تصريــح بالغيــاب، تصريــح بالحضــور

تصريــح بالغيــاب، تصريــح بالحضــور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

د. مارى تريز عبد المسيح

تعودنا قراءة الكتابات المتصلة بوقائع السيرة الذاتية، بوصفها إطارا مرجعيا تروى وقائع تمت فى مرحلة زمنية لها بداية ونهاية. وعادة ما يكون لتطور الحدث بنية فوقية تكشف عن تطور وعى صاحب السيرة، ففعل الاستعادة يفضى إلى تعرف الراوى على ذاته الفاعلة. فتنطوى السيرة الذاتية على استراتيجية سردية تثير فى القارئ الرغبة فى التأويل للوصول إلى مستوى من الوعى يتوازى ووعى السارد، وإن لم يتطابق معه. ففعل الكتابة/ القراءة فى هذه الحالة يتجاوز حدود الذاتية الضيقة، لتغدو السيرة الذاتية بنية تؤسس للممارسة البين ذاتية –  اي تغدو الكتابة الفضاء الذي تلتقي عنده ذات الراوي وذات القارئ – مما ينشئ علاقة تبادلية بينهما تختلف وعلاقة التماثل التى فرضته الكتابات السابقة والتى توسم بالرومانسية. تلك العلاقة البين ذاتية تشحذ إدراك القارئ عبر ممارسة التأويل. والتأويل يستدعى بدوره تبين المفارقة التى تنطوى عليها الكتابة. ففعل التعرف يدعم تجربة الكاتب والقارئ المشتركة فى محاولة للتوصل إلى العام عبر الخاص

وفى رواية ” تصريح بالغياب ” لمنتصر القفاش، نحن إزاء تجربة جديدة فى كتابة وقائع ذاتية، فهناك فصل بين الذات الفاعلة المعايشة للأحداث والذات الأخرى الراوية. وبالفصل بين الذات الراوية – التى تبتعد عن الذاتية – والذات الفاعلة التى عودتنا السير الذاتية السالفة التركيز عليها، تنشأ بنية سردية قوامها علاقة بين ذاتية، أى علاقة تبادلية بين الذات الفاعلة والذات الراوية. ويأتى إحلال البين ذاتية بديلا للمنظور الذاتى، بناء على مفارقة تنطوى على استحالة كتابة الذات أو تجسيد الهوية دون التعرف على الآخر الذى تحتوية. تلك المفارقة تؤسس للبنية السردية، ويترتب عليها تأويل الحدث. والتعرف على المفارقة التى تنطوى عليها الأحداث السردية يشحذ الإدراك مفضيا إلى الالتزام بموقف أخلاقى. فالإدراك يؤدى إلى تأويل الأساس المنطقى لعملية السرد. والتأويل يتضمن موقفا أخلاقيا فهو اجتهاد فى إطار علاقة بين ذاتية – أى علاقة تبادلية بين الذات الفاعلة والذات الراوية. ويعد ذلك موقفا أخلاقيا لأنه يقاوم مركزية الذات، فيغدو السرد فعلا استعاريا لا يعبر عن الذات الفاعلة فحسب بل يكنى عن تجربة مشتركة تتلاقى فيها الذات الفاعلة والراوية مع القارئ لتغدو تجربة بين ذاتية.

ونتبين موضوع الذات الراوية بوصفها محاورا للذات الفاعلة من تباين الأزمنة فى السرد. ويباغتنا هذا الاختلاف فى مستهل المروية. فولوجنا إلى العالم السردى يسفر عن تداخل الأزمنة فالمجند بوصفه الذات الفاعلة، الذى انتهى من تأدية الخدمة العسكرية يعود إلى موقع الخدمة لاستعادة مخطوطة روايته، بينما يستقبله الضباط هناك بوصفه المجند الجديد القادم توا. وكأن فى استعادة مخطوطته إعادة لبدايات أحداث الماضى. والمفارقة تذيب الفواصل بين الأزمنة، بينما تظل تؤكدها ازدواجية التواجد فى الزمنين: الماضى/ الحاضر. فاستعادة الماضى وفقا للذات الراوية بمثابة حضور، مما يثير التساؤل حول مصداقية الحضور. فهل الحضور تواجد آنى. أم استعادة لأزمنة مضت؟.

يتبين لنا من نتف الأحداث المروية، ومن مقاطع الأغانى التى تبدو فجأة، وفى المحاولات المستمرة لفتح الأبواب (فصل 2) إن الوقائع تفتقر إلى بدايات، فما البداية سوى إشارة تحفز الرغبة فى الاستعادة، استعادة بدايات أخرى. فالحضور لا يتحدد  بالبدايات. بل يتحقق بإدراك اللحظة فى علاقاتها بالأزمنة الأخرى، وإن كنا قد تعودنا فى الروايات المعاصرة على النهايات المفتوحة، فما نتنبه إليه فى هذه المروية هو البدايات المفتوحة. ومن هذا المنطلق تتكامل البنية السردية، حيث تتلاقى النهاية والبداية فى المفتتح، وتتلازمنا فى مواقع أخرى حتى النهاية.

وازدواجية الزمن ليس من شأنها التغريب المفرط، أو التأكيد على التتابع الدائرى التكرارى. فلنذكر أن إزدواجية الزمن جاءت نتيجة الفصل بين الذات الفاعلة والأخرى الراوية، ولا يأتى هذا الفصل كإحدى آليات المراجعة الذاتية، فقد يعنى ذلك المفاضلة بين إحداهما. ولكن فى فقدان البدء، إلغاء للأوليات، فمن استهل المروية الذات الفاعلة أم الذات الرواية؟ نفقد دائما الخطوة الأولى، وهناك مشهد سردى يكنى عن هذا الفقدان وهو المشهد الذى يصور الذات الفاعلة بوصفها مجندا حديث التجنيد، لحظة التقدم لاستلام العمل، فنستمع إلى وقع أقدام الصول الذى يتقدم، أما المجند فوقع أقدامه مفصولة عنه. فكل لحظة حضور تنبئ عن شعور بالغياب. تلك المفارقة الرئيسية التى تتردد فى الرواية، لا تعمل على التشكيك فى وعينا بالحضور، ولكن تنبهنا إلى أن الوعى بالأنا لا تكتمل سوى بقياسه بفعل الآخر. ويكتمل هذا المشهد بوصف المكان المحيط. فالبنايات تبدو وكأنها اقتلعت من أمكنة متفرقة، فكذلك المكان يستمد وحدته العضوية من انتمائه إلى أمكنة أخرى. ينتهى المشهد بدخول الراوى فى البناية، بينما يبقى ظله فى الخارج، فالاندماج فى نسق مؤسسى يكنى عنه التشكيل المعمارى، لا يعنى الإندماج التام، يظل هناك جزء من الذات منفصلاً يأبى الانخراط فى النسق.

وتتأكد لنا العلاقة بين الذات الفاعلة والمكان فى الفصل الثالث. ففى تحديد علاقة الذات الفاعلة بالمكان محاولة لإيجاد موضوع فيه، وهى محاولة تبين العزوف عن الانتساب إليه. فأول وعى بالذات يأتى عن الوعى بالاختلاف، ومع ذلك فالوعى بالاختلاف لم يقصد به العزلة، بل على العكس فالاختلاف هو طريق للائتلاف، فالذات الراوية لا تتمحور حول الذات الفاعلة ككيان مطلق، بل يتعذر عليها متابعتها بمعزل عن موضع الآخرين، فهناك مفارقة استحالة رؤية موقع الذات بمعزل عن موضع الآخر، تدفعنا للتساؤل عن أحقية اعتبار الذات الراوية المرجعية الرئيسية للذات الفاعلة المروى عنها.

وتتعدد العلاقات بالآخر، وتتشعب عبر فصول الراوية لتشمل الجنس الآخر فنحن نتابع الخط السردى لا فى تطوره الزمنى حيث تتجاور الأزمنة فى بنية القص ولكن نتابع السرد فى تطوره العلائقى فنحن نستمع إلى رواية عن ذات، ثم ذوات، ثم ذوات أخرى، وكأن الحَبَّ ينفرط للكشف عن تعددية الذات كلما تكشفت تعددية الآخر، والمقدمة المأخوذة عن لسان العرب تقول: “والجيش نبات له قضبان طوال خضر مملوءا حبا صغيرا، والجمع جيوش” فتكشف تلك العلاقة الحوارية بين الذات الفاعلة والذوات الأخرى، يؤسس للعلاقة البين ذاتية التى يقوم عليها فعل الكتابة/ القراءة. ففعل الكتابة/ القراءة يكشف عن تلك العلاقة وينغمس فيها فى آن. والآلية المستخدمة للفصل بين الذات الراوية والذات الفاعلة، ليست بمؤشر على الانقسام بل هى آلية تساعد على إدراك لا مركزية الأنا وتعدديتها، ومن قدرتها على التفاعل مع الآخر.

والاختلاف القائم بين الذات الفاعلة والذوات الأخرى إنما يدل على التنوع وإن كان النسق المؤسسى يجمع الأفراد قسرا. والمفارقة هنا تكشف عن استحالة الاتحاد وفقا لقواعد منصوص عليها، عادة ما تجمع لتفرق، فهى تجمع النساء والرجال وفقا لنسق يفرق بينهما. ولكن معايشة الاختلاف بتتبعنا التداول اليومى بين الأفراد ينقلنا من الصورة العامة للآخر التى تم تنميطها من قبل النسق المؤسسى، إلى الصورة الخاصة الناجمة عن فعل الكتابة/ القراءة والتى فى سبيلها للتشكل. فالاختلاف – وإن أكدت المواقع التى تبعد الرجل عن المرأة مثلما فى دورات المياة المنفصلة التي تعمل على تدعيمه، وإن شرعته خصوصيات النساء التى تثير فضول الرجال – هذا الاختلاف يمكن تجاوزه بمعايشته فى فعل الكتابة/ القراءة.

فالكتابة/ القراءة تثير التساؤل حول غاية الانفصال وغياب الحوار. ففى الفصل السابع حينما يبدأ الحوار بين مدرس العربية والطالبات فى مستهل الدرس، يسرى الاطمئنان في النفوس حينما بعلن المدرس بأن الحصة الاولى هي الاخيرة. تحديد البدايات والنهايات هو الأمان الوحيد، وهو خديعة متفق عليها بين الأطراف كافة حتى تحديد هوية الآخر تتخذ شكل الخديعة المتفق عليها، فقد ظل المدرس يعمل بوصفه بديلا لمدرس وهمى آخر، وكأن هناك استحالة فى تقبل الآخر بوصفه حضورًا دائما، ولا يجوز تقبله سوى كمعبر لآخر، أى حضورًا يمهد لبداية جديدة تتمثل فى المدرس الحقيقى الذى يعمل المدرس الاحتياطى نيابة عنه. والمفارقة بين الأصلى والاحتياطى تعود بنا إلى التساؤل الذى يتكرر بصور مختلفة عن أسبقية النهاية أم البداية فى تطور الحدث، التساؤل بدوره. ينطوى على آلية تحفز فعل الكتابة/ القراءة، ومن ثم تحريك حاضر الذات الفاعلة بمعايشته فى علاقته بالماضى. تلك الآلية التبادلية تنسحب على القارئ أيضا، الذى يسائل بدوره، الحاضر فى ضوء الماضى الذى يشير إليه السرد. فالمنطلق السردى لا يتكشف بالتعرف على التطور الخطى لسير الأحداث، بل بتلمس طبقات المعرفة التى يذخر بها النص، وإن كانت تلك المعارف مستقاة من المعايشة الحياتية فذلك لا ينفى عنها قيمتها.

وتلمس المعرفة يقتضى تقويض النسق المؤسسى للعلاقات. وفى المروية يعد التعرف على الممارسات الحميمة للآخر، فعلا مضادًا لأدوات المعرفة التى يفرضها النسق المؤسسى، فالعلاقات التى ينبنى عليها هذا النسق تتصف بالعمومية: هناك طالبات يدرسن التمريض، ومجندين، دون ذكر لأسماء الأفراد، وفى إطار هذه العلاقات يستحيل التلامس، وحين يتاح ذلك لا يتبين الأفراد الأجزاء الجسدية المتلامسة (فصل 19) يؤدى هذا التعسف المؤسسى إلى إعاقة التعارف بين الجنسين ويظل التلامس خارجيا (فصل 23) وتتبدد محاولات التواصل بل إن الانفصال التعسفى يوجد شبكة من العلاقات التى لا تقوم على التواصل ولكنها تنشأ فى إطار من السلطوية، وإن كانت تزعم الحماية. ففى الفصل التاسع يراقب المدرس فعل العقاب الواقع على الطلبة التى تجاسرت بالكتابة، فالكتابة تعد فعلا تعبيريا انفراديا فيه خروج عن النسق الاجتماعى.

وإن كان دور المدرس هنا لم تمله إرادته. بل أملته عليه وظيفته، ففى موقف آخر يقوم بدور سلطة الحماية من تلقاء ذاته ففى الفصل التاسع عشر يفرض زحام الحافلة على المدرس حماية الطالبة التى ترافقه من تحرشات المحيطين بها، فتفرض بيادته سورًا وهميا يعزل الطالبة عنهما، وتظل علاقة الرجل بالمرأة دون اتصال والمحرك الرئيسى فيها طرف واحد، رجلا كان أم امرأة مثلما فى حادثة المخزن (الفصل 27) حينما تزور المدرس إحدى الطالبات على انفراد وتباغته بما تنتويه، وتحصل عليه بشكل فردى. والمفارقة فى العلاقات الناشئة بين الجنسين تكمن فى تجذرها فى الأنساق المفروضة عليها رغم محاولات الخروج عنها فالخروج عن الأنساق لا يشكل سوى شبكة معكوسة وليس استراتيجية مضادة.

والمفارقة التى تنطوى عليها العلاقات النمطية بين الجنسين، تتوازى والعلاقات النمطية الأخرى بين الأفراد والأمكنة، فدورة المياة، وهى المكان المتاح للانفراد، للتستر، تغدو موضعا لانتباه الجميع، فالحائط، أو الباب، أو الصنبور لا يستر، بل يعمل كل منهما على فضح العزلة وكشف محاولة الانفراد، وكأن الانتحاء فى دورة المياة ما يثير اللائمة لخروجه عن الفعل الجماعى فبيت الراحة صار بيتًا للأرق.

واستحالة الخروج عن النسق المكانى يتلازم معه استحالة الخروج عن النسق الزمانى أيضًا فالتطلع إلى يوم العطلة – يوم الجمعة – يوم الخروج، يكون عودة إلى نسق جماعى آخر: البيت. والمفارقة هنا تجعلنا نتساءل: من أيهما الخروج، وإلى أيهما العودة؟ وهذا الخروج/ العودة لا يسلك دائما الطريق الخطى المعتاد بل يتخذ طرقا مغايرة. والمفارقة هنا تنبهنا إلى أن التحرك بين الأمكنة والأزمنة هو فعل مزدوج ينطوى على خروج وعودة فى آن.

وازدواجية الحضور فى الأمكنة والأزمنة لا تعلن عن مراوحة مطلقة تفضى إلى العدمية، بل عن استحالة الحضور الآنى منفصلا عن ما ينتسب إليه من أزمنة وأمكنة أخرى، فالتصريح الأخير بالغياب صدر دون تحديد موعد العودة، مما يهدد الانتماء. والمفارقة هنا تكشف عن ضرورة الالتزام بمرجعية مكانية أو زمنية لتحقيق الحضور وإلا تهددت الذات بالانتفاء. وإن كان الحصول على تصريح بالغياب (لانتهاء الخدمة العسكرية) قد أثار الرغبة فى الإياب (لإستعادة مخطوطة الرواية) فذلك لرغبة فى الحضور، بإذابة الفواصل النمطية بين الأزمنة والأمكنة، رغبة تتفجر حينما يحاصر الوجود بسياج الأمكنة وتاريخية الأزمنة.

وإن كانت المروية قد استهلت بالبحث عن مخطوطة الرواية – المطلق – فيستحيل التوصل إليها سوى بمعايشتها عبر تفاصيلها المرجعية. فآليات الإحلال والإبقاء، والفصل والجمع والخروج والعودة والبدء والاستعادة، كلها وإن سعت للكشف عن لا انتماء الفرد، فإدراك ذلك هو أول ممارسة فى فعل الانتماء، غدا القارئ رفيقا للذات الراوية فى بحثها عن الرواية. وصارت الرواية تمثل بشكل من الأشكال: الأنا الجمعية، أوالمطلق، ما لن يتحقق سوى بتفاعله مع الآخر فى علاقة تبادلية. وفى ذلك انتفاء للذات الراوية بوصفها مصدرا أولا وأخيرا للسيرة الذاتية، فروايتها لا تتحقق دون الكف عن الاستماع إلى الصوت الواحد، حتى تستقبل الأذن أصداء الأصوات الأخرى، فالعلاقة البين ذاتية تنبئ عن حضور الذات فى تعدديتها وغياب لمركزيتها. 

 

عودة إلى الملف


 

مقالات من نفس القسم