تقاطع المصائر في رواية بودا بار

بودابار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

بودا بار رواية حديثة للروائية اللبنانية المقيمة بمصر لنا عبد الرحمن صادرة عام 2021 عن منشورات ضفاف لبنان ومنشورات الاختلاف الجزائر في 166 صفحة، يحيل العنوان المركب تركيبا مزجيا« بودا بار» على العالم الروحي والاستقرار النفسي والانسجام الفكري الذي تجسده تعاليم بوذا وأما البار فيحيل على المادية ومتع الحياة والانطلاق ، ومن العنوان تجمع الرواية  بين دفتيها في جدلية ظاهرة بين الواقعي والمثالي والمطلق والنسبي  والمادي والروحاني وتأتي الصورة كعتبة ثانية تضئ دهاليز المتن السردي  بخلفيتها البنفسجية، فاللون البنفسجي لون النشوة والانطلاق والصخب والاستمتاع والعب من متع الحياة ،ويتوسط الصورة تمثال بوذا بملامح الوجه الثابتة والنظرة العميقة  الرزينة الوقور والاطمئنان في عالم متغير صاخب غير عابئ بتصاريف الحياة وإحن القدر ولا تقلبات النفس وميولها ونوازع الجسد، ففي البوذية السلطة للروح التي تفيض بأنوارها وفيوضها على الجسد فيتمثل بالقناعة ويجنح إلى الزهد مادام الشقاء في الكثير، وفي الغنى مزيد من الألم  والتبعية وفقد الحرية وفي القليل التوازن والحرية والزهو الحقيقي للروح التي تفيض على العالم الداخلي للإنسان سعادة غامرة وانسجاما عاطفيا وتسليما بما في الحياة من آلام باعتبارها الملح الذي يعطي للحياة نكهة ومعنى حقيقيا وموسيقى «بودا بار» تتولى الروائية  تفسيرها على لسان دورا (بوذا يمثل حضور الله عند البوذيين، لذا فكرت أن هذا التجاور بين المطلق والملموس، ربما هو الذي جعل من موسيقى «بودا بار» تحظى برواج مثير عند مستمعيها ،كما حظيت الأماكن التي حملت الاسم ذاته بخصوصية تميز المكان مع ديكورات وألوان تستدعي الغموض في حضور تماثيل بوذا). وعن قصدية تضيف الكاتبة مقولة  منفصلة قبل الكتل السردية تعتبر عتبة ثالثة للولوج إلى هذا المتن السردي”ليس هناك صدفة ،الصدفة ضرورة قدرية” ليستجيب المتلقي ويتهيأ نفسيا وفكريا لاقتحام هذه الكتل السردية ويتسلق شرفات الدهشة قافزا بين مختلف التأويلات مادام الأفق الروائي مفتوحا والكاتبة لا تفرض أحادية الدلالة وواحدة التأويل، رواية تقاطع المصائر ورواية وجودية مؤثثة بأفكار صوفية ونزوع نحو المطلق والمتعالي في صراعه مع النسبي والمادي والراهن وقد استدعت الكاتبة مفردات الثقافة الصوفية من رقص ودراويش وأشعار ابن الفارض  في الحب والفناء في المحبوب لا لمجرد الرصف والجمع والكولاج بل لدفع هذه المصائر المتقاطعة في كشف ملابسات حياتها وأفقها الفكري وتعطشها للمحبة  وإن اختلفت جغرافيا ولغويا وثقافيا ودينيا فما يبدو صدفة هو ضرورة قدرية فجميع الشخصيات تجد في البوح سردا للوجع والضياع والتشظي بين متطلبات الجسد ونوازع الروح ، بين الوطن المنتهك والحب المجهض وهي شخصيات متأزمة ،متشظية، متوترة يغلفها الشجن بغلالة رقيقة رمادية تماهت مع بيروت وبحرها في أزمتها التاريخية والراهنة.(ليس من المجدي أن تنتمي إلى أي شيء،بل من المهم أن تحمل رأسا قابلا للعطب والتشكل من جديد  رغم الذكريات السوداء، والقلب الأجوف).

في 28 كتلة سردية  بدأته الكاتبة بالكتلة السردية 0 وانتهاء بالكتلة رقم 27 مفسحة المجال أمام تعدد السارد بين الضمير الثالث وضمير المتكلم ما منح المتن السردي ثراء وتنوعا ومرونة ولم يكن استخدام ضمير المتكلم إلا متكأ فنيا لتكشف  الشخصيات للمتلقي عالمها الداخلي عبر البوح في شكل اعتراف لتؤكد  أنها شخصيات مهتزة مأزومة، محرومة بقدر ما هي مقبلة على متعها الراهنة .

تبدأ الرواية في يوم حار من أيام يوليو في حي الأمير ببيروت، حي عتيق يعج بمختلف الشخصيات الكادحة  والمتوسطة وقد أثثت الكاتبة للمكان بما يستدعي أهوال الحرب الأهلية فالحي نفسه أثر من آثار هذه الحرب فالمالكة للشقق فيه( ديبة) البدينة رمز للمتنفعين والأثرياء الجدد الذين استفادوا من هذه الحرب في حين كان  الآخرون وقودا لها وفي إحدى هذه الشقق تقع جريمة قتل الجميلة جمانة ذات الجمال الأسطوري تلك التي عشقها الكل وأحبها القليل وتورط الكثيرون في علاقات سرية معها حفاظا على مكانتهم الوظيفية والاجتماعية وتطال الشبهات الخادمة السرلانكية لوسي بل وزوج القتيلة  مروان غير أن التحقيق لا ينتهي إلى شيء وتفد على الحي بغرض السكن في شقة دورا القادمة من أستراليا ،امرأة ظلت تحلم بالأمومة دون أن تحققها مع أنها أحبت آزاد  أثناء عيشها في في باريس وهو بدوره رفض الإنجاب من منطلق فلسفي وجودي مع حبه لها وفي لحظات عابرة قضتها مع مروان زوج القتيلة جمانة لم ترتو غريزة الأمومة فيها ولا وجدت الدفء الإنساني والحب الحقيقي الذي يبدو أنها ودعته إلى الأبد مع آزاد(الحب الذي جعلنا ننام على سرير من رماد مغمورين بالنشوة، نظن أنها لحظة أبد سوف ندوم  غافين في فقاعتها غير المرئية، الحب الذي لا يأتي في الحياة إلا مرة واحدة ولا يصادفه إلا الأشقياء). ووجدت في إغاثة المنكوبين ورعاية اللاجئين صرفا لغريزة الأمومة فيها وموت الحب وهي آلية دفاعية للأنا ، وهكذا انشغلت بملفات اللاجئين السوريين في لبنان ورعايتهم وتحسين ظروف حياتهم وهو استدعاء ماهر لتداعيات الحرب السورية على الداخل السوري  والجوار العربي وليست الفتاة اللاجئة فرح إلا مأساة من مآسي هذه الحرب تلك الفتاة التي قتل والداها في تفجير بحلب ووجدت نفسها في مخيم قريب من بيروت وقد انجذبت دورا للفتاة فرح عبر رعايتها رعاية خاصة ومساعدتها على الدراسة والعناية بأحوالها مع بقية اللاجئين  وفي الحي أخلاط من الناس فالدكتور يوسف الطبيب السبعيني  هو الثابت في المتحول بوقاره ورزانته وعمق بصيرته وإنسانيته كذلك فهو مازال يعالج الناس في صالون البيت بمبالغ رمزية ، إنه تجسيد حي  لعراقة لبنان وشهامة تاريخه الماضي وقد ترمل ثم فقد ولده أسامة في تفجير أثناء تغطية حرب أفغانستان مع زوجته الألمانية هيلدا وقد تركا ولدا صغيرا في رعاية الجد للأم في برلين ثم تولى الدكتور يوسف رعايته في بيروت ،وهو شاب يحمل طموح الشباب العربي المعاصر وتمرده وقلقه وثورته ولا أدل على ذلك من رفض يوسف دراسة الطب كجده ورغبته في دراسة الموسيقى والصاخبة منها وهو كغيره بحلم بالهجرة في إشارة من الكاتبة إلى راهن الشباب العربي الذي يحلم فقط بالهجرة فرارا من واقع إشكالي مسدود الآفاق، وقد وقع يوسف الحفيد في غرام السورية اللاجئة فرح التي أقنعته بالرحيل معا إلى ألمانيا مادام يحمل جنسيتها وليس إلى أي بلد عربي كما قالت. فالعالم العربي  في مخيالها مجرد كابوس وشجن ومتاهة لا منفذ فيها.

وتعيش في الحي كذلك هيام قارئة ورق التاروت وهي رمز للعالم الروحاني في تأثيره وتداخله مع المادي الحي عبر استدعاء الأرواح  ومعرفة المستقبل ، ثم الخمسينية إيمان المطلقة أم البنات الثلاث وعبر السرد الشجي والحوار الفاضح للنفس في توترها وشجنها ومكبوتها تتطرق الروائية  لنا عبد الرجمن إلى عذابات المطلقة في عالم عربي يدين المطلقة بل ويبتزها كما يفعل زوج إيمان الذي يأتي إلى دكانها صاخبا شاتما مهددا كاسرا زجاج المحل مانعا إياها من الزواج كرة أخرى وآخذا مبلغا من المال ككل مرة.

شخصيات جمعتها جغرافيا لبنان وبيروت تحديدا وجاءت بها الأقدار من أماكن شتى وكل واحد يحمل في جعبته قدرا وقصة يؤطرها الانهزام ،القلق ،الشجن، الرغبة ، نشدان السلام الدائم والحب الدافئ الدائم ،ولكن هيهات!

فدورا التي جاءت من أقصى الأرض تحمل في ذاكرتها ماضيا رماديا فأمها السمراء التركية غزلان ماتت في حادث ،تزوجت عن حب غير أن المجتمع  اللبناني همشها وألغاها سواء في الوسط البيروتي أو في الجبل في القلعة ،وجمانة القتيلة التي عاشت في باريس وعبر صديقتها بتول الشيعية تعرفت  على ثقافة دينية ولم تكن متدينة وانقلبت إلى عاشقة للتصوف ورقص الدراويش ودعوات مولانا في مسجد الحسين في القاهرة في إشارة إلى نزوع الروح نحو المطلق والمتعالي لم يستطع الإشباع المادي أن يفيض على الكيان الإنساني التوازن اللازم لمواصلة الحياة .

في حبكة أشبه بالبوليسية تجعلنا الكاتبة من بداية المتن السردي لهذا المنجز والمتخيل الروائي نتشوق إلى الاستزادة من أحداث الرواية وتفجر فينا مزيدا من الأسئلة عن هوية جمانة وهوية القاتل والمقصد من الجريمة وهوية عشاقها السابقين وهي تقرأ في المستوى العميق فجمانة وللاسم دلالته فهو  اللؤلؤ بما يعنيه من نفاسة وقيمة وندرة هي رمز  لبيروت وللبنان ،هي الجمال المستباح، لبنان الذي حاول اغتياله الكثيرون تارة في الحرب الأهلية وتارة أخرى  في الطائفية والانسداد السياسي والنفعية والانتهازية والفساد والتصحير ودلالة ذلك اختفاء الجسد وعدم تمكن المتلقي من الوصول إلى جواب بشأن الجثة المختفية لتتماهي مع لبنان ذاته. فكلهم يدعي وصل ليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وهو ما تكشف عنه الكتلة السردية الأخيرة رقم 27 في اعترافات القاتل المأجور الذي اغتال الجميلة جمانة في فراشها وانسحب بأوامر الآخرين في الداخل والخارج.

وبمزيد من المهارة والاقتدار والسلاسة تلجأ الكاتبة في الكتلة  السردية رقم 10 إلى استبدال الضمير الثالث بضمير المتكلم عبر استدعاء عشاق جمانة إلى الإدلاء باعترافاتهم وكلهم التذوا بطراوة الجسد ونعومته بين حسون الأبله والرجل الضفدع  وليست عبثا هذه النعوت القصدية ورجل الثلج  والوزير والعم ناصف الذي تشهاها ولكنه لم يقربها فهي زوج ابن أخيه في حين يبدو الغريب هو الوحيد الذي أحبها حبا عذريا في رمزية إلى  غربة من يحب الوطن دون أن ينال حقه منه.

وفي مستوى أكثر عمقا يمكن تأويل الرواية وهي رواية قابلة للصرف والتأويل بسبب انفتاحها دلاليا وصلاحيتها لذلك سواء من ناحية الحبكة أو البناء الحكائي وجماليات التلقي أو الرمز والمجاز واستدعاء التاريخ ففي المستوى البسيط الرواية مقطع فني لحياة طبقة متوسطة تعيش مخلفات الحرب اللبنانية ورصد ليومياتها وتداعيات ما يسمى بالربيع العربي في استدعاء مأساة اللاجئين السوريين  وفي المستوى الأعمق مقاربة فنية لوضع المرأة العربية  فالجمال مصيره القتل والإلغاء، إنه مصدر قلق وتوتر للمجتمع الذكوري والمرأة المطلقة مدانة مهمشة بدءا باللغة وانتهاء بالسلوك الذي تواجه به وهو سلوك عدواني متعال من قبل المجتمع الرجولي عبر استدعاء مأساة المطلقة إيمان ثم غزلان السمراء الفاتنة التي لم ترتكب جرما سوى ترك وطنها والزواج من والد دورا لكن المجتمع رفضها  وهمشها وانتهت ميتة في حادث وكأن الجمال والتوفيق وقرب وصول المرأة إلى المبتغى نهايته الخذلان والإلغاء والإفناء وهكذا هي نهاية دورا (هذه هي المعادلة الأكيدة، وهذا هو الواقع الوحيد لها ،أنه لا يمكن الحياة في وقت متأخر،ربما هذه هي الحقيقة وربما لا توجد حقيقة أبدا،إلا أنها جالسة على مقعد الطائرة المقلعة ليلا إلى برلين ،تضع السماعات في أذنها ،تنساب موسيقى «بودا بار» في داخلها وعبر زجاج النافذة الشفاف تشاهد جناح الطائرة يعبر كتلة كبيرة من غيم الشتاء) . فجميع الشخصيات النسوية في الرواية محاصرات بنظرة ذكورية من قبل مجتمع رجالي يتخوف منهن ومن نجاحهن وكأن الرجال أصيبوا بعقدة من المرأة ومن إحساس بالنقص إزاءها باستثناء الدكتور يوسف الذي يمثل الثابت إزاء المتحول والمرجعي في مقابل الطارئ  ،فجميع الشخصيات الرجالية مهتزة هشة في حين تبدو الشخصيات النسوية رزينة وقورة مكافحة على ما في الحياة من رغبات مكبوتة وأحلام مجهضة.

فهل هي قصدية من الكاتبة أم ترتيب أقدار في الكتابة ورثتها الروائية عن بنات جنسها في صراعهن ضد الذكورة منذ فجر التاريخ وصولا إلى تراثنا العربي الذي احتفظ لنا بأقوال مثل “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها” واللثغة لا تحمد في الرجال وتحمد في الحسان فالفصاحة في اللسان لا تناسب الفصاحة في الجمال والجمال ذاته مصدر قلق وتوتر للرجل إنه يصيبه بالارتباك وينزع عنه الحياء لعل كل ذلك ما تقوله الرواية ضمنا في مستواها الأعمق ناهيك عن مأساة الأوطان العربية التي صارت مقبرة للجمال وللنجاح وللألمعية .

رواية بسيطة بقدر ما هي مركبة وضحلة بقدر ما هي عميقة في لغة سردية شعرية في بعض مقاطعها وصوفية في مقاطع أخرى  وفي حبكة أشبه بالبوليسية لخلق الدافعية والتشويق وتلاعب بالضمائر وتقنية الارتداد لكسر خطية الزمن واستدعاء التاريخ في متاخمته للراهن بل وتأثيره عليه ليجد المتلقي نفسه متسلقا شرفات الدهشة منبها حواسه الفنية والفكرية لالتقاط الذبذبات الانفعالية والرؤى الفلسفية الصادرة عن كل شخصية وتحليلها، تلك الشخصيات التي جاءت من جغرافيا متباينة  لتستقر على أرض بيروت وهي تحمل لعنة الماضي ، فالآباء وهم يبحثون عن السلام والحب تركوا مصيرا مفخخا للذرية ،أليس لذلك علاقة بتاريخنا العربي العربي في سالفه وراهنه وهذه الخلاسية في تباين الجغرافيا والدين واللغة والثقافة أليس لها علاقة بواقعنا العربي في طموحاته الحداثية أمام ما يبدو جبر التاريخ  وملابسات الراهن؟

رواية شيقة مبنى حكائيا يتسلق المتلقي من خلاله لبناته السردية وشرفاته الدلالية على عالم مثقل بتبعات الماضي وسؤال المصير ،عالم يبحث عن الحب الدائم والسلام الأبدي في جغرافيا يبدو أنها غير مهيأة لذلك.

 

مقالات من نفس القسم