات عقلية يفرضها الآخرون : “مستشار في ماذا؟ لمن يقدم مشورته؟” أسئلة طرحتها على كل من قابلني.
قرابة ثلاثين عامًا مضت، ولا زلتُ أسأل الأحياء، ومن تبقّى بالخدمة عن ذلك الغامض، فلا أجد سوى همهمة وكلمات قليلة تمجّد في سيرته: “كان مستشارًا بحق.” لا تزال رائحته تعبّق المكان.
**
“تعليمات صارمة”
«اقرعوا الباب أكثر من مرّة، لا تذهبوا حتى تتأكدوا من غيابه عن البيت».. كانت الكلمات ترنّ في آذاننا كتعليمات صارمة ينبغي أن نلتزم بها حرفيًّا.
انطلقنا يحدونا الشوق إلى رؤية الشيخ بعد سنوات من الجفوة. كنّا أربعة، والوقت قبل المغرب. تقدّمتهم أنا، قرعت الباب، انتظرنا بضع دقائق دون مُجيب. ثم تذكّرت وصيّة الحكيم، فقرعت مرّة ثانية بقبضة يدي بقوّة أشد.
سمعنا همهمة، حشرجة ممزوجة بسعال جاف، صوتًا خشنًا يأتي من بعيد: من الطارق؟
تطوّعت من بينهم وقلت: جئناك عيادةً على غير موعد.
فقاطعني أحد الرفاق من الخلف: ـبل خشينا أن نتأخر فيسبقنا القضاء إليك.
كان ردًّا قاسيًا، لذلك سعيتُ إلى التخفيف من وقع الكلمات على الشيخ، فقلت بلطف: تعلم مكانتك في قلوبنا، ما أتينا إلاّ لخيرٍ لنا أوّلًا، لرؤيتك، ثم لك معنا هديّة بعث بها إليك صديق قديم.
زادت حشرجة المسنّ، وغاب صوته تحت وطأة سعاله الشديد. طال انتظاري، التفتُّ إلى الأصحاب لأسألهم: ما العمل؟ فوجدتهم يلهون بكرة قدم، يقذفونها بأرجلهم بحماس شديد.