أما فيما يتعلق بتحويل السطور الى ما يشبه الأبيات المشطروة فقد اعتبرته بعد أكثر من قراءة بمثابة استراحة تخدم منطق التأمل أكثر مما تخدم شكل الشعر ، هو أيضا تصرّف موفق يشبه عندى أن تزيد المسافة بينك وبين اللوحة الفنية فتراها أوضح وأعمق ، ولكن هذا التصرّف لايلغى أى تصرّف آخر يؤكد تماسك المونولوج الواضح لدرجة أننى وصلت الى حلول متطرفة وغريبة كأن يُنشر النص نفسه بنفس العبارات ولكن بدون تشطير ، وإنما على شكل كتلة واحدة من الجمل المتجاورة على نفسْ واحد ( بدون علامات ترقيم أو عناوين ) على طريقة تيار الوعى عند “جيمس جويس “مثلاً . أردتُ فقط أن أبرهن على أننا أمام طوفان من الأفكار المجردة التى صيغت باسلوب ولغة شعرية كثيفة ، هذا هو جوهر “تسابيح النسيان ” . ليست المسألة إذن صراع بين شعر ونثر ولا حتى فى التساؤل الساذج :منْ أرقى ومنْ أدنى ؟ ، ولكنها مسألة ماذا تقول وكيف تريد أن تقول بأفضل وسيلة . المسألة فى أن يذوب الشكل والمضمون فى بناء متماسك ، وفى كل الأحوال لا اللغة الشعرية تعطى النصّ ( أى نص ) صك الجودة التلقائى ، ولا اللغة السردية العادية تقلل من شأن النصوص ، المسألة فى الإختيار والمناسبة بين الشكل والمضمون .
ولكن الكتابة عملية شديدة التعقيد ، والتفسير سابق الذكر يستهدف فقط التحليل والشرح ، فلمّا خرج نص “تسابيح النسيان ” اكتشفنا أن “ناجى” المفكر لم يستطع ( ولن يستطيع ) أن يزيح “ناجى” الروائى أو “ناجى” الشاعر ، وإنما امتزج الثلاثة معاً وهذا سرّ سحر هذا النص الفريد ، صحيح أن عجلة القيادة كانت فى يد “ناجى” المفكر المتأمل المهموم بالأسئلة الكبرى، ولكنه لم يستطع أبداً الإنفراد بالسرد . ظلّ باقياً من “ناجى” الشاعر هذه القدرة على تبسيط وتجميل الصياغة بشكل فنى . يريد مثلاً “ناجى” المفكر أن يقول شيئا عن “الموت ” فيقوم ناجى الشاعر بتحويل الكلمة المباشرة الى ” السقوط فى آخر العمر خلف المدار ” . المفكر يريد أن يصف العدم فيقول الشاعر “فلنطلق عليه كلمة العتمة” وهكذا ، أما “ناجى” الروائى فيقوم بهندسة البناء كله على طريقة تآلف المتناقضات وتعدد الوجوه كما فى كل روايات “ناجى” ، هو أيضا الذى يعطى لكل حزمة من الأفكار والتأملات عنواناً دالاً ،ثم هو أيضا الذى يستدعى التسليم والتسلّم من فكرة الى أخرى والإنتهاء بالدائرة المفتوحة المعتادة حيث “لا عدم طالما أن هناك ذاكرة “، ولذلك قلت إن بناء “تسابيح النسيان ” أشبه بأبواب تفتح على حجرات متداخلة : بابٌ يفتح على مريض فيقودنا الى باب يفتح على عاشق فمتأمّل فأسئلة باتساع الوجود فنهاية الرحلة ثم ينفتح العدم من جديد على نغم يبقى فى أوتار الرباب فتنفتح الدائرة من جديد . الروائى هو ايضا الذى يستدعى نموذج “ناجى” المفضّل : المرأة متعددة الوجوه وكأنها الحياة نفسها ، فى التسابيح امرأة من لحم ودم نكاد نراها ولكنها سرعان ما تختلط بالحياة ، كلتاهما ( المرأة والحياة ) امتزجت تجربة “ناجى” معهما بالألم واللذة وكأنهما وجهان لعملة واحدة ، وكلتاهما غامضتان لا نصل أبدا الى “السرّ” معهما ، وهى فكرة تتردد كثيرا فى روايات “ناجى” وفى شخصياته النسائية من “نازك” الى “مباهج” الى “كاترين” الإفتراضية ، وكلاهما يتعلق بهما الإنسان وكأن عشق المرأة وعشق الحياة صنوان : ( وأحُطّ على كبدى فى ختام الطواف لأنبش فيه خرائط عشقك ) .
لم يزل الروائى يمارس لعبته أيضا فى العنوان الماكر ، المونولوج عن الذاكرة المتأملة فى أسئلة الوجود وفى حيرة الإنسان وغربته بين “كان ” و”سأكون ” ، بين إرادة خلقته ، وإرادة يريد هو أن يخلقها ، بين عدم ينتظره ، وحلم بالخلود يمكن أن يحققه بالذكرى ، ولكن العنوان يتحدث عن تسابيح للنسيان ، و”التسابيح” تعنى الذكرْ ، فكيف نذكُر النسيان ؟ حتى اللقطة الإفتتاحية تتساءل : “آه أيها النسيان / بأى الألوان ستغطى عيونى فى المشهد الأخير ؟ ” ، ولكن سرعان ما يتحول الحديث الى الذاكرة التى تقاوم العدم ، الى المرأة / الحياة ، الى الأصدقاء الغائبين بالموت ، الى تأملات عن حرب الإنسان ضد الزمن وضد الفناء ، الى أوهام الحرب والمجد المزيف ، الى داء العشق الذى نموت به ، الى الوحشة والإغتراب ، الى قيمة الإنسان وموقعه فى الحياة ، هل هو ينتمى الى الأسمى/ السيد أم أن حياته عبث كونه مطية من هباء . تختلط ألوان المونولوج (رمادى وأخضر ووردى) ، وتختلط الأصوات ( طبول وكمان ورباب ) ، وتختلط التعبيرات مابين الآه والآه ، تمتزج النشوة بالألم ، وتخرج الحياة من قلب العدم إذ تبدو الذاكرة بديلا للحياة ، ويبدو البشر كما لو كانوا كائنات طافية على سطح نهر الذاكرة العظيمة ، كل منا يخلع رداء جسده ويتحول الى ذاكرة باقية كجزء من ذاكرة الإنسانية ، يصمد منطق “سأكون” أمام منطق “كان” ، تنتصر الذكرى على النسيان فتنفتح دائرة العدم ، تتحول كلمات “جبران” من :” إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء ” الى : “إنما الناس سطورٌ كتبت لكن بذكريات باقية ” .
على قدْر الرجاء يُقاس العمر من سعيد الرجاء الى قليل الرجاء الى خائب الرجاء ، على قدْر العشق يكون الألم المنقوش على الكبد العليل ، على قدْر الغياب تكون الوحدة ، على قدْر الإجابة تنفتح أبواب الأسئلة ، على قدْر إدراكنا لمعنى “كان” تتشكّل إرادة الحياة / “سأكون ” ، ويبقى مغزى المونولوج الإنسانى والفلسفى :
يا من ذهبت ستعيش فى الذكرى
يا من سقطت خلف المدار ستحيا فى الأوتار
يا من ذهبت ستعود
لن يهزمك النسيان
يا من كان ستكون
سنرتل تسابيحك
بين نغم وعدم .
أجمل ما تشعر به بعد قراءة “تسابيح النسيان ” هو الفخر الشديد بإنسانيتك . منْ غير الإنسان يستطيع أن يحوّل مأزق الوجود الى فن جميل ممتع ومؤثر؟ منْ غير الإنسان يدرك تناقضاته فيصنع منها تراتيل للذكرى ؟ منْ غير الإنسان يحوّل الموت الى أنشودة للحياة مفعمة بالأمل ؟ منْ غير الإنسان يستطيع تثبيت صورة فى إطار فتبقى من الأجداد الى الأحفاد ؟
لنا أن نفخر بأننا حاربنا دوماً بين شُهُب مشتعلة وأبد من الوهج ، ولنا أن نفخر بأن آلامنا تشحذ عقلنا وقلبنا ، ولنا أن نفخر بأننا أحببنا دوماً كلمة “سأكون” .
فطوبى للمُرتّلين .. وطوبى للمُبدعين .