أمينة حسن
ألقى في وجهها كلامًا قاسيًا، ورحل، حاولت أن تكلمه كثيرًا، لكن دون جدوى، تجاهل كل رسائلها واتصالاتها.
شعرت بضيق شديد في التنفس، وكأن هناك ما يشبه سائلًا لزجًا يطبق على رئتيها كأنها تغرق في الهواء، حاولت التنفس بصعوبة، يبدو أنه لا هواء يدخل رئتيها تحت ثقل ذلك السائل شديد الكثافة، انقباض عنيف في الصدر بعده غابت عن الوعي، حين فتحت عينيها وجدت نفسها غارقة في بقعة من سائل أسود شديد اللزوجة يشبه بقعة من مخلفات السفن البترولية، كما شعرت بألم مبرح في ضلوعها، حاولت النهوض، وبدأت تغتسل لإزالة آثار السائل من على جسدها، حين خلعت ملابسها، أفزعها وجود ثقب بفتحة متوسطة الحجم تكفي لدخول إصبع بصدرها، يقطر منها السائل، بحركة لا إرادية وضعت يدها على الثقب أثناء الاستحمام خشية أن يدخل منه الماء، ويتسرب إلى جسدها، جففت نفسها جيدًا، وارتدت ملابس جافة نظيفة بفتحة صدر واسعة، حاولت الاسترخاء صنعت كوبًا من قهوتها المفضلة، أحضرت قطعة من الكيك، وفتحت التلفاز على قناة الأفلام الأجنبية، تمددت قليلًا على الأريكة، وبدأت تشعر بتحسن، حين تحسست فتحة الثقب وجدتها قد انكمشت على نفسها، وكأنها جرح قديم في طور الالتئام تاركةً أثرًا بسيطًا مكانها.
في الأيام التالية، كانت كلما تعرضت لأحد المواقف القاسية في العمل تعود فتحة الصدر لفتح انقباضتها الضامرة ثانيةً، ويقطر منها بضع قطرات من السائل الأسود اللزج، للتغلب على الحرج والتساؤلات بدأت لاحقًا في ارتداء ملابس علوية ذات ألوان داكنة، كما اضطرت لإحضار طقم وأحيانًا اثنين من الثياب الإضافية من باب الاحتياط، حتى عندما كانت تذهب لحضور الحفلات والفعاليات الرسمية المبهجة كان التسريب يهاجمها أيضًا، وأحيانًا عند لقاء المعارف، وبعض ممن كانت تظنهم أصدقاء.
مع تكرار الحزن، ازدادت كمية السائل، بحيث لم تعد الملابس الإضافية حلًا كافيًا، ابتاعت كيسًا يشبه أكياس نقل الدم، وأنبوبا مطاطيًا شفافًا، ووصلتهم بثقبها، حرصت على إخفاء كل شيء تحت ملابسها، وحاكت بها كلها جيبًا داخليًا تعلق به الكيس. لا يعنيها الآن إن حاول أحدهم مضايقتها، فسوف يتجمع السائل في الكيس البلاستيكي المخبأ جيدًا، ولن يسبب لها ذلك أي إزعاج.
يتكرر الحزن، وتزداد كمية السائل، أصبحت تحتاج إلى حمل أكياس إضافية فارغة تبدلها مع الأكياس الممتلئة، لا مشكلة يمكنها تحمل تلك الدقائق التي يستهلكها خلع الكيس الممتلئ من الأنبوب المطاطي، وإغلاقه بإحكام، للتسهيل أصبحت تضع قطعة ثابتة من المطاط المستدير في فتحة الجرح، تثبت بها طرف الأنبوب الشفاف، الذي كانت تستبدله كلما امتلأ كيس السائل، تضع الكيس والأنبوب المتسخ في كيس ثالث يمكن إحكام غلقه، وتثبت مكانهما الأنبوب والكيس النظيف، تعلقه جيدًا في جيب الملابس، وتعود لاستكمال يومها بشكل طبيعي، حين التفت انتباه زملائها لكثرة عدد مرات ذهابها للحمام، تعللت بإحدى المشكلات الصحية.
يتكرر الحزن، وتزداد كمية السائل، لم يعد حجم الأكياس عمليًا لاستيعاب كمية التسريب، أصبحت تحتاج إلى قارورة كبيرة، تخبئها في حقيبة سفر عصرية ليسهل التنقل بها، تأخذها معها في كل مكان، تربطها إلى خصرها بسلسة معدنية أنيقة، تخبئ بين ثنياتها الأنبوب المطاطي، ولا تبتعد عنها أبدًا، يظن الجميع أنها مهمة جدًا، تحب المغامرة، وعلى سفر دائم، ساعدها على ذلك ابتسامتها العفوية وأَشْعاَرِهَا المُتَفَائِلَة، لا أحد يعلم أن حقيبة السفر صارت ثقيلة جدًا، وأنَّها لَم تَعُد تَسْتَطِيع أن تحملها معها إلى كل مكان.
لم تعد تستطيع المتابعة، توقفت عن الركض، ارتياد صالة “الجيم”، وحمامات السباحة، حتى المشي والتنزه أصبح مجهودًا شاقًا مع اضطرارها لجر تلك الحقيبة الثقيلة خلفها، لم تعد تذهب للتسوق، تشتري كل ما يمكنها طلبه بالتوصيل، وتستغني عن أي شيء آخر، تشعر فقط برغبة هائلة في أن تزور البحر، تتجه إلى شاطئ بعيد معزول، وتقرر النزول، رغم خوفها الشديد منذ الطفولة من السباحة في البحر بمفردها، تزيل السلسة المثبتة في خصرها، تخلع ملابسها، تنزع الأنبوب، والوصلة المطاطية المثبتة في الثقب، تدخل بقدميها في المياه التي تميل للبرودة، تتحرك ببطء نحو خط الأفق، تقابل الموجات الهادئة بقفزات طفيفة، حين تصل المياه لمستوى الصدر تأخذ نفسها عميقًا، وتغوص بكاملها في الماء، تدعه يحملها بلطف، تخرج رأسها من الماء، وتبدأ في السباحة بشراهة نحو المياه العميقة، فتحة الثقب تقرر إرخاء انقباضتها، تنفلت بضع قطرات من السائل، مشكلة كرات صغيرة مثالية الاستدارة، تسبح حولها بخفة، فتتذكر ميدالية المفاتيح التي اشترتها في طفولتها، كانت على شكل كرة بلاستيكية شفافة، بها سائل لزج لونه أزرق يمثل البحر، وتمثال صغير لشاب يركب الأمواج على لوح تزلج، كانت تحب أن تعطي للشاب بعض الإثارة، بصناعة موجات عالية يمكنه التزلج عليها، فتهز الكرة يمينًا ويسارًا، لكن عندما كانت ترج الكرة بشدة أكثر من المطلوب كان السائل الأزرق يتفتت إلى كرات صغيرة كاملة الاستدارة، سرعان ما تلتصق إحداها بالأخرى بعد أن تهدأ الهزات، فيسود الهدوء.
استمرت كرات السائل الأسود في الاندفاع خارجة من ثقبها، كلما هدأت الأمواج بدأت الكرات الصغيرة في الالتصاق ببعضها، تستمر في السباحة، يبدو الشاطئ بعيدًا جدًا، الأمواج هنا هادئة، مع توقف اضطراب المياه فإن كراتها سرعان ما كانت تلتصق إحداها بالأخرى، فتلتف من حولها مشكلة بقعة هائلة من السائل الأسود اللزج شديد الكثافة، تحاصرها تمامًا فيسود الهدوء.