اختار هاتين المفردتين خصيصا كي يأسرنا بشعور الاحترام والود مع الاحتفاظ بهالة من البعد بينهما، بعد تفرضه المفردة مع الإجلال وكأنه ومن البداية يدشن لتلك الحالة من المشاعر ونقيضها.
نحن بصدد نص روائي يتحدى ذات الفكرة الأزلية ليفجر طاقاتها من جديد، وليضعنا أمام الحقيقة الأزلية كذلك أن كل الأفكار تصلح ولكن الحرفة والإبداع في الطريقة والتقنية.. أو كما قال الجاحظ الأفكار على قارعة الطريق، وأقول مقتفيا أثره كذلك الأحجار الكريمة على قارعة الطريق ولكن لا يشغف بها إلا فنان نظرته أحد وقلة منهم تحترف صقلها.
النص يعارض سلسلة طويلة من النصوص تبدأ حتى من قبل الأوديسا، سلسلة تبدأ ولا تنتهي، ربما لأنها راسخة في ثقافة البشر الجمعية.
الرجل أو السيد الذي جرى العرف على الرمز له بدائرة يخرج منها سهم لتدل على رحلاته الاستكشافية، رحلات الصيد والقنص والوصول والمرأة أو السيدة التي جرى العرف على الرمز لها بدائرة يخرج منها صليب مستقر ليدل على قرارها لتكون مركز ذلك العالم وسكنه وأصل مدنيته..
أوديسيوس الذي خرج للحرب وغاب لعشرة أعوام فيها ثم غاب لعشرة أخرى في طريق العودة ونجا من سحر الحورية كاليبسو بفضل الآلهة والسيد مروان الذي غاب في أفريقيا ونجا كذلك من سحر الحورية تانيا بفضل شبح الإيدز وغيره ليعود أوديسيوس لبينلوبي زوجته التي انتظرته رغم كل عروض الزواج التي انهالت عليها وكل فتن الدنيا التي تعرضت لها وكذلك فعلت السيدة ميرنا..
لكن الأمر هنا مع الروائي صلاح عطية مختلف فميرنا التي بقى السيد ساكنا فؤادها وخاطرها قررت لتتجاوز ألم الفراق أن تميته فشدت شريطة سوداء على صورته وحاولت التخلص من ذكرياتها معه ففرغت دولابه وتخلصت من حاجياته..
نحن أمام تمرد يليق بالسيدة لكن السؤال ينفجر فيك من بين السطور ولا تعثر له على إجابة، هل عليها أن تستسلم لذلك المصير وتلك الثقافة، المرأة البتول البيت والسكن والتي تنتظر عودة ربان رحلة عمرها، تتعاطف معها رغما عنك وتلعن استسلامها وربما تذكرها بسيمون دي بفوار وتلعن تسليمها معها وتذكرها بأن الصور والنماذج البدئية وإن رسخت محض هراء..
كل هذه العوالم محملة على سرد رهيف، خيط حريري كميزان لا ينقطع ولا يرتخي أو يفقد….
وجود كامل يتمثل في المونتو أو الإنسان بحسب الميثولوجي الأفريقي: السيد مروان والسيدة ميرنا وصديقتها وأمها وخالها وتاليا وأرواحهم وغيرها…..
والكينتو متمثلا في كل ما يحيط بهم من أشياء مادية
والهانتو أو الزمان والمكان الذي تنساب فيه الأحداث
والكونتو أو الحال والكيف…. الحال الذي يحتاج لكثير من ضوء، حال الحياة والاكتشاف والموت والخلود والاكتشاف كذلك… حال نجده كما وجده السيد بطل الرواية يملك وجودا وطاقة مستقلة كالضحك الذي ضحك من الضاحكين (العبارة التي بزغت في عقل السيد مروان متذكرا جملة لم يفهمها سابقا في رواية لكاتب إفريقي، لا يذكر اسمه).. حال حياة وموت واكتشاف وخلود يملك كذلك أن يربت على المونتو / الانسان ويسخر منه ويشفق عليه في معارضة بديعة من الروائي مع الثقافة الإفريقية والي سربها إلينا عبر بطله بشكل فلسفي عميق…
هذا الحال الذي جاء في أقصى طاقاته مع نهاية العمل، السيد الذي ما زال شغوفا برحلاته واكتشافاته، يتحرك نحوها بسهمه، هذا هو حاله، يستلقي في التابوت كي يجرب رحلة الموت والخلود لكنه يوغل فيها ويغيب وكأن حال الاكتشاف والمعرفة قد كانت إرادته إرادة الحال باستبقائه مرتحلا في أرض الموت…
هنا لا تستسلم السيدة ميرنا ولا تسلم بل تقرر مصاحبة زوجها في الرحلة بعد أن استشعرت أنفاسه ودفء جسده لتنام جواره وتغلق عليها التابوت وقد وضعت ورقة للجيران بألا يزعجوعهما ليومين تاليين وأن يتركوا كل شيء على حاله طيلة هذين اليومين..
هنا السيدة فاعلة لا تستسلم وكذلك حال الرحلة والموت….
بقى أن أشير إلى أننا وفي كتابات الروائي صلاح عطية كما في كتابات الكثير من مجايليه هناك رغبة في نبش الذاكرة وتخليد ذكرياتهم مع إلتزام بالفعل الإبداعي، نجد ذلك في الكثير من قصص مجموعته الأولى وكذلك نجده هنا عند ذكره للشاعرين محمود الحلواني وعبد الناصر أحمد وجلسات السمر معهما في خضم أحداث الرواية لنتساءل دوما عن الخيال أين يبدأ ومتى يسرب تلك الذكريات وكيف يحسن تضفيرها…
تلك السيدة رواية رومانتيكية رهيفة ولا أقصد الرومانتيكية بمفهومها العامي عن علاقة رجل بإمرأة ولكنني أقصدها كفعل كتابة يرسخ للعاطفة والخيال الجامح كأهم رافد للجمال.
لتحميل الرواية.. اضغط هنا