د.مصلح كـنـاعـنة
هذه رواية كتبها شاعر، وليس أي شاعر، بل الشاعر الملقب بـ”أمير الشعراء الروس” وهو أشهر شاعر روسي على الإطلاق. والروايات التي يكتبها الشعراء لها طعمٌ خاص، فالحسّ المُرهَف للشاعر لا يفارق النص، وجنون الشعراء في عشقهم يأخذ أشكالاً من البطولة تتراوح بين البسالة والتهوّر. والغريب هو أنّ الروايات التي ألفها شعراء أجانب تحظى دائما بمترجمين من أشهر وألمع الأدباء العرب، فرواية “آلام فارتر” لولفجانغ جيته ترجمها الأديب المصري أحمد حسن الزيات، ورواية “كنديد” لفولتير ترجمها الأديب الفلسطيني اللامع عادل زعيتر، ورواية “ابنة الضابط” لبوشكين ترجمها الأديب والناقد وأستاذ علم النفس السوري سامي الدروبي (1921- 1976). ولذلك فإن هذه الروايات كما وُضِعَت باللغة العربية هي تحف فنية بالمعنى الحقيقي. وعلى الرغم من أن “ابنة الضابط” هي أكثر الروايات الروسية بساطة وواقعية، فهي في نفس الوقت ملحمة تاريخية ذات أسلوب شاعري مُعَتـَّق يجعلك تشعر وأنت تقرأها وكأنك تستمع إلى “حكواتي” يسرد قصة الزير سالم أو سيف بن ذي يزن في أحد مقاهي دمشق أو القدس أو بيروت.
لا يخلو كتاب أو مقال عن الأدب الروسي من عبارة ديستويفسكي الشهيرة: “كلنا خرجنا من معطف غوغول”. ومعنى هذه العبارة هو أن كل الروائيين الروس تأثروا برواية “المعطف” لنيكولاي غوغول (1809 – 1852) وهو أول وأعظم الروائيين الروس. بيد أنه لا يكاد أحد يعرف أن هذه العبارة مبتورة، وأن ديستويفسكي لم يكن في الواقع يتحدث عن غوغول وإنما عن بوشكين، فما قاله ديستويفسكي حرفيا هو:
“كلنا خرجنا من معطف غوغول. ولكن، ألم يكن معطف غوغول مَنسوجاً من قميص بوشكين؟ ألم يكن بوشكين هو الذي ألهم زميله الأصغر منه مواضيع رواياته، وبخاصة روايته الشهيرة “الأرواح الميتة”؟!”
وهكذا، وعلى الرغم من عظمة غوغول، فإننا نعرف (وبشهادة ديستويفسكي) أن بوشكين هو أول من ألف الرواية في روسيا، وأن كل من جاءوا بعده من الروائيين الروس العظماء تأثروا به واستعاروا من أدبه، ويكفي أن نذكر أن ليو تولستوي استلهم أفكار رائعته “الحرب والسلم” من رواية “ابنة الضابط” لبوشكين، وهي نفس الرواية التي اعتبرها تولستوي المثال الأعلى الذي حاول أن يتفوَّق عليه في روايته “القوزاق”.
وعليه فإن ما أقدمه إليك، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، هي رواية ذات أهمية في تاريخ الأدب الروائي العالمي لا تقدر بثمن. وهي رواية ألفها بوشكين عام 1836، أي قبل رحيلة عن العالم بعام واحد عن عمر لم يَتعدَّ الثامنة والثلاثين، حيث قـُتل في مبارزة بالسيوف مع شاب روسي آخر في خلاف على قلب فتاة، وكانت المبارزات من هذا النوع بين الشباب شائعة جداً في طبقة النبلاء في روسيا القيصرية، وقد علق عليها بوشكين نفسه قبل مقتله بعام واحد بقوله على لسان محبوبته في الرواية التي بين أيدينا: “ما أعجب الرجال! إنهم مستعدون، بسبب كلمة قد ينسونها بعد أسبوع، لأن يقتل بعضهم بعضا.” وعلى الرغم من حياته القصيرة، فقد كان بوشكين في حياته وأدبه انعكاساً حيّاً لوصول أفكار عصر التنوير في غرب أوروبا إلى داخل روسيا القيصرية، خالقة فيها موجة تنويرية ستنمو وتنتشر في النصف الأول من القرن التاسع عشر وترفـُد الحياة الروسية بضروب مختلفة من الإبداع الأدبي والفني والفكري.
لا أريد أن أبوح لكم هنا بتفاصيل القصة، بل سأكتفي بالقول أن بوشكين صاغ هذه الرواية استناداً إلى حكاية حقيقية اكتشفها فيما كان يُقلـِّب الوثائق لكتابة “تاريخ ثورة بوغاتشيف”، وهي ثورة عاتية اجتاحت روسيا وكادت تطيح بقيصرها، قام بها قاطع طرق مغامر حشد حوله آلافاً من قُطاع الطرق والمجرمين وآلافاً أخرى من الفقراء والمعدمين. ولكن الرواية ليست مجرد سرد لوقائع التاريخ، فبوشكين يخلط بين التاريخ الحقيقي والأحداث الروائية المتخيَّلة دون أن يُرجِّح كفة طرف على كفة الطرف الآخر، فلا هو يضع النص الروائي في خدمة التاريخ، ولا هو يجعل من التاريخ مجرد مِطيَة لخدمة أغراضه الروائية. إنه يجمع العنصرين في بوتقة واحدة بحيث يصبح الفصل بينهما مستحيلاً.
إنها رواية روسية بامتياز، ولذا فهي رواية عالمية بامتياز، والمترجم القدير سامي الدروبي يجعلها رواية عربية بامتياز.
(بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2009)