رزق البرمبالي
ابن الباشا
لم تكن سلمى تتصور حتى في الكوابيس أن ترى جميلة في هذا الوضع!
جميلة أقرب الناس إلى قلبها، صديقتها التى انتشلتها من غياهب الجهل إلى نور العلم والكتابة والقرأة والإيمان والصلاة
عندما خطف الطاعون أم سلمى وأبيها في يوم واحد، انطفأ النور في عيني سلمى، كانت لاتزال صبية لا تتعدى الخمسة عشر ربيعاً، عاشت مع جدتها ثلاث سنوات ثم رحلت عن الدنيا لتتركها وحيده، تلاطم أمواج الخوف والغربة في منزل من الطين اللبن يقبع غريبا وشاذا بين أقرانه من المنازل المبنية بطوب القمائن الأحمر، حدث ذلك في وقت كان الناس لازالوا يفشون السلام فيما بينهم، تجمعهم الألفة وحب الخير، ويعمهم السلام والمحبة والوئام،
خشي عليها الناس من الوحده، فضمها “عبد الواحد أفندي” (ناظر عزبة الباشا) إلى بناته، كانت جميلة أكبرهن سناً، وكانت تَكبُر سلمى بعامين فقط، إنها لاتكاد تصدق مارأته عيناها، تمنت لو لم تأتي إلى الحقل في ذاك الوقت، فلولا أن أم جميلة أرسلتها لجلب بعض الملوخية من بين أعواد الذرة الباثقة، لَماَ تلقت تلك الطعنة التي كادت تُؤدى بحياتها،
جميلة مع من؟!!!
سليم إبن الفنجري… حفيد الباشا!
في وضع يُندَى له الجبين!
انسلت عائدة بخفى حنين ومعها بعض أعواد من الملوخية التي لاتغني ولاتسمن من جوع،
كانت حزينة وعاجزة عن التفكير تماماً، فاليوم لن يكون مثل الأمس، نادتها أم جميلة مرات عديده فلم تجب، وقفت أمامها تفحصتها ملياً، لم تشعر بها ودَاخَلها الشك، ربتت على رأسها فانتبهت،
سحبت كرسيا.. جلست..زاد إرتباكها،
_إيه حكايتك ياسلمى؟!
رمت سلمي ببصرها إلى الأرض وقالت:
_حكاية إيه؟!
_حكاية الملوخية!، والسرحان إللى إنت فيه،
_مفيش حاجة
جزت على أسنانها من الغيظ وقالت:
الواحدة لما تكون سرحانة بالشكل ده، تبقى شاردة، عملت عاملة سودا او بتخطط لعمل أسود.
دخلت جميلة بوجهها الذي يفط منه الدم، وعباءتها السوداء، فتنفست سلمى الصعداء،
توجهت إلى أمها تسبقها ابتسامة وقالت:
خالتي بعتالك السلام، وأردفت: وحاجة تانية كمان…ثم طبعت قبلتين على خديها،
نهضت الأم وقالت وهى ترمي سلمي بنظرات ملتهبه: شوفي صاحبتك عملت إيه وحكايتها إيه؟!! ، قبل مايجي سى عبد الواحد ويعرف شغله معاها، وتركتهم ومضت.
جذبتها جميلة من يدها إلى الغرفة وسألتها : خير فيه إيه ياسلمى؟!
نظرت ملياً إليها في ذهول وقالت في سخرية: كنت خلي سليم ينظف لك ظهر العباءة من بقايا الحشائش!!!
عقدت المفاجأة لسان جميلة واتسعت عيناها كأنها عيون بقر وحشي، وارتجف قلبها من الذعر، فبدا صدرها ينتفض بسرعة،
طمأنتها سلمى قائله: لاتخافى، سرك في بير!!!
لكن الاطمنان لم يدخل قلب جميلة وحل محله شك مريب، وقالت لنفسها كل عزيز له عزيز أخر، ومايدريني أنها لن تبوح بالسر إلى “تهاني”،إنها عزيزة عليها جداً، وتهاني تنقل السر لشيماء.. إلخ، ويعُم الخبر البلده وتنتشر الفضيحة،
في المساء سألت الأم جميلة عن سلمى، همست لها بكلمات جعلتها تهتاج كثورٍ في حلبة مصارعة أسبانية، وقالت:
_لابقاء لها معنا
وكان لعبد الواحد أفندي نفس الرأي أيضاً.
حملت سلمى بُقجَتهَا وعادت إلي دارها، رضيت أن يركبها العار وتلوكها الألسن من أن تبوح بسر مَن عَلمتَها القرأة والكتابة والصلاة،
وعندما تكلم الناس عن سبب ترك سلمى المنزل كان الرد واحدا من الثلاثة جميعهم وهو:
“إن الله حليم ستار”
نعم إن الله حليم ستار، ولكنه رد كاشف وإن لم يُفصح عن شيء،
وأصبحت سلمى غير مرحب بها في أي مكان، بعد أن كان الكبير والصغير يتحاكى بأدبها وخلقها، أوصدت دونها الأبواب، وأصبحت منبوذة من الجميع، وكلما تردد إسمها في بيت ما من البيوت، يتبعه الإستعاذة من الشيطان الرجيم!!!
ظلمها الجميع إلا واحد فقط، رفض الظلم،
وتحدى عائلته وعزم على الزواج منها،
لما علمت جميلة بالخبر كادت أ تُجن وهرعت إليه،
أكد لها الخبر وعندما سألته قائلة: وأنا؟!!
قال: إن الشاب الذي يتسلى بواحدة يتزوج غيرها.
***
جاري والحمامة
عندما كنت في العاشرة من عمري، أي قبل ثلاثين سنة، كان لدينا غرفة نربي فيها الحمام، وكانت أمي توكلني بإطعامه والعناية به، ذلك لإصابتها بالروماتيزم، فلم تعد تقوى على صعود الدرج حيث السطح وغرفة الحمام، وكان لدينا جار فقير في مثل عمري تقريباً يسكن بمفرده.
كانت أمي ترسلني إليه ببعض الطعام والفاكهة وأحياناً قطع من الحلوي، وكنت أدعوه كثيرا لزيارتي واللعب معي وكنا نسعد به كثيراً.
وفي الأعياد كانت أمي تشتري لي زياً جديدا ولجاري أيضاً، هذا غير الملابس القديمة التي كنت أمنحها إياه كل عام،
كان هناك حمامة فقست البيضتان اللتان كانت ترقد عليهما عن إثنين من الأبناء الصغار، عبارة عن قطعتان من اللحم بدون زغب أو ريش، لاحظت أن أمهما تطعم واحده وتترك الأخرى بدون طعام، ولا أدري ما سبب ذلك؟!، حيث أن الطعام لديهم كثير!! فكنت أطعمها نيابة عنها، أضع بعض الحبوب في فمي وأبللهم بقطره ماء ثم أفتح فمها وأبثق الحبوب من فمي داخل جوفها، وهكذا حتي تمتلئ حويصلتها ثم أنظفها وأعيدها إلى مهدها بجوار أختها،
كبرت وتعلمت الطيران، وكلما دخلت الغرفة لأضع لهم الطعام كانوا يهجمون عليه هجمة رجل واحد، إلا واحده كانت عندما تراني تحط على كتفي وتنقر في رأسي نقرأ خفبفا حانيا وكأنها تقبلني، يحدث هذا كل يوم منها حتى عندما أصبحت جَده، ولديها أولاد كثير وأحفاد أكثر.
كان جاري قد ذهب للعمل في أحد المصانع الكبري عندما إشتد عوده وأصبح شاباً يافعا، قبلته أمي وأعطته مبلغاً من المال، وطلبت منه أن يراسلنا دائماً للإطمئنان عليه، لكنه لم يفعل!
التقيته صدفه بعد سنوات، وشعرت بفرحه بحجم السماء، لرؤيته بعد غياب طويل،
فتحت له ذراعي لأحتضنه، ترك زراعيه منسدلين بجوار بدلتة الأنيقة ولم يحركهما،
ونظر إليٌّ من علٍ، وأخذ نفسا من غليون الدخان الذي يطبق عليه بيده اليمني، ثم نفث الدخان في وجهي وقال في فتور شديد: “أهلاً”، وتركني ومضي،
ورأيته ينفض بأنامله بذلته من آثار يدي.
***
نوارة
عندما رأيته لأول مره، كان يجلس على رصيف أحد البنايات القريبة من شاطئ النيل في “عزبة البرج” والمقابلة للعمارة التي إشترينا فيها شقة جديدة، كنت أقف في الشرفة أتأمله وهو يقلب الأسماك المختلفة الأنواع والأحجام في جرم الخوض أمامه، والذي إشتراها من الصبية الفقراء، الذي يجود عليهم بها ريسوا مراكب الصيد بما أنعم الله عليهم من رزق، رفع وجهه فالتقت عيناه عيناي، لمح ابتسامة على وجهي فبادلني بأكبر منها قائلا: صباح الخير يا نوارة!
أشرت له بيدي محيياً وضحكه تملأ وجههي وقلت: صباح النور
“نوارة” رنت الكلمة في أذني كأني أسمعها لأول مره كلحن جميل مشبع بالفرحة، نوارة من النور، نور الزهور المشرقه بالخير، تسعد عيناك بالنظر إليها، وتنعم بعطر شذاها، وعندما تذبل وتوشك على الهلاك تعطيك ثمرة لذيذة.. تفاحة.. او برتقالة.. أو دهب أبيض طويل التيلة… إلخ من الخيرات، يالها من كلمة تحتاج كتب ودواوين لشرح معانيها،
“له ديل وحنك ياسمك” هكذا كان ينادي على بضاعتة بين الحين والأخر
عباره أدهشتني، لم تغزو أذني من قبل من بائعين الأسماك في سوق السمك الكبير،
له ديل وحنك ياسمك، سمعتها إمرأة فوق رأسها قبعه كبيرة ترتدي شورت قصير وبلوزه بحمالات بألوان مبهجة وبرفقتها اثنتين من بناتها، قادمين من رأس البر عبر معدية “أماره”
توقفن عنده مستفسرات عن معنى ماقال، أمسك بسمكة طويله بعض الشئ وقال لهن:
له ذيل وأشار إلى ذيل السمكة، وحنك وفتح فم السمكة،
ضحكن بصوت عالٍ، واشترين منه، وأخذن الصور التذكارية معه، وانقلبوا عائدين،
تنعكس الشمس على وجهه الحليق فيزداد إحمرارا ونوراً وإشراقاً، الشال الأبيض المعقود بعناية حول الطاقية البيضاء التي تغطي رأسه، جلبابه النظيف المكوي دائماً،
يمر صياد فينحني أمامه ويقول ضاحكاً:
صباح الخير ياعم “كامل” يانور يانوارة يا إدارة ياأجدع واحد في الحارة،
يشاركه الضحك عم كامل فتنفرج شفتاه عن صفين من أسنان بيضاء كاللؤلؤ،
ماهذه الراحة التي ملأت صدري منذ أن شاهدت هذا الرجل؟! ماهذا الإنطباع الذي إنطبع بداخلي والذي يوحي أنني أعرفه منذ زمن مضى؟! على الرغم من تأكدي أنى لم أره من قبل، فنحن أغراب عن هذه المدينة،
إنها السهام التي تنفذ من قلب الطيبين إلى قلبك فتشعرك بقربهم منك، بحبك لهم، بأنهم من عائلتك وليسوا أغراب عنك،
مجرد سماع صوته في الصباح وهو يتضاحك مع الصبية الذين يبتاع منهم الأسماك، أنهض مسرعاً إلى الشرفه، وأتابعه في شوق وبهجة.
غاب لمدة يومين، داهمني قلق عليه، وامتلأ حلقي بمرارة حارقه، وزهدت في الطعام وجفاني النوم، ماهذا؟!
إنها نفس الأعراض التي لزمنتني عندما مرض أبي مرضه الأخير!
له… ديل.. وحنك… يا…سمك
الكلمات تخرج منه متحشرجه شاحبه بلون وجهه الحزين، ضعيفه كأنه ينتزعها من زوره إنتزاعاً،
ذبلت النواره وأفلت شمسها، لم ينطق بها كعادته،
في الصباح مات عم كامل، وفي هذه الأثناء عاودني الحزن الذي غمرني يوم وفاة أبي.