فكري يتخلى عن الفانتازيا لصالح سرد واقعي في جل قصصه ولكن قبل أن يتبادر إلى الأذهان أنه سرد يرصد في مباشرة وفقط، علي أن أوضح أن سرد فكري الواقعي شديد العمق والدلالة والتقاط التفاصيل وتضفيرها شديد الحنكة والذكاء وأن القصص مشبعة بالمتعة حد أنها تتقاطر منها.
لكن كيف جاءت هذه النقلة من الفانتازي إلى الواقعي، سأسترشد بإحدى قصص المجموعة (صيد النجوم)، بطل هذه القصة هو كاتب قصصي كذلك وأعتقد -في تأويل شخصي لي- أنه فكري نفسه أو معادل له، والذي سنجده يتسلل ككاتب قصة في عدد من قصص هذه المجموعة ليكون شاهدا ومشاركا وبطلا أحيانا في تجريب سردي موفق، بطل هذه القصة كاتب القصة المثقف يستيقظ ليجد العالم قد غرق في الظلمة فيتخيل أنه قد وقع ضحية خيال كاتب أو سينمائي جعل منه بطلا في عالم فانتازي ، تماما كأبطال ساراماجو في رواية العمى ربما، لكن بطلنا هنا يتيقن أنه يرى ولم يصب بالعمى، فقط العالم هو الذي أظلم، يخرج من مسكنه لتطالعه الفوضى وحكايات عن الشمس التي هوت والذئاب الحيوانية وتلك البشرية التي تنهش في اللحم في واقع مرير…
بطل هذه القصة وفي منتصف السرد وفي حديث بينه وبين نفسه أن فانتازيته لم تكن أبدا بلا هدف، فهو لن يترك بطله الفانتازي ليصارع خيالات في عالم مغلق، بل لفانتازيته دائما هدف ودلالة وأعتقد أنه هنا يعبر عن رأي فكري ذاته في استخدام الفانتازيا وربما في الفن عموما..
ولا أنسى أن أشير إلى ذلك العنوان المراوغ والذي يعتبر إضافة للنص، فالقصة لا نجوم فيها أو صيد، فثط ظلام وجزع وفوضى تلف النجوم، فيكون العنوان في هذه الحالة إضافة للنص، تحركه في اتجاهات أخرى.
أعود لما كنت قد بدأت الحديث عنه،
أعتقد أن فكري يمثل ذلك المثقف الذي يشهد تحولات العالم القاسية والمفجعة في سنواته الأخيرة فيترك عوالم التخييل بالفانتازيا وتحليلات اللاوعي للواقع إلى الواقع ذاته وقد بات كل سفر في اللاوعي هروب حتى وإن حمل بعض الراحة..
فكري هو ذلك المثقف الذي قرر أن ينزف ألما على الأوراق وأن يعالج الواقع بكل فجاجته في حنكة ليجعل من المرارة فنا وتخييل ويبعثر في عقولنا ملايين الأسئلة والآهات ليستجدي الإنسانية فينا ويرغمنا على فتح العيون والمواجهة ولو كانت المعركة محسومة بالخسارة..
يعود للفانتازيا ربما مرة أخرى وهو يرصد في القصة التي تحمل نفس عنوان المجموعة سقوط النخل على الدور، تلك الكارثة التي فجرت أسوأ ما في البشر، هو هنا يرصد تلك الديستوبيا المؤلمة، البشر الذين شتتت قلوبهم المأساة، ليصيروا فرقا تتنازع وتسيل دماء، في تراجيديا تشبه تلك التي كانت للاغريق…
إلا أن جل القصص تعبر عن ذلك الواقع الأليم الذي نعيشه وتلك اللحظة التي حسم فيها المثقف خياراته ليكف عن التعالي في تحليل اللحظة وليعيشها بكل ما تحمل من فوضى وألم ولينجرف معها كبطل يوتوبي، ترك كهف أفلاطون وقرر أن ينغمس وحتى الثمالة في رصد ذلك العالم البغيض وهي لحظة لا حول له فيها ولكنها لحظة فنية بإمتياز…
لنرى فكري يرسم مشهدا لميكروباص وسائق معمي من البرشام ولنستمع لذات الحوارات التي نسمعها كل يوم من زبائن الميكروباص على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وهنا تظهر حرفية فكري فالفن هو إعادة خلق وترتيب للعالم، فكري ورغم إخلاصه لواقعية شديدة في كثير من هذه القصص إلا إنه يدرك كيف أن الفن ليس مجرد سرد فهو يقدم إضاءاته ويكثف المعنى ويتلاعب بنا ويمتعنا بقدر ما يؤلمنا
فكري يرصد في تجرد وبلا طنطنات أو فلسفات فارغة ونزقة لا تحتملها اللحظة المأزومة ، يرصد مشاهد الحرية والفوضى والخوف والرحمة والموت والأمل وغيرها كثير…
فكري يفخخ قلوبنا بنصوص واقعية لتنفجر فينا بعد أن انفجرت فيه..
تحية تقدير لذلك المثقف الذي قرر أن ينزف ألما وفنًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري