صفاء النجار
فى مطبخى يرقد تمساح، يشغل جسده الرمادى كل الأرضية الخشبية، لا أعرف من أى الخزائن يأتى؟ لكنى أجده فى كل مرة أنتهى من غسل الأطباق وتنظيم الرخامة الخضراء. وعندما أطفئ أنوار المطبخ، وألتفت كى أتمم على عالمى أجده ممددًا، وعينيه مختنقتين بدموع سيئة السمعة.. أحنى ظهرى وأربت على حراشفه، فتختفى الدموع ويحل محلها نجوم وبريق.
أنا وتمساحى لا نتحدث كثيرًا، فقط أزيح كل ليلة كرسىّ الهزاز وأجلس فى الطرقة أمام فتحة المطبخ وأمسك كتابًا أقرأ فيه.. يتابع التمساح ما أقرأ فى صمت.. وفى أحيان يقترب من قدمىّ وينام عليهما، ورغم ثقل رأسه على عظامى الهشّة، فأنا لا أتبرم، فمن يرفض معجزة، وأحيانًا لا يعجبه الكتاب الذى أقرأ، فيختفى فجأة، إلى أين يذهب؟ لا أدرى، ولا أريد أن أعرف، غير أن الحقيقة أنه لم يصدف أبدًا أن فتحت خزانة ووجدت فيها تمساحًا ينتظرنى.
لا أخبر أحدًا عن تمساحى ولا عن حراشفه التى أدلف لكهوفها وتقودنى ممراتها السرية فى كل مرة إلى حيث لا أخطط.. منبع نهر فى قلب غابة، سفح جبل على حافة صحراء.
أيها التمساح لدىّ سؤال مراوغ: لماذا تترك نهرك وترقد فى مطبخى؟ والسؤال المباشر: متى ستفتح فمك وتحتوينى فيه؟ نعم تستطيع أن تعيش عدة أشهر بلا طعام.. ونعم أنت حتى الآن مسالم، لكنى لا أستوعب جلسة كهذه فى ظل أرفف مطبخ، كما أننى أخاف من يديك القصيرتين، كأنهما نتيجة تجربة فاشلة، كيف اعتقد المصريون أنك إله خالق مع هذين اليدين الرخوتين، يقولون إنك راعى الجيش، وإنك قادر على أن تحيى النفوس التى ماتت فى الحرب، وأن تعيد للأجسام المنهكة صحتها، وللحواس المفقودة رونقها، وإن حورس تنكر على هيئتك وجمع من الأحراش بقايا جثة أبيه أوزوريس.. رغم كل شىء أظنك يا صديقى حزينًا، لا تستطيع أن تنكر مهما ادعيت من حكمة أن الجمال نعمة، آية، وأنت لا تمتلك أيًا منه، تبدو كمخلوق على عجل من النفايات.. هل أنت حزين لأنك قبيح أم أنك قبيح لأنك قاتل وشرير؟
أيهما أكثر تأثيرًا، السؤال الغبى أم الإجابة الغبية؟ السؤال الساذج الذى يكشف عن جهل أو استهتار، عدم وعى؟ أم الإجابة التى تكشف عن كل ما سبق؟
بينما أشاهد فيلم illusionist وجدت التمساح محتلًا نصف سجادتى الشيرازى، ومنهمكًا فى متابعة الفيلم، أحب هذا الفيلم، يظهر فيه استخدام العقل فى صورة قد تبدو خرافية، لدعم ما يريد الشخص إيهام الآخرين به، استخدام الأطياف قبل العروض السينمائية العامة، أن تنصب الفخاخ لآخرين، أن تقودهم ليروا ما تريدهم أن يروه وليس ما هو حقيقيًا.
تابعت مشاهدة الفيلم وأنا متوجسة، أنظر بعين للفيلم وبعينى الأخرى للوحش الراقد فى سلام بمحاذاتى تقريبًا.. بعد انتهاء الفيلم لم أدرِ هل أطفئ التلفاز أم أتركه للسيد الجالس فى سلام مقلق بالنسبة لى؟ قبل أن أفكر فى احتمالات أية إجابة، وجدته يسحب أوراق الكوتشينة الموضوعة فى علبة فضية مطعمة ببلورات زرقاء، ويفردها على الطاولة الصغيرة.
لا تستهوينى ألعاب الكوتشينة.. الكومى أو الولد يقش.. لماذا يقش الولد؟ عندما كنت ألعب مع إخوتى، وكنت أكبرهم، كنت أجعل البنت تقش، الأقوى يفرض قانونه، الشايب، أشك، كذاب، البصرة.. كل ألعاب الكوتشينة تعتمد على الحظ، رغم تحويلها ديفيد كوبرفيلد وغيره من السحرة إلى فن، إلا أنها ما زالت لعبة تضييع الوقت، وأنا لا وقت لدىّ.. يعجبنى فى الكوتشينة فقط دلالتها الرمزية التى لا يعرفها كثيرون، لا شىء من فراغ.. كل شكل على أوراق الكوتشينة الـ٥٢ يمثل أحد أعمدة الاقتصاد فى أوروبا فى القرون الوسطى: الكنيسة، الجيش، الزراعة، التجارة.
إذا حاول هذا التمساح أن يلعب معى الكوتشينة، فلن يجد منى سوى الرفض، لا أريد أن ألعب، لا أريد أن أكتب، لا أريد أن أفعل شيئًا، لعلى أريد ولكن لا أستطيع، فأغلف عجزى بالتمرد والزهق.
على هذا التمساح أن يفهم حدود الضيافة، وما كان مقبولًا بالأمس لم يعد مقبولًا اليوم، تصرفات الطفل التى يقوم بها التمساح ظنًا أنه سيضحكنى، لم تعد تبعث غير الضجر.
أيها التمساح هيئتك المخيفة لا تتناسب مع احتياجك اللعب، وأنا لن أستطيع التواصل الصحيح معك، إلا إذا كشفت لى عن هويتك، وحتى تكف عن اللهو، سأنسحب لغرفتى وحذارِ أن تأتى خلفى. ظل التمساح يحدّق بى، وامتلأت عيناه بالدموع، وعندما نهضت وفى طريقى لغرفتى كانت حراشفه تحك فى سجادتى.