إن النص الأدبي يحطم القواعد النوعية، أوالثابتة ولايمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة؛ ومن ثم لايمكن وضعه وضعا نهائيا في فصيلة نوعية محددة. وقد يشترك نص في أكثر من نوع، أو يصعب وضع حدود تضعه في نوع معين؛فقد يجمع نص شعري بين خاصية الشعرية والسردية، وهو ما أوصلنا إلى مصطلح:(الشخصية الشعرية)؛ الذي ظهر عند الحديث عن ديوان: (هواء العائلة)، وما يثيره هذا النص الشعري المفتوح على سرديات التاريخ الشخصي بكثافة، من تساؤلات حول تميز النص الأدبي، بما يحمله من مقومات؛ تبرزه وتميزه عن غيره من النصوص، وقد اقترن هذا النزوع إلى ميل القصيدة إلى السرد، في شكل قصيدة النثر، وقد كان الميل إلى السرد صيغة رافقت القصيدة الغنائية في البحث عن شخصيتها، ونلاحظ في خطاب “هواء العائلة” ميلا واضحا إلى تقريب المسافة بين زمن الحكاية وزمن السرد، وحرصًا واضحًا على شعرنة التاريخ الشخصي، وأسطرة حياة العائلة، والشخصيات هنا أقرب إلى الشخصيات الواقعية؛ شخصيات من لحم ودم، تمتلك حضورا إنسانيا وملامح شخصية واضحة، في تفاصيل حياتية خاصة، ويتحكم منظور الشاعر السارد في تقديم الشخصيات الأخرى في فضاء النص:
“كَأنَّهُ يَتَعَثَّرُ في كابوسٍ، في زِحَامِ الشَّارعِ الجَدِيدِ
حِيْنَمَا اسْتَوقفتْهُ سَيَّارَةٌ عَسْكريَّةٌ كَبِيرَةٌ
نَادَوهُ باسْمِهِ، وَأصْعَدُوه إلى السَّيارَةِ، مُضطربًا”
“هُنَا كانَتْ دارُنا القديمةُ.
هُنَا وُلِدْتُ.
هُنَا كانَتْ جدَّتي تقعُدُ في كلِّ عَصْرٍ.
هُنَا كانَتْ عَنْزَاتُهَا.
هُنَا كانَ الحمَامُ.
هُنَا كانَ المُلتقَى.”
فإننا نحسُّ الشاعر ساردًا وناصًّا ليوميات عاشها، ولازال، فقد انتقل في لحظة من النص الوجداني المعبر عن الذات، إلى نداء اعتمد تتابعًا للأحداث؛ فتغيرت مستويات الأداء الشعري تبعًا لمضامينها؛ لتبحث عن الأنا المتألمة وتواسيها؛ وكأنّ الشاعر شريف رزق يريد أن يضع بصمة ترتبط به وتميزه؛ فالحديث لا ينتهي عن الجدّة والأم والوالد المصاب والأخ الشهيد والطفل الجارة الغاوية والطقوس المستمدة من التراث، وما يعتري المستقبل من حديث عن الزوجة.
فسياق الأنا هنا انطلق إلى الحديث عن المكان وما يتصل به من مفردات حميمية ،واعتمد النص على التكرار الصرفي في بدء كل سطر شعري “هنا كان” مما يجعل النص يتحرك في إيقاعية تميز بخاصية التردد؛ وهذا ما يحدد معنى الإيقاع ، فالإيقاعية الشعرية تعني التكرار لعناصر مختلفة في ذاتها متشابهة في مواقعها، كما اتخذ من المكان وسيلة لتسجيل النص ، بل وضع النص في شكل إيجابي متفاعل؛ كي يخرج في علاقات جمالية أكثر شمولية ؛ مما يقودنا إلى “استكناه البنية الداخلية للقصيدة” كما يقول يوري لوتمان، وهذا هو الهدف من تحليل النص الشعري؛ فالنص يمكن النظر إليه باعتباره بنية متفردة؛ صيغت طبقًا لقانونها الخاص بها.
إن الإيقاع طابع آخر مميز لقصيدة النثر- لا أقصد الاعتماد على الوزن، فهو عنصر من شجرة الإيقاع- كأن يعتمد على الصيغ الصرفية كما في النص السابق، أوالاعتماد على إيقاع المعنى:(إيقاع الدلالة)
“أكْثَرُ أنْحَائِي
ذَهَبَتْ تِبَاعًا
مَعَ المَوْتَى
وَخَلَّفتْنِي
مَقْبَرَةً جَمَاعيَّةً”
الإيقاع المعني هنا هو إيقاع المعنى؛ الذي يُشكل من الغموض الموحي، ودخول النص في مراحل أخرى من المعنى العميق؛ فهو إيقاع دلالي، أو يعتمد على الترادف(ضَبَابٌ يَتَصَاعَدُ مِنْ مَقْبَرَةِ العَائِلَةِ/ ضَبَابٌ يَرْفَعُ مَقْبَرَةَ العَائِلَةِ)، أو التقابل في المعنى أو مجازية العبارة أو طرح تساؤلات تشف وتوحي أكثر مما تنتظر(أيَّتُهَا السَّمَاءُ: إلى أينَ يَتَوَالى سِحَابُكِ بالرِّفاقْ ؟)
“هُنَا كنَّا نُعَيِّدُ كُلّنَا.
هُنَا ظَلَّتْ جدَّتي
، ولمْ تَسْتَجِبْ
، لأحَدٍ منْ الأبناءِ.
هُنَا ماتَتْ جدَّتي”
والإيقاعية النصية تتجلى في توزيع النص إلى وحدات متكافئة قد رُتبت على نحو خاص؛ ليظهر نص شريف رزق بتفاصيل حياتية ترسمه؛ وكأن هذا التوزيع وسيلة لنقل المعنى؛ فالمقام مقام الحديث عن القرب الشديد والتغريب الشديد بين سردية الموضوع وشاعرية الكتابة.
ويرتبط بالإيقاع الشكل الطباعي الذي يتبناه الفن الشعري بحساسيته التجسيدية والتمظهرية عموماً وأثره في مقروئية القصيدة؛ لأن أول ما ينتبه إليه المتلقي، ويصطدم به القارئ هو شكل النص وكيفية إخراجه وطريقة توزيعه على الصفحة، ومن خلاله تتحدد الانطباعات المؤثرة في المتلقي، وتصل إلى حد التأثير في الدلالة، وتعمل على تنامي الإيقاع وتوزيعه، ومده وجزره، وانتشاره وتردده، وتقطّعه واستحالته إلى واقع صامت، على النحو الذي يتمخّض عن تمظهرات تتجسد في منطقة القراءة البصرية، ويجري تلقيها والتفاعل معها على هذا الأساس.
“على حُطَامِ المَشْهَدِ.
أريدُهَا لقْطَةً
بَانُورَامِيَّةً
هَائِلةً
لِلْجَحِيْمِ الأرْضِي”
إن بنية النص هنا يعتمد على خصائص الذات المعرفية والفكرية والاجتماعية؛ فالذات واعية لهويتها وارتباطها بما حولها وفقًا لرؤيتها، والأنا تتحدد من خلال تفاعل الضمائر، وبذلك يتشكل النص لقطة بانورامية للجحيم الأرضي، والأنا الشعرية تظهر في تداخلاتها وتفاعلاتها وعلاقاتها المتشابكة؛ فالكلمات شاهدة على غرابة الواقع:(صَعْبٌ أنْ تُدْرِكَ الآنَ كَمْ أحْمِلُ منْ الجُثثِ في جَسَدِي وَأنَا أغَادِرُ حُجْرَتَكَ مَسَاءَ كُلِّ مَرَّةٍ يَا أبِي)، وما يحمله من معاناة؛ فالقصيدة لقطة سردية متضمنة غرابة ذات معنى خاص:
“أشْتَهِي الخُروجَ في نزهَةٍ خَلويَّةٍ
مَعَ نيتشَه، وَرَامبو، وَشَاجَال.
تَصْحَبُنَا فِيَلَةٌ، وَيَنَابيعُ، وَغِزْلانٌ، وَمَنَازلُ، وَقِيَانٌ.
نلتقِي، في الطَّريقِ، بامْرئ القيسِ، وَبيسوَّا، وَابْنِ عَرَبِيِّ.
نَخْلَعُ أقدامَنَا في الصَّحَاري، وَنَمْضِي
فيُدْركُنَا النَّفَّريُّ، على ظَهْرِ غَيْمَةٍ”
النص يستدعي أسماء تراثية على المستوى العربي والعالمي؛ حتى يفصح عن عمق الألم الذاتي، وهذه الأسماء مثير جمالي؛ لبث الإبداعية داخل النص من جهة، وكوجه جمالي من جهة ثانية، فالنص يعتمد على الاستلهام والجمال، وهذا دليل على تشربه الواسع من التراث، وانفتاحه على النتاج الغربي.
والنص الشعري عموما جزء من عالم الفن الذي هو دائم التحول والتجدّد، ويسعى كل كاتب متميز أن يضيف جديداً في سيرورة الفن الذي يمارسه؛ من هنا فإن الفن حقل متجدّد الخصوبة، متنوّع المشارب، وهذا ما أكده فن الشعر الذي بدا أنه قابل للتجريب، وساعٍ دائماً لكسر الأطر والقواعد النظرية.