ثلاث شرفات خشبية

أسامة كمال أبوزيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة كمال أبو زيد

 كنت طفلًا خجولًا، منطويًا، غارقًا في ذاته، والمرة الوحيدة التي كسرت فيها الحدود، دفعتني جرأة عابرة مع طفلين في مثل عمري، فتعلقنا خلف حنطور قديم من تلك التي كانت تجوب المدينة كقباب من أحلام بعيدة. رأيت العالم يتقافز خلفي، وأنا سيد الحياة، السائر داخل الحلم، لا أخشى لسعات الكرباج التي تهوي على رؤوسنا برفق، وكأن السائق يرسل لنا تحذيرات أبوية غامضة. في ذروة دهشتنا، ونحن ننتقل من مكان إلى آخر، قال أحدنا – أو ربما أنا: “البحر”. لم تكن مجرد لفظة، بل بابًا إلى غواية الدهشة ومنتهى الحلم.

نزلنا من الحنطور على وقع سحر الكلمة، فرأينا البحر ينتظرنا، كأنه رسالة من أرض الخوف إلى فضاء الحرية ولمعة الماء. كان الوقت خريفيًا، الشاطئ خالٍ إلا منا. خلعنا ملابسنا ودفناها في الرمل كأسرار طفولتنا. تركنا البحر يرفعنا على موجه، يشاركنا فرحتنا الطافحة، الممزوجة بملوحة الماء، وغبشته، ونشوة الارتقاء مع الموج، ثم الانفلات منه إلى صفحة الماء الصافية. كانت بهجة نقية، تقضي عمرك بعدها تبحث عنها فلا تجدها بنفس براءتها الأولى.

خرجنا إلى ملابسنا، ولا أعرف حتى الآن لماذا غسلناها بماء البحر. ربما تخيلناها جزءًا من الدهشة، أو لئلا يكتشف أحد رائحة البحر في أرواحنا، أو رغبة في إشراك الآخرين في فرحتنا، أو خوفًا من أمهات يعاقبن على أبسط الهنات. ربما… ربما… لكننا عدنا بلا ملابس تقريبًا، وارتجفنا رعبًا، فتجولنا بين الطرقات القريبة من الشاطئ، غير مثيرين للريبة، فالأمر كان مألوفًا لأهل المدينة. طال المساء، فاختبأنا في حديقة قرب محطة القطار، اخترنا ركنًا جانبيًا وحاولنا النوم، لكن الحديقة كانت تضج ببشر جلبهم القطار، وغابوا في زمن بعيد. كنا نراقب بعيون متجاورة ضوءًا منبعثًا من مبنى قريب، يجلس أمامه شرطي بزي أبيض، عرفنا لاحقًا أنه شرطي مرور في مدينة لا يهدأ ليلها. شعرنا بالبرد والخوف من نباح الكلاب والعيون المترصدة، ولم نجد حلًا إلا العودة. كان الظلام أمواجًا من الصمت تدق قلوبنا، حتى إذا اقتربنا من حارتنا، بدا النهار وكأنه جاء قبل أوانه: الشارع كله ينتظرنا، وربما الشوارع المجاورة، والأمهات مهمومات، والآباء يخفون هلعهم بكلمات عابرة. دخلنا البيوت في دفء أصواتهم المحبة، لكننا كنا غارقين في برد الخوف. أُطفئت أنوار الشرفات، إلا ثلاث شرفات خشبية، ومن داخلها انطلقت صرخة ثلاثية طويلة من هول العقاب.

 

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم