ونحن في هذه القراءة لن نخوض في الديوان الجديد للشاعر سوى من زاوية نظر واحدة، هي التي حددها عنوان هذه القراءة، وهي تتبع مدى براعة تشكيل الصورة الشعرية في الديوان انطلاقا من أفق التراث إلى رحابة المتخيل الإنساني الذي يمتح منه الشاعر، وتأمُل مدى تمكن هذه الصور من صنع دلالة القصيدة وبناء فنيتها.
استوقفتنا في دواوين الشاعر السابقة، وفي ديوانه الجديد صور شعرية عديدة لفتت نظرنا بطرافة تشكيلها للمتخيل استنادا إلى لغة صافية معاصرة ومفردات تراثية متينة، وتطريزها للمعنى في إهاب جديد منفتح على رحابة الخيال الإنساني وصوره الشعرية الجديدة، وبخاصة لدى الرومانسيين العرب. وهي صور تتخطى الأفق البلاغي التراثي لتعبر عن رؤية الشاعر من منظور معاصر، وانطلاقا من انفتاحه على الشعر الحديث. وعلى الرغم من أن الشاعر يتكئ على مفردات وتعابير من التراث، وعلى اقتباسات قرآنية، إلا أنه ينجح في سبك صوره لتخرج في حلة شعرية جديدة.
ومن بين هذه الصور يمكن أن أقف عند العينات الثلاثة الآتية التي اخترتها من قصائد متفرقة في الديوان:
1- من قصيدة: “ملامح حكي أنثوي الشذا”، أسوق المقطع الآتي:
“عينان
صافحتاني
متلولبتين بمدهما
تبتسمان
مثل شمس أطلت
ما بين أسجاف خريف
كفيف
وتعوذان بإفكهما
من نظراتي المأسورة
في دفئهما
مرتدتين
فمسحت على وجهي
بيدي
ثم ملت إلى سبحتي
أحسب حباتها
خَطَوات
في أثر العينين الهاربتين
بظلهما
وسرابهما”.(ص.21-22)
تتشكل هذه الصورة الفنية التي تروي سيرة عشق عابر، ولحظة افتتان آسر، عن طريق لغة متدفقة منسابة منذ بداية النص وحتى نهايته. وتجمع هذه اللغة بين لمحات تراثية، وأخرى معاصرة، إذ نجد مفردات مثل: أسجاف، تعوذان، إفكهما، تندغم في سياق اللغة الشعرية لتشكل دلالات الصورة وتمنح البعد المتخيل فيها نكهة جديدة. وعلى الرغم من الحمولة القرآنية لكلمتي: التعوذ والإفك، وارتباطهما بمعاني مختلفة: التطهر- الحديث العظيم والبهتان إلا أن الشاعر يجسد من خلالهما استيلاء الرغبة التي انتابته على نفسه وسقوطه في أسر عيني فاتنته، وفي الآن نفسه يصور سعيه إلى التخلص من أثر هذه اللحظة العابرة على نفسه، وهو أثر رهيب، مما لا شك فيه، لم يجد أمامه من مفر سوى الأوبة إلى سبحته يحسب حباتها. إن توظيف المفردات التراثية- على قلتها- في سياق المقطع الشعري منح المتخيل الشعري حيوية ملحوظة، بل إنها صارت بؤرة هامة في بناء الدلالة الشاملة في هذا المقطع الختامي من مقاطع القصيدة.
2- يقول الشاعر في مقطع من قصيدة “ومض في أفول”:
” أين كنتِ زمانا
قبل أن يصبح البستان
سبائك من ذهب
ولفائف من حطب
بشتاء غيث
راح يغازل شمسه
في بردتها القزحية؟
أين كنت
قبل أن..
تصبح الدالية العجفاء
جَفَنات معتقةً
تتراقص في وحشتها
جنةً من لهب؟
أتراك رمادية الشهقة
في زورقك المعصوب العين
بكامل رونقه
وفتوته
وجموح عقاله؟
فلتهزي إذن جرتك الغبرا
ولتنصرفي..”(ص.46-47)
تحضر في هذا المقطع إشارات عديدة تحيل إلى مرجعية الرومانسية العربية، كما تحضر مفردات تراثية عديدة تمتزج باللغة الحديثة لتشكل الصور الشعرية، وتبني المعنى في هذا المقطع الشعري المتدفق في انسيابية لغته. يصور الشاعر، أثناء توجيه خطابه إلى أنثى مجهولة، حالة إحساس فادح بوشك الأفول. ويتحدث عن بستان أصبحت أعشابه سبائك ذهبية ولفائف حطب من أثر الذبول، ويتساءل عن الغيث الذي همى متأخرا، والشمس المشرقة في بردتها القزحية، وهما يغازلانه. ويكرر الشاعر لازمة “أين كنت قبل أن..” التي تحضر مرتين في القصيدة، وتقدح شرارة السؤال عن هذا الحضور الأنثوي الذي جاء –حسب ما يشي به سياق النص- متأخرا عن سر الغياب الذي طال، ومن ثم يتم تأكيد لا جدوى هذا الحضور عبر صورة أخرى هي صورة الدالية التي صارت عجفاء، وجفنات عنبها التي تتراقص في وحشتها، وفي الأخير لا يجد الشاعر سوى الفرار، مرة أخرى من هذا الحضور اللاهب، آمرا صاحبته أن تهز جدع جرتها الغبراء وتنصرف إلى حال سبيلها، مشيرا إلى أنه سيبحر في عصف النوء المتربص به نحو الضفة الأخرى. هكذا تنسل بلاغة القرآن في عبارة “فلتهزي إذن جرتك الغبرا ولتنصرفي..” لتمنح الصورة الشعرية ظلال إيحاءات جديدة تجد لها نسبا في عمق تأويل الآية القرآنية الواردة في سورة مريم، كما تجد عبارات أخرى في هذا المقطع الدال جذورها لدى جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وعلي محمود طه.. وعلى الرغم من اتكاء الشاعر على هذه الجذور الشعرية أو الثقافية إلا أنه ينجح في توليد صور خاصة به يستمدها من بيئته وواقعه، ولعل أبرزها في هذا المقطع صورة هز جرة الماء والانصراف بها بعيدا ما دام البستان لن يسقى، وما دامت الدالية العجفاء لن تحيى. وبهذا تتكامل صورة الختام مع الصورتين السابقتين عليها في تشكيل الدلالة الشاملة للقصيدة.
3- ومن قصيدة “في دهاليز الأحرف خلف الأبواب” سأقف عند المقطع الآتي:
“..تتخافت أصوات الكلمات المتراصة
في رونقها
أصصا زاهية
تتغامز ضاحكة
من عيون الزهر العابر
خلْفا
في ذيول أفوله
بين اللجة واللجة
تتراقص كل لغات الحي بألف لسان ولسان
ما في الجبة إلا الحلاج يخاطر
خازن بيت المال
وامرأة
تعصر
خمرا
وتجيد حكايا شهرزاد
والقائمة المختالة
في خفقها
رافلة
في البياض”.(ص.60-61)
يتشكل هذا المقطع من عدد من الصور الشعرية التي تقوم على استدعاء أسماء حقيقية أو متخيلة -عُرفت في تاريخ الثقافة الإنسانية برمزيتها ووظفت في الشعر العربي في سياق رمزي خاص- وذلك في أفق جديد لا صلة له بما ساد في الشعرية العربية. إن استحضار الحلاج وشهرزاد في سياق هذا النص، باعتبارهما إحالتين تراثيتين مستمدتان من المرجع الصوفي ومن المتخيل الشعبي، لا يتم بطريقة آلية، وإنما نجد الشاعر يدرجهما في سياق جديد يصور من خلاله واقع الكتابة الإبداعية وملابساتها الخفية التي تتم خلف الأبواب الموصدة، بحيث إن الكلمات والأحرف تخاتل وتراوغ وهي تتدلل في البياض رافلة في زهوها وتعنتها تماما مثل الحلاج الذي يتشاطر على خازن بيت المال والمرأة التي تعصر خمرا وتجيد حكايا شهرزاد. وبهذا التوظيف يتخذ حضور الرمز التراثي دلالة جديدة ترتبط بالمعنى الذي رامه الشاعر، وهو معنى يتعلق بمعاناة الكتابة وقسوة مطاردة الأحرف المخاتلة والمختالة مثل فاتنة تتدلل على صاحبها. وهذا الفهم هو الذي يشي به المقطع، ويشكله متخيل القصيدة. ومما لاشك فيه أن هذه الصور قد تختزن دلالات أخرى، وتبقى هذه القراءة مجرد تأويل محتمل لنصوص شعرية تحتمل أوجها شتى من التفسير والتأويل.
انطلاقا من كل ما سبق يمكننا القول إن اشتغال متخيل القصيدة في ديوان “يوميات من كتاب أبيض” استند إلى بلاغة تصويرية تستثمر التراث من خلال مفردات وعبارات ورموز انتقاها الشاعر انتقاءا ووظفها في سياق رحب منفتح على المتخيل الإنساني المعاصر، ومنفعل معه. ومن ثم كانت لبعض الصور التي وقفنا عندها مياسم خاصة ناجمة عن رؤية الشاعر واشتغاله الشعري الخاص.