تمارين على القفز بالزانة

مصطفى النفيسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى النفيسي

كنت تلبس ذلك الطربوش الأحمر من الطراز الفاسي، وهو لا يناسبك تماما، حتى أنك تبدو وكأنك أجبرت على ارتدائه.  لم تتحسب لمسألة القالب التقليدي الذي يتنافى مع سحنتك.  ابتسامتك هي الأخرى كانت شائهة بشهادتك.  ابتسامتك حسنة التعليب كتلك التي نجد
أشباهها عند متعهدي الحفلات.  ولكنك لم تقم أي اعتبار لذلك.  كنت تتوغل في أحاديث تافهة مع أناس في هيئة مريدين و خونة.  تمرر يدك اليمنى الثخينة بشكل سريع على جبهتك كمتهم 
في قضية جنائية ثابتة الحجج يواجه مصير الإكراه البدني.  ولكنك تحاول التغلب على ورطاتك بقهقهات مصطنعة تخرج من حنجرتك كقذائف يطلقها عسكري متدرب في صحراء مقفرة.  الصالة التي توجد أمامك هي مجرد ميدان رماية تجرب فيه مدى قدرتك على التأثير والمراوغة كأنك تلميذ يحل معادلة رياضيه متبعا خطوات تقليدية مطروقة باستمرار.  لطالما كنت مغرما بالرياضيات مثل بقالين يحملون شهادات تخرج ممهورة من طرف آبائهم الذين توفوا بسكتات قلبية مفاجئة.  كنت تحب الرياضيات وأصبحت الآن تحب سيارات المرسديس.  أنت تحب أيضا حفلات الشواء والجلوس أمام كاميرات التليفزيون.  لا تفكر سوى في الصورة التي ستظهر بها في المساء ونساء الحي القديم يتلفظن بألفاظ الإعجاب والدهشة:”أحمد المسالي. .  حتى هو ظهر بالتليفزيون. آخر الزمان. ” وأنت لا تسعك الأرض حينما تتوصل بهاتف مفاجئ في آخر الليل من “عبدو الكياس” الذي كان سخيا معك حينما كنت تأتي للحمام الذي يشتغل فيه فراشا.  صوته المبحوح عينه و الذي أفسدته السجائر الرخيصة معطية إياه لمسة قسوة لذيذة تكشف كثرة سهر صاحبه وخصوماته الكثيرة مع زوجته البدينة.  لا أحد يقف في طريقه.  لكنه يهاتفك الآن وصوته قد أصبح مهذبا خاليا من أية حشرجة.  يخبرك أنه فخور بك.  إنه لم ينساك.  لم ينس جلسات التدليك بالحمام الشعبي.  لم ينس ولعك بعصير العنب المجفف.  قال لك”الأيام مسرعة ياصديقي. . الأيام. . ” لكنك كنت مستعجلا.  كنت متعبا وضجرا.  فيومك حافل دوما.  وأنت غير مستعد لتسمع ثرثرة مدلك في حمام شعبي.  كنت تفكر بإقفال الهاتف.  لقد كان صوته  أقوى منك.   انتصرت طيبوبته عليك.  الطيبوبة هي نقطة ضعفك.  كان يجرك إلى أحاديث لا طائل من ورائها بنظرك.  أضاف قائلا، وكان قلبك قد بدأ يخفق كأنه سجين يرفس أرضية الزنزانة لاستفزاز سجانيه بغية مغادرة السجن قبل حلول نهاية عقوبته”لقد تغيرت كثيرا بحيث لم يعد بالإمكان التعرف عليك”.  وكان وجهك فعلا قد تحول إلى طبل ووجنتاك أصبحتا تمنحان الانطباع بأن فمك ممتلئ بحشوة ما. تحدث المدلك كثيرا وأنت تقول من حين لأخر”اه. . اه. . اه”.  وهو يعتقد أنك تصيخ السمع.  فجأة بادر بسؤالك عن شيء محدد.  فسقط الأمر في يدك.  ولكن ذلك لا يهمك أبدا.  ما ضير أن يسقط مدلك محلي من قائمتك التي أصبحت طويلة وممتدة كطرقات تتجه نحو المجهول بصرامة لامتناهية إلى حد التعب.
استطعت أن تهزم الحياة.  هزمت الزمان أيضا.  ضربت الحياة بالضربة القاضية على قفاها.  “كل الذين يتولون الاستقامة يخرون مضرجين في فشلهم وندمهم على تضييعهم سنوات من عمرهم في الانضباط. ” ليذهب كانط إلى الجحيم. . فيلسوف متزمت.  كيف يمكن لي أن أصدق أن فيلسوفا من عياره لم يفارق مدينته أبدا؟”.  يسأل بمكر وخبث ويصفع كرشه كأنه يعاقبه على تمدده المبالغ فيه وغير المرخص من طرف الأطباء الذين تربوا تربية أرنب في حديقة وطنية.  “أناس منافقون و مغترون بمهنهم. “هكذا كان يتحدث في ذلك المقهى الأنيق.  لا يريد أن يقاطعه أي أحد.  يكور قبضته كأنه سيضرب أحدا ما، حينما يتنحنح أحدهم مفكرا فقط في التعقيب بكلمة ما يعمق من خلالها أفكاره التافهة.  لكنه يعدل عن ذلك لأنه يرى القبضة المتكورة.

 كل شيء يخر أمامك كأنك ميتولوج يوناني من زمن فقاعات الصابون.  الميتولوج هو نفسه دوما.  ولكن أكاذيبه تتغير. الميتولوج يمتلك الآن وسائل حداثية.   إنه يمتلك حسابه في الفيسبوك.  هذا الميتولوج الذي هو أنت، لديه عشرين ألف متابع وخمسة آلاف صديق دائمي التواجد.  كلهم يمطرونك بتعليقاتهم المليئة بالتبريكات والمتمنيات الجميلة.  كلهم يتابعونك عن كثب ويطلبون لك التوفيق وسداد الخطى.  لكن نصفهم يحسدك ويتمنى أن تصيبك الجائحة أو طاعونا لا يترك لك أية فرصة للنجاة.  أنت تدرك ذلك طبعا.  لذلك فأنت تكثف غاراتك الخطابية المتخمة بالخبث والسنوبية.

 تتحدث طيلة الوقت.  تتحدث في المقهى.  وحين ترى أن ذلك لا يجدي نفعا تهرب نحو الفايسبوك لتحصد اللايكات يمنة ويسرة مثل محارب في معركة حاسمة، ستمكنه من الضفر بمكافأة الألف دينار وبيد ابنة الحاكم.  أنت تضفر فقط بمنصبك الذي تريد أن لا تحرم من عطاياه.  تريد أن تسافر أكثر مما كنت تحلم به.  تريد معرفة أمكنة جديدة وأناس مختلفين عن جلسائك في المقهى.  تريد أيضا أن تصبح أكثر وسامة.  تفكر في إجراء عملية جراحية لتليين شكل أنفك و تبييض أسنانك لتبدو كبراد بيت.  لطالما كنت تعتبر هذا الممثل الأنيق رمزا في حياتك.  تتذكر كيف انفصل عن أنجلينا جولي حينما نخرها المرض الخبيث.  تقول لنفسك: “لماذا لا أخطو خطوة جريئة مثله؟ لماذا لا أبحث عن زوجة أخرى تنسيني السنوات العجاف التي ذقت فيها لضى وشضف العيش؟”
تكرر أكثر من مرة لنفسك طبعا: “لماذا لا أفكر بجدية في الأمر؟ “.  تعاود السؤال مرة أخرى لنفسك أيضا وربما للاأحد لأنك تحاذر أن يسمعك شخص ما: “ربما هي فرصتي دون شك كي أصبح إنسانا سعيدا مثل كائنات التليفزيون”.  هذا ليس صحيحا طبعا فأنت لن تكون سعيدا أبدا. لأن طابور الرغبات أقوى منك وحياتك أقصر من أن تحصل فيها على كل ما تريد.  أنت تدرك ذلك جيدا.  لذلك فأنت تسرع.  لقد تحولت إلى رجل جشع وأناني.  رجل لا يقيم اعتبارا لأي شيء ولا توقفه أية حدود.  

إنك مولع بالمودة إلى حد كبير مثلما أنت مولع بالتحديق في وجهك طيلة الوقت حينما تجد مرآة امامك.  تخذلك المرايا.  تصبح مستثارا وجموحا كفيل في أحراش إفريقية.  تفتح فمك أكثر من مرة وتنظر إلى أسنانك وتقفز إلى رأسك فكرة أن تزور في أقرب وقت طبيب أسنانك.  ستكمل حصصك التي لا تنتهي.  فأنت مهووس بالمواقع الطبية التي تدعو إلى الاعتناء بالصحة و إنقاص الوزن والإكثار من الرياضة.  لكن الاختيار الأخير لا يناسبك.  لأنك تمقت الاستيقاظ المبكر.  متى ستمارس الرياضة إذن؟ هل ستمارسها مساء في نادي علي بابا؟  هذا لايروق لك أيضا. هناك ستجد ثلة من أصدقائك الذين لم يستسيغوا غناك السريع.  سيمطرونك بأسئلتهم الشبيهة بطعم العلقم.  لن تمارس أية رياضة إذن.  يجب أن تلتحق بأندية التدليك والاسترخاء المنتشرة في كل مكان.  لكم تبهج تلك البرامج الصباحية في التليفزيون والتي تتحدث عن الرشاقة وتأثير التغذية على جمال البشرة.  كل تلك البرامج تتفق على أهمية الحمية والطب البديل وهذا ما يبهجك فعلا.  إن هذا ما يجعلك تبحث صاعدا ونازلا مستعملا الروموت كنترول الذي لا يفارق يدك في مصافحة طويلة لا توقفها وجبة أو نداء ما.  لقد حولت الطاولة الحمراء الصغيرة المصنوعة من الخشب المزيف إلى طاولة أكل،اذا لم تتناول وجباتك في مطعم المفضل الذي يقدم جميع أصناف الأطعمة.  لأنك طبعا تحب التغيير.  تحب أن تتنقل بين الأطعمة التقليدية والوجبات السريعة.
لقد تزوجت الآن.  لقد أصبحت أكثر إقبالا على م٩الحياة.  لكنك بنظر الآخرين مجرد شخص متصاب.  لايهمك ذلك.  “ليذهب الجميع إلى الجحيم ” هكذا كنت تقول لنفسك.  سافرت إلى بلدان أجنبية كثيرة.  كنت تعلن عن وصولك إلى كل بلد تزره على صفحتك بالتويتر بمجرد أن تطأه قدماك. كنت تستعين بتقنية ال GPS والنشر الفوري.  كنت تتخيل نفسك كأمير بمؤرخ مجاني يسير الى جانبك.  المؤرخ الذي يتتبع كل سكناتك وحركاتك دون أن يتقاضى أي أجر.  
راكمت ثروة مهمة ودفعت بها إلى محاسبك ليبحث لك عن أبناك آمنة في بلدان بعيدة.  فأنت لديك خوف دفين من الإفلاس السريع ومن الآثمين والأفاقين المحتملين.

لكنك لم تقم حسابا للشيخوخة. فها أنت قد شخت الآن. كل شيء يصبح عرضة للضياع رغم أنفك.

والآن في أي شيء ستنفعك كل تمارين القفز على الزانة  التي قمت بها طيلة حياتك؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

*قاص من المغرب

 

 

 

مقالات من نفس القسم