تونى موريسون وسؤال الهوية الأفرو أمريكية

توني موريسون
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عزة مازن

فى الثامن عشر من فبراير هذا العام (2017) تكمل الكاتبة الأمريكية السوداء “تونى موريسون” (1931) عامها السادس والثمانين. حصلت موريسون على جائزة نوبل فى الآداب عام 1993 ووصفتها الأكاديمية السويدية بأن رواياتها تتسم بقوة بصرية وإيحاءات شعرية تبعث الحياة فى جانب مهم من الواقع الأمريكي. وكان لموريسون آنذاك ست روايات منها: “العين الأكثر زرقة” (1970)، “سولا” (1973)، “أغنية سليمان” (1978)، “محبوبة” (1987)، و”جاز” (1992). فى عام 2015 احتفلت موريسون بصدور روايتها الحادية عشرة “فليساعد الرب الطفلة”. منذ روايتها الأولى وحتى عملها الأحدث اتسم مشروعها الروائى بالاتساق، رغم التنوع.
ولدت موريسون فى “لورين” فى مقاطعة “أوهيو” بالولايات المتحدة الأمريكية. درست الأدب الإنجليزى فى “هوارد” وتخرجت فيها عام 1953، وحصلت على الماجستير فى الآداب من جامعة “كورنيل” عام 1955. بدأت حياتها العملية محررة فى دار “راندوم هاوس” للنشر، ثم انتقلت لتدريس الأدب فى جامعة “برينستون” فى “نيو جيرسي”، حيث تعمل أستاذًا للأدب حتى الآن. وضعت موريسون حجر الأساس لمشروعها الروائى بروايتها الأولى “العين الأكثر زرقة” وترسخ مشروعها الروائى بروايتها الثالثة “أغنية سليمان”. وفيها يدور السرد حول “ميلك مان”، المولود فى بلدة أمريكية فقيرة، بعد فترة وجيزة من إلقاء جار غريب الأطوار نفسه من فوق أحد الأسطح، فى محاولة يائسة للطيران. وعلى مدى حياته يحاول “ميلك مان” الطيران هو الآخر. بينما تتبع “موريسون” بطل روايتها فى رحلته الخيالية من مدينته الفقيرة إلى موطن جذوره العائلية تقدم عالم حياة السود بكل جوانبه. يدور الحدث الروائى فى مدينة مجهولة فى “ميتشجن”، حيث يعيش البطل، وفى “بنسلفانيا”، حيث عاش جده وقُتل، وحيث عرف “ميلك مان” قصة جذوره العائلية، وفى بلدة صغيرة فى “فيرجينيا” اسمها “شاليمار”، حيث مسقط رأس أجداده. تدور الأحداث، فى معظمها، فى الثلاثينيات وحتى بداية الستينيات من القرن العشرين؛ بيد أن هناك إشارات إلى القرن التاسع عشر، زمن حياة اثنين من أسلاف “ميلك مان” البعيدين، “جاك” و”سليمان”. يرى كثير من النقاد أن البناء السردى فى الرواية على درجة عالية من التفرد والتميز. تمزج “موريسون” الحاضر بالماضى من منظور شخوص متعددة. لا يصف الراوى الأحداث والمواقف وحدها، ولكنه أيضا يغوص فى الحيوات الباطنية لشخوص الرواية. وبذلك يتعرف القارئ على خلفيات الشخصيات ومشاعرهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، ومع جماعات السود وجماعات البيض. ينقسم السرد فى الرواية إلى جزءين، يتضح فى كل منهما التطور الأخلاقى لدى البطل. ففى القسم الأول، تنعكس على البطل برودة الشمال، فيبدو أنانيا لا يبالى بجماعته ويصارع جذوره، تحركه النوازع المادية وحدها، ولكنه يتحول فى الجزء الثاني، فى الجنوب الدافئ، ليصبح اجتماعيا غيريا، يسعى إلى تفضيل الآخرين على نفسه، ويحتضن جذوره. تبلور الرواية المشروع الروائى عند “موريسون”، من حيث الانتماء إلى الأدب الأفرو أمريكي، ويتبلور حول طرح مسألة الهوية الأفرو أمريكية والعلاقة بين الأمريكيين من أصل أمريكى فيما بينهم، والعلاقة بين السود والبيض، على المستويين الجماعى والفردي. ومن ثم يتركز الصراع فى الرواية حول سعى بطلها “ميلك مان” إلى الاستقلال عن عائلته وتحقيق الذات والعثور على إجابة لأسئلته: من هو، وكيف يعيش، ولماذا؟ وجاءت رواية “أغنية سليمان” فى الترتيب التاسع والثمانين، ضمن أفضل مائة رواية فى القرن العشرين، حسب جريدة الجارديان البريطانية، عام 2015؛ وذلك لتعبيرها، متعدد الجوانب، عن تجربة الأفروأمريكيين فى القرن العشرين. تعترف “موريسون” أن الرواية حررتها من القوالب التقليدية للكتابة. ففى طبعة “فاينتج” من الرواية، حسب “روبرت ماكروم” بجريدة الجارديان، تقول “موريسون”: إن استخدام الأصوات المتعددة مكنها من التحرر مما وصفته بالرؤية الشمولية. فهى ترى أن الأدب الأمريكى أصبح شموليا، وكأنما له نسخة واحدة، على حين يتمايز البشر ويختلفون فيما بينهم. لذلك فهى تحاول أن تمنح الصدقية لكل صوت من الأصوات المتعددة المختلفة فيما بينها. فالتنوع أقوى ما يميز الثقافة الأفروأمريكية.
يتعزز المشروع الروائى لتونى موريسون فى روايتها التالية “محبوبة”. ففيها تتسع التيمات لتنسج شبكة من الموتيفات، تجتمع فيها المدلولات الواقعية والفلكلورية. والرواية مستلهمة من قصة عبدة أفرو أمريكية، تدعى “مارجريت جارنر”، هربت من ربقة العبودية فى “كنتاكي” إلى “أوهيو”، الولاية الحرة، أواخر يناير 1856. يدور السرد فى فترة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865). تهرب “سيث” من قسوة العبودية إلى “أوهيو”. ولكن بعد ثمانية وعشرين يومًا من الحرية يصل السيد ليعيدها وأطفالها، إلى مزرعة “سويت هوم” فى “كنتاكي”، التى هربت منها، مستفيدًا من النص القانونى الخاص بالعبد الهارب لعام 1850، والذى يسمح لملاك العبيد بتتبع عبيدهم عبر الحدود. تقتل “سيث” طفلتها ذات العامين، لتقذها من العودة. بعد عدة سنوات تأتى شابة تدعى “محبوبة”، يغلب الظن أنها الابنة المقتولة، لتسكن منزل “سيث” فى “أوهيو”، حيث تعيش وابنتها “دينيفر” بعد هروبهما من العبودية. كان المنزل قبل ذلك يرتاده شبح من أشباح الموتى، يعتقدان أنه شبح ابنة “سيث” المقتولة، ويؤثر بقواه الغيبية على المقيمين فيه. ولذلك حضر إلى المنزل “بول دي”، أحد رفاق “سيث” ، الذين كانوا يعملون معها فى مزرعة “سويت هاوس” فى كنتاكي. استطاع “دي” أن يتخلص من الشبح. وبدا أنه نجح فى ذلك فى البداية. بيد أنهم وجدوا شابة تجلس أمام المنزل، تقول إن اسمها “محبوبة”. انتاب الشك “بول دي” وحذر “سيث”، ولكنها انجذبت إلى الشابة وتجاهلته. وسرعان ما دفعت القوى السحرية “بول دي” إلى الخروج من منزل “سيث”، ليقع تحت إغراء “محبوبة”. يقر فى قلب “سيث” أن “محبوبة” هى ابنتها التى قتلتها فى عمر سنتين، فبدأت فى تدليلها مدفوعة بالشعور بالذنب، واستطاعت الفتاة السيطرة على “سيث” وتسخيرها لتلبية طلباتها. فازت الرواية بجائزة بوليتزر عام 1988.
لا تنفصل الرواية الأحدث “فليساعد الرب الطفلة” عن المشروع الروائى لتونى موريس. فالبشرة السوداء للفتاة “برايد”، الشخصية المحورية فى الرواية، سبب تعاستها منذ الطفولة. فعند ولادتها، صدمت بشرتها الداكنة الأم ذات البشرة الأفتح، حتى أنها فكرت فى قتل طفلتها. تعمل الفتاة فى مجال الأزياء والتجميل، وتؤيد صيحة ارتداء الملابس البيضاء وحدها، فتبدو كقطة سوداء برية وسط الثلوج. يرى بعض النقاد أن الرواية تؤكد على جاذبية جمال البشرة السوداء، كنوع من التحيز.
رغم كونها أحد أهم أعمدة الأدب الأمريكى المعاصر، تصر “موريسون” على أنها كاتبة أمريكية سوداء، وتراه أحب الألقاب إليها. فهى تكتب للسود، وليس عليها الاعتذار أو الشعور بالمحدودية، لأنها لا تكتب عن البيض. رغم وجود شخصيات من البيض فى رواياتها، لكنها لا تحسب حسابا لناقد من البيض، بينما تشرع فى الكتابة. فهل كان “تولستوي” مثلا يكتب إليها، فتاة ملونة فى الرابعة عشرة من عمرها، عندما كانت تقرأه فى صباها؟!

…………..

*نشر في مجلة الإذاعة والتلفزيون في 4 فبراير 2017

مقالات من نفس القسم