د.عادل ضرغام
في روايته (حجاب الساحر) يستند أحمد الشهاوي إلى معارف عديدة متنوعة بين التراث الفرعوني والعربي والإنساني، فالقارئ سوف يدرك أنه أمام كتابة تعنى بالثقافة الفرعونية بشكل خاص، وكأنه يؤسس ويؤيد بوضوح الفكرة القائلة بكونها أصل الديانات وجذرها الذي انطلقت منه جميعها، سواء أكانت سماوية أم بشرية، بالإضافة إلى مجمل الثقافات والمعارف. وسوف يتحير القارئ كثيرا حين يقف أمام هذا العمل في تصنيفه من خلال أسئلة تتولد تلقائيا نتيجة لهذه الحيرة، منها هل يطالع القارئ سردا أو حكاية أم يطالع مجموعة من المعارف منسوجة في إطار سردي؟ أو هل القارئ أمام بنية مشدودة للسرد أم ملتحمة بالشعر؟
في إطار البناء السردي هناك بنية سردية تتحرك وتنمو، أما في الشعر فنحن نتأمل من الثبات، وهذا لا يفضي إلى حركة، وإنما يفضي إلى استقصاء من خلال إسدال الصفات، والتمدد للإمساك بالحالة، وكل ذلك يمثل نزوعا لفتح دوائر صغرى، ثمّ تكبر هذه الدوائر، ومع نمو هذه الدوائر في كل حالة وصفية أو وقفة، تغيم الملامح نتيجة لتلاحم وتداخل الدوائر، فالصفات المسدلة – خصوصا في الجزء الأول من الرواية- ليست وسيلة إلى التحديد، وإنما هي وسيلة للتغييب، هناك محاولات جادة ومقصودة لتغييب اليقين بالواقعية، وتغييب – في الوقت ذاته- اليقين بعدم واقعيتها، من خلال تثبيت أطراف الحكاية بأوتاد بنائية تجعل ارتباطها بالواقع ذا مشروعية، ويظل القارئ أثناء القراءة موزعا بين النقيضين من دون أن يحسم انحيازه إلى جانب دون آخر.
إن هذا التوزع يمارس دوره في تلقي العمل، ويمارس دوره في عمليات التصنيف والتسكين، فهناك دائما توجهان يشتغلان ضد بعضهما، الأول يتمثل في الحكاية التي تحاول التعبير عن نفسها من خلال مرتكزات واقعية تشدها للواقع وتُجذّرها فيه، والآخر ينمو في اتجاه آخر محاولا الانفلات من هذا التحديد الواقعي، ليضفي على الرواية مجاوزة واضحة والتحاما بالمعارف في مناح عديدة. في الأول تتشكل شخصيات الحكاية من لحم ودم، ونزوع إنساني نحو الحب والكره والحسد، وفي الآخر هناك محاولة للتعاظم والاندياح والخروج من محدودية الواقع إلى أبدية الزمن، ومن البشري للملائكي أو الإلهي.
فالشخصية الرئيسة (شمس حمدي) شخصية واقعية، تتأسس واقعيتها من خلال وجود الأب والأم وبناتها والزوج والحبيب، ومجمل الشخصيات التي تشدها إلى الواقع، ولكنها في صفحات الرواية تتعاظم على هذه المحدودية، فتغادر بشريتها وتلتحم بالفكرة والمعرفة في انفلاتها من الزمن وأشكال قياسه المعهودة سواء في الفصول الأربعة أو تناوب الليل والنهار، فتتمدد خارج هذا الإطار الذي يصيب الكائنات لتلتحم بالأبدي والإلهي.
وتسهم الصورة المؤسسة لأحمد الشهاوي في نفي الغرابة عن هذا العمل، فالقارئ في تلقيه للرواية لا يستطيع- حتى لو أراد- أن ينفي المتخيل المرسوم لمساحة اشتغال الكاتب، واهتمامه المرتبط بالتصوف، ونزوعه إلى تمثل نماذجه شعرا ونثرا في منجزه الكتابي، فتؤثر هذه الصورة في معاينة البطل عمر الحديدي، وإسدال مساحات من التداخل والترابط بينه وبين المؤلف الفعلي، بالإضافة إلى إشارات واقعية تؤيد هذا الترابط، كالإصرار على التعلق بالخواتم، وحديثه المفصّل عنها مشيرا إلى أنواعها وأشكالها ودورها في الوقاية من الحسد، أو الإشارة إلى محل الأشجار وصاحبه شقيق الروائي بهاء عبدالمجيد.
تغييب الواقعي بالمعرفي
السمة الفاعلة في الرواية تتمثّل في توزّعها بين الواقعي والتعاظم أو الاندياح عن هذا الواقعي، فالقارئ للرواية يقابله تركيز على الشخصية الرئيسة (شمس حمدي)، ولكن هذا التركيز لم يؤد إلى التحديد، بل إلى التغييب، فالتحديد سجن كاشف عن المحدودية، ولكن التغييب له دور في إضفاء هالة من القداسة، فيجد القارئ نفسه موزّعا بين اعتبارها امرأة من لحم ودم أو فكرة خارجة عن حدود الحس والإدراك، وتتحوّل من المحدود إلى اللامحدود، فالشخصيات في هذه الرواية- عمر الحديدي أو شمس حمدي- شخصيات سابحة في فضاء كوني أعلى بالرغم من المحاولات العديدة التي اعتمدتها الرواية للانضواء داخل حدود الواقع، سواء فيما يتعلق بالسارد أو المسرود عنه.
فالرواية لا تقدم لنا- حتى في حديث السارد بشكل مباشر-سردا، وإنما تقدم لنا معرفة مبنية على وعي مكتمل قائم على المعاينة، وتكرار المعاينة، فالنص لا يسرد حدثا، وإنما يؤسس لدلالة الحدث، ودوره مفردا أو مكرّرا في إضافة زحزحة عن المادي أو الواقعي بشكل عام. وأول شيء يقابلنا للكشف عن هذا التغييب وتلك الزحزحة يرتبط بالصفات التي تنفي عنها المحدودية، ففي النصف الأول من الرواية هناك حديث طويل عن السمات الفارقة التي تجعلها بعيدة عن النمطية أو الواقعية، مثل التعدد في قوله (يتعامل معي الناس على أنني امرأة واحدة، ولكنني في الحقيقة متعددة، كثيرات في امرأة)، أو في قوله (حياة شمس حمدي خصبة وثرية في تنوعها، فهي امرأة تظهر كل ليلة وكل نهار في شأن، إنها نساء عديدات، وليست امرأة واحدة تكرر نفسها).
يؤسس الجانب المعرفي من خلال هذا الاختلاف والبعد عن الواقعي توجها قائما على التمدد الزمني، بشعورها من خلال الانقسام الذي تعانيه بأنها (سخمت) الإلهة المصرية أو إيزيس، أو بكونها تمثل البداية الأولى (كأنها نون) على حد تعبير النص الروائي. ولا يتحقق هذا التمدد إلا من خلال الاشتغال على أبدية الزمن، فالزمن في ظلّ هذا الترابط بين البشري والإلهي أو في إطار هذا التمدد ليس ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وإنما يشكل لحظة واحدة ممتدة. فكل الآليات التي تقدمها الرواية قائمة على فكرة التمدد والتناسخ وفق قانون المحبة والانسجام والانقسامات المتعددة المتوالية التي تتوالد بشكل طبيعي.
يكشف عن ذلك الفهم شيئان، الأول يتمثل في الإهداء إلى الابن أو إلى الذات في الوقت نفسه من جانب، وتشابهه أو تطابقه مع الجملة التي تطلب شمس حمدي منه أن يكتبها على قبرها من جانب آخر، ففي قوله (ضع بنفسجة على قبري كلما طلعت شمس، وستأتيك الشمس كعادتها معك)، هناك تداخل بين الجدة والابن والحفيد والمحبوبة شمس حمدي، وهذا التداخل يهشم تراتبية الوجود المادي الطبيعي، ويهشّم طبيعة العلاقة بين السارد الفعلي في النص والمرأة شمس حمدي، ويظل هذا السؤال حاضرا: هل تمثل علاقة حب وعشق؟ أم علاقة تتسامى على هذا التحديد، لتصبح علاقة وثيقة الصلة بتشكيل الفصائل الحياتية في إطار جانبي الخير والشرّ وانشدادها للارتباط بالمعرفة.
أما الآخر فيتمثل في الإشارات الكثيرة إلى خط الاستواء، أو إلى حادثة خط الاستواء، فهناك نقطة عند خط الاستواء يمكن أن يتولّد منها الكائن الحي توالدا طبيعيا، فكأن هذه المرأة المنقسمة على ذاتها تمثل البداية، وتمثل الامتداد من دون أثر للزمن عليها.
الجانب المعرفي له تأثير كبير في تحديد وتنميط الشخصية الرئيسة في الرواية، للخروج بها من واقعيتها إلى كيان أكبر يهشم هذه الواقعية، فالإشارة إلى خط الاستواء إشارة إلى غياب الزمن في تمدده الطبيعي، ففي قوله في النص الروائي (ظلت الشمس تقف فوق الخط الوهمي للاستواء على مدار سنتين كاملتين) تتجلى إشارة واضحة لاختفاء ظل الإنسان، لأن الشمس تكون فوقه بشكل عمودي، ويمكن الاستغناء عن الساعة، وهناك إشارة إلى هذه السمة في تنميط شخصية شمس حمدي في عدم احتياجها أو كرهها للساعات في منزلها. وفي ظل هذا التوجه والإلحاح عليه ليس هناك فارق كبير بين الفصول، ويتولد شعور بالأبدية، لأن الزمن أبدي مقدس، أما الليل والنهار أو تعاقب الفصول فهي أدوات للقياس.
كل هذا التنميط يحعل الارتباط بالإلهة (سخمت)، أو (إيزيس) مبررا، حتى في وجود المرض الخاص بالانقسام الذي يطل في النص الروائي في إطار اليقين أو عدم اليقين. ولكن النص الروائي لا يجعل المتلقي- ربما لزحزحة اليقين- يقرّ بهذا الاختلاف، فهناك دائما تذكير بالواقعية حتى في ظل وجود الإشارات إلى عالم السحر والحسد، ومحاولة مقاومته كأنه إطار معرفي قائم على الهوة أو الفجوة بين الواقعي والخيالي، فيشدنا ربما بتوجهات مقصودة لتجسير هذه الهوة من خلال جذر واقعي يوهمنا بالواقعية، والإيمان بهذا التداخل بينهما.
فالرواية موزّعة بين الجانب المعرفي السابق، وجانب الحكاية التي يحاول الكاتب إسدال قواعدها عن عمد. فتجربة مثل استئصال الرحم لشمس حمدي- وهي إشارة تجعلها تنفتح على الأبدي والإلهي- لا يمررها النص الروائي بشكل بسيط، وإنما يلحّ- وكأن في ذلك إثباتا للواقعية- على ذكر أسماء النساء اللواتي جمعتهن شمس حمدي (سراري مرسي الدين، وعزة حداد، وماجي الشبراوي، ورشيدة السبع، ووداد كريم الدين، ونعيمة الإدريسي، وعفت إبراهيم، ورشا الزعيم) للحديث عن هذه التجربة، وإسدال صفات خاصة لكل واحدة منهن تجعلهن مشدودات ومرتبطات بالواقع. يضاف إلى ذلك مجموعة الشخصيات أو مشايخ السحر والربط وصناعة الحجاب مثل محمد عبيد، وفتحي الخرتش، والشيخ الزيادي أو العمودي اليمني، أو حديثه عن الأهل والأصدقاء أو الأشقاء في القرية، أو تصوير الصراع بين شمس حمدي وشقيقتها وزوجها، بوصفهما يمثلان جانب الشر في ظل ذلك الصراع.
ولكن كل ذلك الجانب الواقعي لم يفلح في تشكيل سيادة أو هيمنة لافتة، في مقابل الخطاب المعرفي، فقد ظل هذا الخطاب المعرفي أكثر هيمنة، فالسارد يقول عن نفسه (لأن رأسي لا يعمل إلا بوقود المعرفة)، ويؤيد حضور الجانب المعرفي غياب السمت الروائي الكلاسيكي الخاص بالشخصيات، وغياب التراتب، فليس هناك سوى شخصيتين حاضرتين بصوتيهما (شمس حمدي والسارد)، بشكل متواز. بالإضافة إلى هيمنة القطع والبتر في الإطار السردي للحكاية، فأي كلمة مثل (الخاتم)، أو (الأوشابتي)، أو (العنبر)، أو عن الدم بدرجاته قد تكون مثيرا للإيغال أو التورط بتقديم معرفة قد تبعد القارئ بشكل جزئي عن أطراف الحكاية بسبب المعارف العديدة الملتحمة والمنفتحة على السحر والتصوف والنساء والأماكن والآلهة.
وهناك جانب آخر يشارك في تفتيت هذا الإطار الواقعي بالرغم من قصدية وإرساء وتشييد جوانبه، يتمثل في أن هناك شعورا يتشكل أثناء القراءة أن الرواية ليست معنية بنسق الحياة، ولكن معنية ببوابات العبور نحو العالم الآخر، يتجلى ذلك واضحا في الفصول الأخيرة التي تكشف عن محاولة الاعتراف والبعد عن التدنيس، وكأن المحاولات السبعة التي عبر عنها النص الروائي هي محاولات للعبور الآمن نحو الجانب الآخر.
فقارئ الرواية سوف تقابله إشارات خافتة للتوجيه في تلقي العمل إلى كونه متجذرا في سياق ما بعد الموت، فالقراءة في “كتاب الموتى” أو “الخروج إلى النهار” و”متون الأهرام” أو نصوصه على حد تعبير الرواية في قولها (فأنا بها أعرف من أكون، وأفكّ بها غموضي واضطرابي الشديدين اللذين يرافقانني، وأنا أعبر العوالم والأبواب الغربية وكهوف الأسرار علِّي أجد السعادة التي لم أجدها في حياتي) كاشف عن محاولات العبور إلى العالم الآخر، تقول الرواية في إطار كاشف عن هذا المنحى (هي مقدسة عندي، ولم أدنسها يوما، وعليك أن تجتاز معي سطرا بسطر، وليس فصلا بفصل، كي تشاركني الكتابة، والخروج بشمس إلى نهارها الغائب).
في ظل هذا التأويل تتبدى الكتابة الروائية بوصفها سبيلا للاستعادة وإضفاء الشعور بديمومة الوجود، فكل المعارف التي قدمت في نص الرواية من خلال الكتب التراثية، أو كتاب الموتى (الخروج إلى النهار)، أو كتب التصوف أو السحر والديانات الفرعونية تشكل معرفة ذات خصوصية مرتبطة بالرحلة والبحث، ومحاولة الوصول، لأننا- بالرغم من كل إيهامات الواقع التي يقدمها النص الروائي- لسنا في إطار حياتي، ولكن في إطار برزخي، أقرب إلى الحساب والتضرع إلى الإله.
يؤيد ذلك التوجه ويجعله أقرب للقبول في تلقي العمل أن هناك أفقا مفتوحا في نهاية الرواية ناتجا عن الغياب، فكل المحاولات التي شكلها النص الروائي لم تشر إلى شفاء نهائي، أو إلى راحة من السحر، فقط تفضي إلى سيل من المحاولات للتخطي أو الوصول أو العبور، حتى في ظل المحاولة الأخير خارج حدود الوطن إلى اليمن وجزيرة سقطرى، ودهنها بالعنبر وشجرة دم الأخوين، لم يكشف النص الروائي عن شفائها أو عدمه، فقط يلمح القارئ أو يشعر بطبيعة الراحة التي وصلت إليها، لانتقالها من مكان إلى مكان.
فالإطار الواقعي بالرغم من هيمنته ووجوده الفعلي، في إطار جدل العلاقات والخلافات العائلية، وعدم التكيف بين شمس وأمها من جانب، وبينها وبين شقيقتها وزوجها من جانب آخر، يظلّ وجودا هشا، أو وسيلة لا تكفّ عن الإشارة إلى الجانب المعرفي المملوء بالأساطير، والمشدود حتما إلى فاعلية النسوي واستحضاره في بؤرة التركيز، واستمراره فاعلا في اللحظة الآنية، وفي لحظات سابقة من خلال أسطورة إيزيس وأوزريس. وهنا تتجلى الكتابة الروائية ليس بوصفها استعادة لشمس حمدي، ولكن بوصفها وسيلة لاستمرار حياة السارد بشغفها القديم، تقول الرواية على لسانها بعد استئصال الرحم، (وطلبت من كل من بالغرفة أن يقبلني، فالقبلات تعيدني إلى الحياة)، فكأن الرواية تلحّ على الأسطورة بوجه جديد.
بنية السرد والفاعلية النسوية
إذا كانت الرواية تلحّ على إضافة أو أسطرة لامرأة وتحيلها إلى إلهة، فإن ذلك يأتي مرتبطا بالإطار المعرفي من جانب، ويأتي مولّدا من حدود البنيات السردية التي تشكل العمل من جانب آخر، فالإطار المعرفي يقدم بوصفه جزءا من نسيج الحكاية، وليس معطى خارجيا مضافا. فمعاينة النص الروائي ببنياته السردية تشير إلى أن هناك توجها خاصا يؤسس لفاعلية المشاركة في صنع وصياغة الحياة بالنسبة للأنثى أو للنسوي في تجليه المعاصر، خصوصا في تعارضه مع خطاب ذكوري مضاد، سواء في اللحظات القديمة أو في اللحظات الآنية.
يتشكل هذا الخطاب المضاد أو هذه النظرة الجديدة من خلال هدم الآني واستعادة بعض ملامح التجلي القديم البرّاق، حيث كانت المرأة قطاعا عريضا من الآلهة في الديانات المصرية القديمة، وإن كان ذلك لا ينفي وجود النظرة المقابلة في النصوص القديمة على حد تعبير نص الرواية، ففي الجملة المكتوبة في غرفة دفن خوفو التي تقول (الموت سيقضي بجناحيه السريين على من يدنس تابوتي أو يعبث في قبري متجردا من ملابسه، خصوصا إذا كان المزعج أنثى)، نلاحظ أن هناك نظرة متحيزة ضد المرأة.
إن النظرة المتحيزة تجاه الأنثى في الجملة السابقة تتساوق مع ما قدمته الرواية من مقارنة بين موقف نساء الثلاثاء اللواتي جمعتهن شمس، وطبيعة نظرة كل واحدة منهنّ إلى تجربة استئصال الرحم، حيث كشفت عن رؤية تسدل التقسيم والتحيز منطلقة من التصنيف البيولوجي في مقابل رؤية شمس حمدي، فإذا كانت في منطقهن جاهزة انطلاقا من تصوّر قديم، فإنها في منطقها لكونها لا تنطلق من توجه بيولوجي دينامية ثقافية، ومن ثم فهي مرتبطة بالفاعلية والتأثير والمشاركة.
وقد كشف النص الروائي عن الفاعلية والتأثير من خلال المشاركة، فمن خلال التأمل المستمر لبنية السرد والأصوات السردية التي تحمل النص الروائي، يتكشّف للقارئ مناح دالة على هذا التوجه. فالرواية لا تسدل الصفات الأسطورية على الشخصية النسوية (شمس حمدي)، ولكنها بالقدر ذاته تسدل قدرة مساوية على السارد، وكأنهما روحان اتحدتا في المكانة والدرجة والمعرفة، فالرواية ليست عن شخصية وحيدة، بل عن اثنتين. فمعاينة الصوت السردي في الفصول السبعة والعشرين تكشف عن هذا الازدواج، وعن تلك المشاركة.
إن بداية السارد تبدأ من صوت السارد عمر الحديدي، ولكنه يجعل لصوتها الفضاء الحقيقي والمهيمن، حتى في إطار وقوفه عند جزئيات خاصة به، مما يكشف عن توحد في الصوت. وهناك في إطار هذه الجزئية ظاهرة تكررت أكثر من مرة، من خلال الأقواس التي تفتح في البداية، ولا تغلق حتى نهاية الفصل. ففي أي فصل من الفصول التي يسردها عمر الحديدي- وهي النسبة الأكبر مقارنة بالفصول التي تسردها شمس حمدي أو الفصل الذي يسرد بدايته الشيخ محمد عبيد- هناك أقواس تفتح ولا تغلق. فالبداية غالبا تكشف عن شخص يتحدث عن امرأة، وحين يبدأ في إعادة الحكي، يتشكل التوحد، فيصبح الصوتان صوتا واحدا، وهناك فرق بين مراقبة شخص والتعبير عنه، وبين التوحد معه والمشاركة في تشكيل وإنجاز العالم الروائي ومقاربة الوجود.
فالحال الأخيرة في ظل التوحد تجعله جزءا منه متماهيا معه، ولهذا فقد ظل صوتها بالرغم من نسق الغياب مهيمنا، لا ينفصل عن صوته، ويشكلان معا وحدة صوتية، فليس هناك مساحة للتفرد في كل صوت، فقد أعطت الرواية للقسيمين إطارا خاصا للمشاركة. وربما تكون هناك جزئية بنائية أخرى ترتبط بالجزئية السابقة الخاصة بتوحّد الصوت السردي تدريجيا بين السارد والمسرود عنه، ليصيرا في النهاية صوتا واحدا، تتمثل هذه الجزئية في تغيير الضمير أو الصوت السردي في الفصول أو داخل الفصل الواحد في بعض الأحيان.
فالنص الروائي- انطلاقا من همّه الأساسي في استعادة القيمة والحضور وتفتيت وزحزحة المؤسس ضد كل ما هو نسوي- ليس معنيا بتأمل الذات لنفسها أو لأثرها، وإنما يرتبط النص في تشكيل شعور وسياق بفاعلية الأنثى، والإشارة إلى دورها في إحداث حالة من التغيير في المؤسس القديم، بإثبات دور لها في تفعيل حالة من الفرح لكل المحيطين، وقد تجلى ذلك كثيرا في النص الروائي من خلال إشارات دالة خاصة بالشخصية الرئيسة شمس حمدي.
فالتغيير بين متكلم وغائب على نحو متوال أو متتابع في الفصول أو داخل الفصل الواحد ليس عاريا من الدلالة، لأنه لا يكتفي بمعاينة الأثر الذاتي داخل الذات أو في إطار حدودها، وإنما يعنى انطلاقا من تثبيت الفاعلية برصد الأثر في السياق العام تجاوبا أو تنافرا. ونتيجة لفاعلية الرصد والتوحد من خلال الأصوات السردية المتوالية سوف تتشكل ملامح وجود جديد يكشف عن مغايرة في طبيعة الساكن والمتحرك، بين الأفق ومن يتحرك في إطار هذا الأفق، بين المقدس وبين من يلتمس القداسة بالاقتراب.
فالمرأة في هذه الرواية مثل الأفق، والسارد- مهما كبر دوره- ليس إلا جزءا داخل هذا الأفق، وفي ذلك مشروعية لنمو الدلالة تدريجيا من مادي ملموس إلى تكوين يتجاوز حدود هذا المادي، ويندّ عن حدودوه، ويعلو عليه، فكتابة شمس حمدي- كما تقول الرواية- تجعل من ذكرها معنى يُتداول، وتأخذه الناس عبرة ودروسا، وليس مجرد قصة تروّى يتسلون بها).
فالمرأة وفق هذا الفهم ترتبط بنسق علوي، يحاول السارد التماهي معه، لكي يصل إلى الوحدة والاكتمال، وإذا كان النص الروائي من خلال آلياته الفنية وضمائر السرد وتواليها من شكل إلى شكل يؤسس لهذا التوجه في إسدال الفاعلية، فإنه في الوقت ذاته يوجّه بشكل خاص إلى كون روائي نسائي خاص بالعائلة للإشارة إلى الفاعلية والحضور، فأبوها لم ينجب سوى بنتين، وهي أنجبت ثلاث بنات في ظل تغييب مقصود لوالدهنّ.
الرواية في ظل هذا التوجيه والاختيار تؤسس لفاعلية الأنثى، وكأن في ذلك التوجيه الخاص بحضور الإناث وغياب الذكور اختيارا محددا لقيمة هذا القسيم الذي يقع على عاتقه انحياز تاريخي ممتد، بل نجد في بعض أجزاء النص الروائي تحيزا ضد الذكور، ففي مشهد وجود شمس حمدي عارية داخل الهرم الأكبر، تقول الرواية (لا شكّ أن إيزيس غارت من بريتها، وإبداع تكوينها الجسدي خصوصا في مناطق النهود والحلمات والخصر، ولكن ما يهمّ إيزيس أن تستمرّ السلالة، وتبقى الألوهة في بنات جنسها، ولا تنتقل إلى الذكور من الآلهة، لأنها تدرك أن النساء خلقن لخلاص وحكم هذا العالم).
يأتي كتاب أو رواية (حجاب الساحر) لأحمد الشهاوي بعيدا عن التصنيف النوعي كتابا موازيا لكتاب الموتى أو “الخروج إلى النهار”، خصوصا في ظلّ اعتماده على آلية التكرار في مقاربة الموقف والحوادث، وفي ظل توجهه في إسدال تداخل العوالم بين الواقعي والخيالي والعجائبي، مما يشير إلى ارتباط واضح وأزلي بين الحياة التي نعيشها، والعالم الآخر المخبوء الذي تشكلت نسخ كثيرة للكشف عنه، ولكنها بالرغم من تعددها تظل محصورة في إطار المقترح أو المتخيل المنفتح دائما للإضافة والتعديل طبقا للتكوين الثقافي وطبيعة النظرة إلى العالم والوجود.