تراب الفرن

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

دينا يسري

قالت لي.. في جلسة أعياها الحزن، إنها لم تكن الوحيدة التي رأت الغجرية بوجهها العكر، وملامحها الخبيثة، وابتسامة مريضة تنم عن صف أسنان أصفر متراكم عليه بقايا طعام، وبقع شاي ارتشفتها استعدادا لمهمة ما، ثم حدقت فيّ حتى أقشعر جسدي وكما لو أنها نسيت تفصيل ما، أكملت بفزع..

كانت ترتدي السواد لوناً من رأسها حتى أخمص قدميها، وكان معها تراب فرن مؤلم، وأخرى كانت أكثر تصابيا وأقل مكراً.

 

حاولت التخفيف عنها، فأنا لا أعرف عما تتحدث، إلا أنها لم تتح لي الفرصة وصاحت والدموع تغرق عيناها لم أكن وحدي كان هناك ثلاث فتيات أخريات،

لم أكن وحدي كان هناك ثلاث فتيات..

لم أكن وحدي كان هناك..

لم أكن وحدي..

مشاعرها متوهجة، الثائرة كبركان، حركات يدها على وجهها لمسح غبار الوجع، لإزاحة التوتر جانباً، لمدارة الخجل، الوهن، نزولها صعودها بيدها اليمنى على رقبتها والضغط بقسوة عليها، ابتلاع ريقها بصعوبة، كل هذا جعلني أرق لحالها وأربت على كتفها كنوع من المواساة، أو حتى على سبيل التغيير، إلا أنها انتفضت بعنف وصارت ترتجف كالرعد، جمّدت نظراتها نحوي حتى ظننت أنني الغجرية بملابسي السوداء تلك وارتعبتْ.

قليل من الصمت كان يحدد خطواتي.. خطواتها، نظراتي.. نظراتها، حتى شبكت أصابعها العشر فوجدتني أقلدها ببلاهة، ابتسمت في محاولة مني لبعثرة الأمان في أنحاء نفسها، لرفع روحها المعنوية المهزومة وحثها على مواصلة الحديث، حتى نجحت تماماً ووصفت المشهد بنبرة صوت يقشعر لها الناي فيعزف أروع ما عنده من وجع، في الغرفة كان معنا خالتي وجارة لنا، الغجرية والأخرى التي كانت معها، خالتي جلست على الأرض، نادت عليّ كنت خائفة، فلم أذهب، واختبأت خلف الفتيات الأخريات اللواتي كنت أجهل أسمائهن كما كنت أجهل حينها الكثير مما يحدث، فكان عمري وقتها تسع سنوات، فتيات يقسمن مع الهلع كما لو أنه فتات خبز، ولم أفهم حينها على ماذا اللمز والتغامز؟ على فرحة يشوبها خوف ارتسمت على وجه أمي؟ وهمس خالتي مع جاراتنا على كوني سأكون الأولى لأمر إصابتي بشيزوفرينيا الخوف، وقد كان..

خالتي على الأرض، تنادي عليّ، أنا لم افتعل التصنّع، قدمي بالفعل كانت مثبتة بمسامير الخوف، رجفاتي القصيرة بقصر فستاني لم تمنع الجارة من جذبي من ذراعي حتى صرخت، فلكمتني الغجرية بقبضة يدها المتحجرة، فسقطت أرضاً تماماً في حجر خالتي التي قيدتني بقوة، تجعد الفستان وصفعتني برودة البلاط بقسوة لم أعهدها، فاهتمت جارتنا والأخرى بأمر ساقي، ورأيت الغجرية تفتح المطواة تقرب نصلها البراق الحاد مني..

أااااااااااااااه

صرخة واحدة مني ثم من الثلاث الخائفات، تخللها عويل، تراب الفرن.. تراب الفرن.. تراب الفرن، كان هذا التراب لإيقاف بكاء الجرح، وقبل حتى أن يتكبدوا عناء مسح بركة الدماء الراقدة تحتي كنت أسمع صرخات الأخريات تلتئم بأناتي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

دينا يسرى

قاصة – مصر

ــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: سعد سداوى

ــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم