ثلاث قصص

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فيض خالد

العصيان

ما إن تخط الشّمس بصمتها فوقَ أديمِ الأرض الرّمادي، فتلوّنه بصُفرتها، تتلألأ أشجار الكافور بحلةٍ ذهبيةٍ زاهيةٍ، حتّى تدبّ الحَركة بينَ جَنباتِ الغيطان، تختلط وقتئذٍ أصوات عائلة ” أبو العجول ” شيبا وشبانا كُلّ في فلكٍ يسبحون، يعقل وليدهم فنون الحياة مُبكِّرا،  فلا يجد أوان ذاكَ إلا البساط الأخضر ليحتويه، تتداخل ذراته خليطا يسري في دمهِ يُغلِّف كيانه حَانيا مُحتضنا، عشرات الأسئلة تستفز عقول من حولهم تستجلي السّبب، ما الذي يربط هؤلاء البشر كُلّ هذا الارتباط بالطبيعةِ، حتى إجابة ” حسين الدكش” لم تغني شيئا :” إن هؤلاء سلالة رجلٍ ولدته أمه بين عيدانِ الذرة “، يراها البعض دعايةً في غيرِ محلها، لا تثير نظرات الناس حفيظتهم في شيءٍ، لم يجدوا فيها إلّا ما يجد الخبير بالدُّنيا المُتمرّس بآفاتها، من استبدلَ بفراغهِ شُغلا، وببهجتهِ أُنسا، هناك وسط الحقولِ  اليانعة، تحت سقفِ ” الخُصّ” الذي ابتناه جدهم تدورُ رَحى الحياة  في شرنقةٍ من الهُدوءِ السّادر، تُمدّ الموائد عامرة بصنوفِ الزّاد، تتعاقب الأيدي تغبّ كؤوس الشّاي المطبوخ لذةً ونعيما، تهبُّ نسماتها المُسكرة نشوة للشاربين، وبلسما لمن وَجدَ في نفسهِ الجرأة من الجيرانِ، لأن يُغَامر فيقتحم هذا العالم، الذي ضُرِبَ عليهِ بسورٍ باطنه الرحمة وظاهره من قِبلهِ العذاب، يتحاكى النّاسُ عن بُخلِ القوم المُفرط، يتغنّى ” متولي شحاته” خفير الإصلاح حينَ يلعق طرف لسانه، تتماوج مشاعره في صراخٍ ملتاع :” دول متخرش الميه من بين صوابعهم بخله تقلش يهود “، لم تكن لتعنيهم تلك النّعوت  الفارغة، طالما جعلتهم في منأى عن جشعِ النّاس، تجلّل وجه كبيرهم ” مفتاح أبو العجول ” غاشية من الفكرِ وهو يخلّل بينَ أسنانهِ :” الناس لو طالوك أكلوا مصارينك”، هو أحد أولئكَ الذين عرفوا الحقل في صباهم الغَضّ، تتراقص أمانيه في عينيهِ وهو يمسح ظهرَ عجله ” الطلوقة” يُحدِّثه كأخٍ شفيق:” يا حبيبي يا خويا”   يذيعها  بلا غضاضةٍ، يتأفف حماه بنبرةٍ تخنقها عبرة، يُكسِّر طرفه خجلا لمقالتهِ، أصبحَ ثاني اثنين ثراءً في القرية غير أن بخله يتحاكى بهِ الرُّكبان، قالوا :” إنّه لا يرجع من حقلهِ إلّا مع ظلمةِ الشّفق الرّمادية، حين تمتلئ بطنه من خشاش الأرض “، توالت أجيال تنهب الأرض كدّا وسعيا، تجوب البلاء طولا وعرضا، لكنهم لم ينسوا أنّهم أبناء ” الملقة” الأوفياء، عَادَ ” مصطفى أبو العجول ” من سفرهِ الطويل، بعد عمرٍ قضاه في إحدى دول النفّط الكُبرى، وما إن وطأت قدمه عتبة الدار ؛ حتى هرَولَ مُسرِّعا جهة الغيط، طَافَ بالخُصِّ مُلبّيا، امسك يد ” طولمبة ” المياه يشرب من ماءها شرب الهيم،افترشَ الأرض يداعب الحصى، تنهّد من قلبٍ مقروح، يقتلع نفسه من طيفِ الذّكرياتِ، مُصفرّ الوجه زائعَ العينين، همسَ بصوتٍ خافتٍ ملتاع:” الله يرحمك يا بويا مفتاح ” عَاد يلقن أبناءه فصولا مَن كتابِ الذّكرى، ونتفا من مسيرة ” مفتاح أبو العجول ” زامت زوجته الحسناء ابنة البندر زومة الحانق، تبدي امتعاضا لكلام الأخرق الأبله، اعتدلت في جلستها تقول في تهكم:” رحم الله أبو العجول، نحن أبناء اليوم يا حبيبي”، هي الوحيدة التي حطّمت نواميس العائلة، وتجاوزت  بشجاعةٍ سياج اعرافها، يحسدها بنات العائلة اللاتي قبعن سجينات،على استحياء ٍ تبدي ” خديجة البيضة ” تمردها :” عائلتنا الوحيدة التي لا تورث البنات، سامحهم الله “، في ابتسامة يخالطها المرار تُؤمّن اختها ” نفيسة “على كلامها.

كرّت الأيام تحمل في جوفها المفاجآت، دفنت الكثير من عادات العائلة، اعلنت الأجيال الشابة عصيانها صراحة، ابتلعت كتل الخرسانة المسلحة ” الخُصّ” وحوض ” الطولمبة” وشيئا فشيئا بهتت حكايات ” أبو العجول” من ذاكرة الناس، فأصبحت نسيا منسيا.

*

                                                  المندرة

عَكَفت لأزمنةٍ مصونة مقدسة، كهيكلٍ من هياكلِ الآلهة العِظام، لا تمسّ بسوءٍ، ومن يفعل ذلك يَلقى أثاَما، ساكنة في وقارها، تَشخص حيطانها بألوانها الزّاهية ونوافذها المُشرّعة، وأبوابها التي يلج عبرها  سَدنتها زُمَرا وفُرادى كبارا وصغارا ليل نهار، ما إن تطلع الشّمس ؛ فتَطبع أولى قُبلاتها على جبين الأرض، حتى تأخذ ” المندرة ” زينتها مُتزينة، تُكنس أرضيتها، وتُرتّب ” الدّكك” إيذانا لخُيوطِ  شمس الضُّحى الفاتر أن تدخل على استحياءٍ، ولولا أنّها مأمورة ما تَجرّأت.

قَالَ  العجائزُ في تأسيٍ :” كنّا نسمع ضحكاتها عذبة كأنّها رنين الذهب “، بينَ حيطانها دارت كؤوس الشّاي، تُسكِّر بنشوتها عُقولَ الزَّائرين، وفِي حِماها فاضت الحَناجر وتلاحمت الأجساد عداوة وبُغضا، وتصافحت الأيادي وتناجت القلوب صَفاء ومحبة، خَطَبَ ودّها كُلٍّ طالب وجاهة، وراغب زعامة، يحكي ” فرج” الخياط عجبا :” رأيتُ بأمِ عيني، كيفَ امتلأت المندرة بالرِّجال وقت الانتخابات، حتى ضجّت جنباتها خطبهم الرَّنانة تهزّ حبات القلوب “، أولئك اعتقدوا أنّ مقاديرهم بيدها، فأكبروا شَأنها، يَلوذوا بحِماها، كفقيرٍ لا يملك من نَشَبِ الدُّنيا وثَروتها، لا تزال القريةِ في زفراتِ الألمِ تُردّد المعركة الطاحنة بين ” أولاد مدكور ” وعزبة ” بديع”، حدّق ” زينهم” بعدما تمشّى الارتعاش فيه، اطفئ عقب سيجارته، وقد تبدّت سورة غضبه: ” أوسعناهم ضربا، قلتنا يومها عبدالشافي، كانَ يظنّ أنّه فتوة الملقة وابن ليلها، ضربته بهراوة فَخَرَ كالعجلِ  يَتَخبّطُ في دمهِ الزِّفر”، قهقه مغمضا عينيه، تتزاحمُ عليهِ الأيام يتلو بعضها بعضا، ثم غَاصَ في سُكونٍ كمن حَرَكَ ما كَادَ يندمل من شجونهِ، يتزاحم من حولها شريط الذِّكريات كطير أبابيل، تسترحم ” نوّارة” الدّاية أيام عِزّها الغابر، صَكّت وجهها بطرفِ حرِامها القطني، قائلة في تنهد :” خَطَبني زوجي الأول محروس الكلاف في المندرة، جاءَ بأهلهِ، واتفق الرِّجال على كُلّ شيء، انطلق موكب العُرس يحملني إليهِ من أمام بابها  “، هَبّ ” مسعود أبو حطب ” هبّة وابور الجاز مُنتفضا في حَماسٍ، ضَرَبَ الجدار بكفهِ مُتَحدّيا :” كانت المندرة عزوتنا، لَم يكن في المجاورةِ أختها، هي احَنّ علينا من أمهاتنا، كستنا زمنا ثوب المهابة، احترمنا الكبير والصّغير، حسبوا لنا ألف حساب “، سادت مجدا أجدعَ أنف الدّهر، تتوارى في حِجابِ الأفقِ البعيد شامخة، ترفلُ في ثوَبِ العِزِّ والجّاه، يقصدها كُلّ من تجرّع غصص الحياة، انجذب إليها كُلّ شحاذٍ ومحتاج، كما الشّمس تبهر العيون،أضحت قلبا يعرِف الرّحمة، تُورِقُ فيها أغصان الإحسان، جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس، مُدّت الموائد وأُفرغت العَطايا، تجبر قلب كُلّ حسير.

تراخت الأيام، لتذوب ذوبان الثّلج تَحتَ همس الرَّبيع، فعلت بها أيادي الزَّمن العابث فعلتها، فتبدّلت الأرض غيرَ الأرض، كَأُمنيةٍ بدت لحَالِمٍ، تهدّمت حيطانها، وتآكلت نوافذها، وخرّ بابها ساجدا مُستَسلما لبطشِ الدّهر الغَاصِب وجبروته، انتهكت حُرمتها هوام الأرض تعبث بكرامتها، انتظرت وصلا بعد طولِ هجران، طَاَلَ الانتظار، حتى صَحَت القرية على ركامٍ من التّرابِ تطأه أقدام السّابلة، لم يحفل بها أحد، اللّهم إلّا دموع ” خليل ” الخفير تَبكّ من مدامعهِ، يشيّع العمال الذين اعملوا فؤوسهم في الأنقاضِ، يغنوا فرحا وابتهاجا..

*

                                    فأر الحَضرة

هَتَفَ قلبه وتراقص برؤيا الأعلام وتعانقها، ومع دق الطُّبول ازدادَ طَربا، امتلأت الدّروب برجالٍ في وجوههم سحر يستشف منه الظُّرف، سُرعان ما ظهرت حولهم مراقص الفرح،  زاحمت البيوت مع رَائحةِ ( التَّقلية) أحاديث ليلة النبي، اسَتشاطَ الجَمعُ حَماسا في عفويةٍ تَقافَزَ مع الرِّفاقِ، اكتملَ المشهد بعرباتِ الغَجَر تجرها البغال تحملُ المراجيح وطاولات ( البخت ) والنيشان، هناك في الحقولِ البور نُصبت في انتظار إشارة البدء، كفكفت مدامعها ” سعدية ” بائعة الجاز كمدا وحسرة، فابنها ” عبدالمعطي ” يقضي أيام خدمته العسكرية في السّويسِ، سيُحرم عامه الثاني من حضورِ الليلة وهذا نذير شؤومٍ، ليلة الجمعة دبّت الحركة ارجاء القرية، على ضوءِ ” الكلوبات” وفحيحها المُنعش، راجت حركة البيع والشّراء، وعلى وقع نداءات الباعة ولغط الحديث انقلب المكان ساحة من ساحات البيع الكبرى، العتبة،أو ميدان الحبشي، تفيض الحنوك تمضغ ما يُلقى إليها، يتبارى  الصّغار في طحنِ كرات ” الكرملة” وأصابع الموز وحبات البرقوق فلا هوادة.

لا يقطع نشوتهم إلّا صوت ” محروس ” الخفير السّمج؛  كأنّ  من عبوسه لم  تُخلق ملامحه للبسماتِ، كلّفته النّقطة حفظ النّظام، في برود ٍ يَحومُ من حولِ الباعة في أُبَهة السُّلطة وغطرسة النُّفوذ، يُطالِع فتاة ناهد تفجّر جسدها إغراء، تستخرجُ الشَّهوة من قَراراتِ النّفوس،  يجيبها بشتائمٍ من رفثِ القول :” امشي عِدل بلاش تتقصعي زي غوازي ببا”، عامدا يتعثّر في خطواتهِ؛ لينَالَ من خَيراتِ المكان، يُمرّر كفهُ حول كرنيفةِ البندقية، يُطمّئن من حوله بأنّه الآمر النّاهي، في الهزيع الأخير من اللّيلِ تَثّاقل الحركة، ينكمش المارة يتحلّق الشباب حول بائع القصب في سِباقٍ محموم لمصَّ أعواده، ساعتئذٍ يُسَارِع الرِّجال صوب “الحضرة ” مُلبّين النّداء، يتعالى هاتفا  : ” المدد يا رجال الله المدد..” مع توافد القوم يُبالِغ صاحبنا في تجويدِ مخارجه، يمطّ رقبته فيُلقي بمقذوفٍ روحاني طوعا تنقاد له الأجساد، قالوا عنه :” إنّ أمه وهبته للحضرةِ مُذّ كان في أحشائها جنينا، رأت وكأنّ طائرا خَرَجَ منها، يضربُ بجناحين عريضين سَقف الجريد، يملأ البيتَ نورا قبلَ أن ينساح في الفَضاءِ، كاشفها الشيخ ” سويلم ” خادم ضريح سيدي ” المغربي ” بأنّ لابنها شأن ينتظره، ولابدّ أن تنذرهُ لخدمةِ الحضرة، لم تكن رواية الرُّؤيا غير  خيالٍ نسجته، استطاعت أن تحجزَ مبكرا مكانا لائقا لابنها بين رجالها، هي تعلم أنّ الحضرة تفيضُ لبنا وعسلا ويا سعد من جاورَ السُّعداء، تحتَ وهج ” الكلوبات” علت رغوة بيضاء، خليطٌ  قالوا عنه شراب شيخ  الحضرة، ضربَ بكفه دوى متتابعا في المكان، شرعت الأجساد في تمايلٍ خفيف  تطوّحت الأذرع قليلا، سارع صاحبنا في إنشاده  بصوتٍ ندي، ومن تحته صبيه يمدّه بكؤوسه، استوى الأُنس والتّجلي، حمي الوطيس، تعالت زومة الصّدور، وبنغمٍ موحد تردد :” حي حي حي حي” حذّرته أمه مرارا، جأرت بمرِّ الشكوى :” لا تذهب للحضرة” لكن دون جدوى، وكلما تقدّم خطوة زادت حمأة الانتشاء، في توجّسٍ  طافَ بالأطرافِ، تساقط القوم صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية، يعالجونهم بقطعِ البصل فيعودوا لما كانوا وكأنّما نشطوا لوقتهم، تشجّع فتوغل بينَ السِّيقان تزحزح حتى المنتصف، وفِي رأسه بقايا من غوايةٍ :” وسط الحضرة تتساقط القروش وقطع النقدية الفضة  من الجيوبِ هي ثروة لمن يُجازِف ” تفيقه صرخات  صاحبنا :” اخشع بقلبك يا مؤمن وحد وسلم ” تزداد نشوة القوم في افتعالٍ ممجوج، تساءل في دخيلتهِ :” لماذا لا يطرد سيدنا هؤلاء من الحضرة؟!” فاته أنّ سيدنا قد انشغلَ في جمعِ نفحات المحبين،  بعد جهدٍ جهيد جذبه المشهد انتظمَ بين الصُّفوفِ،حرّك ذراعيهِ يمينا وشمالا، فجأة اظلمّت الدُّنيا من حَولهِ، دارت رأسه، تتابع وميضٌ مُتَقطّع ثم غابَ في سكونهِ، وعند الصَّباح اقعدته والدته وابتسامة التّشفي تزايلها، نَظرَ إليها نظر المغشيّ عليهِ من الموت، على ما يبدو أن يد أحدهم طاشت فأصابته، بعدما حلّت في صاحبها أنوار التّجلي

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب