د. صلاح السروي
يقصد بتعدد الأصوات تحاور وتفاعل عدة جهات (شخصيات – فعاليات) داخل القصيدة، لا جهة واحدة. مما يؤدى الى الاشتباك والتداخل مع نوع أدبى قديم ومعروف وهو نوع “الدراما”. وقد يقصد الشاعر الى ذلك بصورة مباشرة، حيث ينص على مفردات معروفة وتسميات معهودة فى هذا النوع الأدبى. وقد تأتى تلك الوجهة عفو الخاطر ولا تتواصل فى باقى أركان القصيدة.
وتتأتى أهمية هذه التقنية من أنها تخلق عالما رحبا من تعدد الرؤى وتداخل التوجهات، التى يمكنها أن تكون متعارضة، على نحو متصارعة، أو متداخلة على نحو متضافر. فلا تحتكر وجهة واحدة توجيه الخطاب وتوجهات الرؤية داخل القصيدة. وهو مايتيح امكانيات أكبر فى البث الدلالى والرؤيوى للخطاب الشعرى، فضلا عما يؤدى اليه من خلق حالة من التشويق والاثارة وجذب الانتباه.
وتترامى تقنية المشهد الدرامى على طول قصائد أمل دنقل، إما بالنص صراحة على وجود جوقة وأصوات متحاورة أو متصارعة، كما فى قصيدة: “الحداد يليق بقطر الندى” وقصيدة: “أيلول” أو برولوج، (أى مقدمة درامية) يمكن أن يسميه “مزجا”، فى قصيدة: “سبارتاكوس” السابق الإشارة إليها، أو يسميه “ديباجة” (أى حاشية تزيينية وتقديمية)، كما فى مقدمة ديوان “البكاء بين يدى زرقاء اليمامة”، أو يسميه “بكائية” كما فى قصيدة “العشاء الأخير”. وذلك إما بالنص صراحة على هذا النحو المذكور، أو بوضع الأصوات الأخرى بين أقواس أو فى شكل أشطر، تبدأ بالشَرطة الدالة على طرف الحوار، كما فى باقى قصائده.
وفى كل الأحوال، فان التركيز على تقنية بناء المشهد، انما يهدف الى التأكيد على الطبيعة المشهدية (البصرية) للصورة الشعرية. ومن ثم، فعليتها وحقيقية تجسدها، بما لايجعلها قابلة للشك أو عدم التصديق.
يقول فى قصيدة “ميتة عصرية”، (ولنلاحظ دلالة العنوان) من ديوان “تعليق على ما حدث”(1971) :
“فتح المذياع .. واستلقى
وكان القدح الساخن..
فى وحدته المستغرقة
(.. يدخل الطيف الذى يهبط .. بغته .
يسكت المذياع .. سكتة)
– (موجز الأنباء)..
ألقت يده السيجارة المحترقة
صرت النافذة المنغلقة.
….
(يعبر الغرفة:
فوق الحائط الأزرق .. صورة ظلٍ يجلو تحتها خنجره .. مبتسما)
.. .. .. .. ..
مد ساقيه،
وكان الرعب فى عينيه
صار الصوت والموت
عدوا واحدا
منقسما” (8)
فهل يمكن حسبان هذا الا على أنه مشهد درامى، وما بين الأقواس إلا ارشادات مسرحية ؟؟؟، تؤدى فى النهاية إلى معنى توحد الطيف المرعب (الذى يشبه، من زاوية، طيف هاملت، فى مسرحية شكسبير الشهيرة، التى حملت العوان ذاته) مع صوت المذياع. فمع فتح المذياع يدخل الطيف ومع موجز الأنباء تصدر النافذة المنغلقة صريرها!! ربما كان ذلك بأنها قد انفتحت (أو أغلقت) بغتة، فيما يوحى بأجواء الرعب الغرائبية. وإذا بالطيف يعبر الغرفة (من تلك النافذة على الأرجح) ويجلس تحت “الصورة” يجلو تحتها خنجره، ويمكننا أن نخمن أن هذه الصورة ليست الا صورة الشاعر نفسه، وأن هذا الطيف ليس إلا الموت، إنه الموت المتسرب من المذياع. ولذلك يتمدد الشاعر مرعوبا، فالصوت – المذياع، والموت – الطيف، قد صارا عدوا واحدا وإن انقسم هذا العدو الى اثنين.
لقد أدت هذه الحالة المشهدية المرتكزة على التعين الحسى الملموس إلى طرح بالغ النفاذ لمعنى الموت المتسرب من المذياع ومن أنبائه الحاملة لأخبار الموت القادم، إنه موت “عصرى”، يتم بواسطة “المذياع” الذى يعد آلة حديثة(نسبيا)، وليس بواسطة السيف الصارم، كما كان الموت القديم.
هذا البناء المشهدى (الصامت)، لا يلبث أن يتحول الى ناطق مع المقطع الثانى من القصيدة .. قائلا:
” من ذلك الهائم فى البرية؟
ينام تحت الشجر الملتف والقناطر الخيرية
– مولاى : هذا النيل
نيلنا القديم
– أين ترى يعمل أو يقيم ؟
– مولاى :
كنا صِبْيَة نندس فى ثيابه الصيفية
فكيف لا تذكر؟ …(9)
حيث يتطور المشهد السردى (الوصفى)، السابق، الى مشهد سردى آخر يقوم على هذا الحوار التخيلى الغريب الذى تتشخص من خلاله مبررات هذا المشهد السابق. عندما يكاد الوطن أن يفقد واحدا من أهم روافد ومصادر الحياة فيه، انه “نهرالنيل” العظيم، بعد أن أضحى مجهولا ومتهما، من لدن ذلك هذا الحاكم (الوطنى!!)، ذلك الذى تناسى أنه كان واحدا من الصبية الذين كانوا يلهون ويأتنسون (يندسون) “فى ثيابه الصيفية”. ثم تأتى تلك العبارة الاستنكارية الملتاعة: “فكيف لاتذكر” ؟؟؟.
انه يحاور ذلك المتنكر لبلاده والجاهل بمعالمها. والذى يبدو، فى استعلائه، كما لو كان أجنبيا مستعمرا قمعيا، يسكب الاتهامات على كل من يقابله. وهو الذى يخاطبه الشاعر فزعا صارخا ومستنكرا، فى الآن نفسه: “مولاى !!”، معربا، بذلك، عن الرعب القاتل من هاجس ضياع أهم رافد لوجودنا.
وفى المقطوعة الثالثة يأتى مشهد آخر ملىء، بدوره، بالمفارقات الدالة، والتى تقوم بدور المعلق على – والكاشف ل – حقيقية المشهدين السابقين:
“ويلقى المعلم مقطوعة الدرس
فى نصف ساعة
(ستبقى السنابل
وتبقى البلابل
تغرد فى أرضنا فى وداعة)
ويكتب كل الصغار بصدق وطاعة:
(ستبقى القنابل
وتبقى الرسائل
نبلغها أهلنا فى بريد الاذاعة”.(10)
حيث تنبنى هذه المقطوعة / المشهد على مفارقة بالغة الجلاء تكمن فى تقنية يمكن تسميتها ب”التوازى العكسى” فتحول “السنابل” إلى “قنابل”، و”البلابل” إلى “رسائل” و”الوداعة” إلى “بريد الإذاعة”. واللافت أن الأطفال يكتبون هذا القول المناقض بالكلية، بصدق وطاعة !!. وأكاد أتصور أن (الصدق)، هنا، مرجعه إلى براءتهم، التى لا تقوى إلا على قول الحقيقة عارية. أما (الطاعة) فمردها الى أنهم لا يستطيعون إلا أن يكتبوا. كما لا تخفى علينا علاقة المضمرة بين هذا المشهد وواقع الشعب الفلسطيني الذى أصبح مشتتا، لا يجد أبناؤه من وسيلة للتواصل الا الرسائل وبريد الاذاعة.
وفى هذا المشهد الأخير تتكشف حقيقية المشهد الأول وأسباب حدوثه، وهو المشهد الذى يدخل فيه طيف الموت مع صوت المذياع . فصوت المذياع الذى كان هناك صوتا للموت المحتم، يصبح، هنا، صوت التشرد والضياع، الناقل للرسائل بعد أن داهمتنا القنابل.
وبين هذين المشهدين يقبع المشهد الثانى
كما يبرز فى هذاالمشهد، والمشهد الذى يليه، هاجس التشرد الذى قابلناه فى المشهد الثالث، فهو يعد نتيجة طبيعية لهما.
هكذا يتحقق لدينا بناء مشهدى درامى كامل فى هذه القصيدة، تطرحه هندسة جمالية على قدر كبير من الاحكام. فكل مشهد فيها يمهد للتالى عليه، وكل مشهد يشرح السابق عليه ويعلله. هذا البناء المشهدى الدرامى الذى ينطق فيه كل مشهد منفردا، على حدة، بدلالته الخاصة، ثم تؤدى المشاهد مجتمعة هذا (الكونشيرتو) الجماعى الدال.
يتواصل ذلك مع منحى مشهدى درامى آخر يرتد فيه الشاعر إلى التراجيديا القديمة، التى تفترض وجود الأدوار المتعددة، بما فيها دور الجوقة التى تحاور البطل، أو تصنع خلفية تأثيرية لحديثه، بغية زيادة التأثير والافعام. وهى الصيغة المشهدية التى نلمسها بوضوح فى قصيدتى: “الحداد يليق بقطر الندى” و”أيلول” ، حيث تفترض هاتان القصيدتان أنهما تؤديان على مستوى العرض المسرحى وليس، فقط، على مستوى القراءة. ف “الجوقة” تؤدى فى نفس التوقيت وبالتوازى مع “الصوت” على نحو يفضى إلى تكريس الدلالة وتكثيفها.
يقول فى قصيدة “أيلول”، التى جاءت على هذا النحو الكتابى:
“(صوت) (جوقة خلفية)
(1)
أيلول الباكى هذا العام هانحن يا أيلول
يخلع عنه فى السجن قلنسوة الاعدام لم ندرك الطعنة
تسقط من سترته الزرقاء .. الأرقام! فحلت اللعنة
يمشى فى الأسواق: يبشر بنبوءته الدموية فى جيلنا المخبول!
ليلة أن وقف على درجات القصر الحجرية …………
ليقول لنا: ان سليمان الجالس منكفئا
فوق عصاه قد حلت اللعنة
قد مات! ولكنا نحسبه يغفو حين نراه!! فى جيلنا المخبول
أواه.. فنحن فى أيلول”(10)
ان أيلول هنا ليس بعيدا عن دلالة “زرقاء اليمامة”، ولا عن الرؤيا الصوفية التى رأيناها فى قصيدة: “حديث خاص مع أبى موسى الأشعرى”، ولا عن نبوءات سبارتاكوس التى رأيناها فى قصيدة: “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”. ان نبوءة أيلول تكمن فى استيحاء الحكاية القرآنية – التوراتية عن الملك سليمان الذى كان يسخر الجان من خلال خلق حالة من الخوف والرعب لديهم، حتى اذا مات متكئا فوق عصاه ظلوا فى خوف منه، لأنهم لايدركون موته، ويحسبونه قد غفا.
فاذا جردنا المشهد فاننا نحصل على عنصرين متقابلين: أولهما الحاكم الذى يستخدم الخوف أداة لحكمه، والثانى هو هؤلاء المحكومين الذين يستمد الحاكم قوته وسطوته من مجرد خوفهم ورعبهم منه، وجهلهم بقوتهم وقدرتهم. وفى الوقت نفسه، جهلهم بكونه ميتا. وهى الثنائية ذاتها الشائعة فى شعر أمل دنقل. فهل الحاكم الواقعى ميت فعلا كما هو الحال مع الملك سليمان ؟ أم أنها النبوءة بموته القريب ؟
ان حديث (الجوقة الخلفية)، فى احدى امكانيات القراءة، هو الذى يمنح (الصوت) دلالته الأكثر قوة. فاذا اعتبرنا أن (الصوت) انما هو صوت الشاعر، فان (الجوقة) الخلفية لن تكون سوى صوت الجمهور – الشعب، المتسربل بالغفلة وقلة الحيلة :
“ها نحن يا أيلول
لم ندرك الطعنة
فحلت اللعنة
فى جيلنا المخبول
فنحن فى أيلول”.
وعلى جانب آخر، فان (أيلول) صاحب النبوءة، هذا، مضطهد ومحكوم عليه بالاعدام:
“أيلول الباكى هذا العام / يخلع عنه فى السجن قلنسوة الاعدام”.
شأنه شأن سبارتاكوس وزرقاء اليمامة، السابق الاشارة اليهما. واذا اعتبرنا أن “الرائى” و”الكاشف” هو المثقف الذى يعى مايدور حوله، لأدركنا حجم الفجيعة والنكران الذى تئن تحت وطأته الذات الشاعرة، بانتمائها الى هذه الفئة، وقد أسلفت الحديث عن “أزمة المثقفين” فى بدايات الستينيات.
هكذا تتبادل أجزاء القصيدة الأدوار والفاعلية. وفى الوقت نفسه، فانها تطرح وجهين لقراءتها : فاما أن تتم قراءتها على نحو رأسى، بحيث تتم قراءة الصوتين، كلا على حدة، كما قدمت آنفا، أو أن تتم قراءتهما على نحو أفقى، سطرا سطرا: بحيث تكون على النحو التالى:
“أيلول الباكى هذا العام ———- هانحن يا أيلول
يخلع عنه فى السجن قلنسوة الاعدام —– لم ندرك الطعنة”.
بما يجعل صيغة الخطاب الشعرى، ومدلوله، يختلفان الى حد بعيد. فيضحى المشهد قائما على فكرة الحوار المباشر بين الصوت والجوقة، خاصة أن هذا الحوار، عندئذ، سيفقد – جزئيا – تواتر القافية التى تمنحه قوة وجلال الصوت والشكل الشعريين. وسيفقد، كذلك، فاعلية تأثيره المعنوى والنفسى، على هذا المستوى الناتج عن التباعد والاستقلالية الظاهرية بين الصوت والجوقة فى الصيغة السابقة. وان كانت الجوقة تقوم بدور الخلفية التصويرية التأكيدية لما يقوله الصوت. ليكتسب فى الصيغة الجديدة تأثيرا وفاعلية جديدين ومختلفين، مؤداهما، الربط المباشر بين أيلول والجوقة، فلا يبدوان فى عالمين منفصلين. ويصبح دور الجوقة ليس دور المعلق المنفصل وانما دور المحاور الفاعل.
ففى السطر الأول تبدو الجوقة وكأنها تجيب نداء أيلول، وفى الثانى تعتذر عن عدم قدرتها على فهم النبوءة .. وهكذا. الى أن يصل الى أن يقول أيلول: “أواه”، متفجعا من انعدام قدرتنا على رؤية حقيقة موت الملك، فلم ندرك الطعنة، فتصيح الجوقة: “فنحن فى أيلول”. ومن هنا تنتقل الدلالة من أيلول الشخص الى أيلول الزمان – الشهر الذى يحمل نبوءة الموت الكامن فى المظهر الحى.
وعبارة “فنحن فى أيلول”، التى تنطق بها الجوقة، معبرة عن التماس الأعذار عن عدم قدرتها على الرؤية والفهم، يمكن كذلك أن تحيل الى أن هذا الشهر (أيلول – سبتمبر) انما هو شهر الخريف الذى يمكن أن يلتبس فيه الموت المؤقت للطبيعة بالموت النهائى، فلا نكاد نعرف حقيقة المعنى الذى يدل عليه سقوط الأوراق.
كما أن أيلول، هذا، ماهو الا الشهر التاسع حسب التقويم الفينيقى، وتسميته ترتكز على النسبة للاله الفينيقى “ايل”، وهو ما يجعل صوته بمثابة النداء الأسطورى المقدس الذى يحمل دلالة كونية، يليق بها اسناد النبوءة اليه، ويصبح سجنه حدثا جللا، بما يحيل الى عظم جريمة سجن المثقفين، حسب التخريج الدلالى السابق.
وجدير بالذكر أن نبوءة “أيلول” الدموية هذه قد كتبت فى شهر سبتمبر عام 1967، وليس فى سبتمبر1970 ، وهو التاريخ الذى شهد الأحداث التى عرفت باسم “أحداث أيلول الأسود”، (عندما هاجمت القوات الملكية الأردنية معسكرات الفدائيين الفلسطينيين وذبحت أعدادا كبيرة منهم). وهو أيضا، الشهر نفسه، من العام نفسه، الذى توفى فيه الرئيس جمال عبدالناصر!!! بما يخلق مفارقة أخرى لافتة ومدهشة بقوة.
هكذا تقدم تقنية تعدد الأصوات والمشهد الدرامى امكاناتها المتعددة فى خلق أجواء تأثيرية استثنائية، بما يجعلها قادرة على نقل الحادثة الشعرية الى أجواء نفسية ومعنوية جديدة، كما تضيف امكانات هائلة لتأويلها.