ممدوح رزق
في أحد المقالات التي كُتبت تضامنًا مع الكاتب “أحمد ناجي” في قضية “استخدام الحياة” استشهدت كاتبة المقال بأسباب الصدمة عند “ميشال ريفاتير”: “التقليد الساخر .. توسيع الحدود أو تضخيمها .. صناعة خلل داخل السرد والذي يجعل أكثر المفردات عادية تشبه النتوءات وتورط القارئ في لعبة التبديل والإحلال”.
مشكلة هذا التصوّر أنه يفترض وجود حقيقيتين استباقيتين، سيكون تصديقهما بالضرورة أمرًا هزليًا؛ الأولى: أن ثمة أشكالًا محددة للتقليد الساخر، أساليب عامة لتوسيع الحدود أو تضخيمها، أو لصناعة الخلل داخل السرد أشبه بالقاموس المحيط، أو دليل الإرشاد لكيفية الصدم .. الثانية: أن جميع القرّاء ـ باختلافاتهم ـ الذين يشعرون بالصدمة يقومون برصد وموضعة التقليد الساخر وفصله عما عداه بنفس الطريقة، أن لديهم المعيار الثابت الذي يقيسون به “توسيع الحدود وتضخيمها”، أو أن تأويل “الخلل داخل السرد” يتخذ نسقًا واحدًا لدى كل قارئ، وبالتالي فإن “النتوءات” ستظهر للجميع بالصورة ذاتها، وتتطابق لعبة التبديل والإحلال بين القراء كافة.
لكن التحرر من هذه التحديدات الشائعة عند البنيويين سيتيح لنا النظر إلى هذا النوع من المعرفة باعتباره وهمًا لدى الكاتب نفسه قبل أن يكون لدى قارئه؛ فالكاتب حتى لو كان يمتلك يقينيات شخصية تجاه عمله حول السخرية أو المبالغة أو الانتهاك فإنها تظل خاضعة للتغيّر طوال الوقت، أي أنها أقرب إلى الهواجس غير المنضبطة، فضلًا عن كونها قابلة للتبدد خارج مخيلته حينما تتحوّل إلى خطاب جمالي في وعي الآخر .. نفس الأمر فيما يتعلق بما يُسمى “القارئ”؛ فليس هناك ذلك “القانون” العام الذي بمقتضاه ووفقًا لشروطه الجامدة يحكم الجميع على نفس النص بأنه “ساخر”، أو يفكرون في “مبالغاته” بكيفية جماعية موحدة، أو يحكمون على ما يعتبرونه “انتهاكًا” في مضمونه من خلال أنماط وظواهر معينة.
كل هذه “الإلزامات” الحاضرة في فرضية “ريفاتير” ستتهاوى أمام ذلك الكاتب الذي لم يفكر على الإطلاق في “تصنيف” ما قام به أثناء كتابة النص بوصفه تقليدًا ساخرًا، أو أنه وسّع حدودًا أو ضخّمها، أو أنه صنع خللًا ما داخل السرد؛ ومع ذلك شعر قارئ ما بـ “الصدمة” التي تحدث عنها “ميشال ريفاتير” .. لماذا؟ .. لأن أي قارئ يمكنه أن يشعر بهذه “الصدمة” دون توقع من أحد وبطريقة تختلف عن قارئ آخر .. دون أفكار مسبقة حول ماهية “الصدمة” وأسبابها .. دون أن يتفق الجميع ـ سواء الذين أصابتهم “الصدمة” أو لا ـ على أن هذا النص يحمل تقليدًا ساخرًا أو توسيعًا للحدود …إلخ .. تكمن المشكلة في الاعتقاد التقليدي بأن “قارئ” النص هو “القراء”، وأن “صدمة” القراءة هي “الصدمة” التي تبدأ مع الجميع نفس البداية، وتتحرك في نفس المسار، وتنتج في النهاية نفس التأثير.
من يستطيع استبعاد أن يأتي لفظ “خادش للحياء” في إطار يمكن لجماعة بشرية قد تتضمن “ريفاتير” نفسه أن تحكم عليه بأنه لا ينطوي على سخرية أو مبالغة أو انتهاك، ومع ذلك يتسبب في هذه “الصدمة”؟ .. من يستطيع استبعاد أن يكون لهذا اللفظ نفس التأثير حينما يأتي ـ وهو ما يحدث بالفعل ـ في سياق برنامج تليفزيوني أو مكالمة تليفونية في برنامج إذاعي مثلا؟ .. من يستطيع استبعاد وجود احتمال بأن هذا اللفظ لن يظل صادمًا داخل جميع السياقات “خارج الشارع” كما يُشار دائمًا، أو أن النتائج العدائية لكونه صادمًا ستظل مضمونة، أو أنه من الممكن تجاهل وجود هذا اللفظ لدوافع لا علاقة لها بالسياق نفسه؟.
إن قارئ النص “المصدوم”، صاحب رد الفعل العدائي سواء ذلك الذي يقدّم بلاغات أمنية، أو الذي يكتب مراجعات عقابية ضد العمل الأدبي وكاتبه قد يكون هو نفسه ذلك الشخص الذي قضى مراهقته كلها في ممارسة العادة السرية وهو يقرأ روايات ألبرتو مورافيا، وخليل حنا تادرس، ونبيل خالد بامتنان مماثل لما كان يشعر به تجاه مجلات “الشبكة”، و”الموعد”، و”طبيبك الخاص” .. ربما يكون نفس الشخص الذي لا يزال يؤمن بأنه كان يرتكب سلوكًا آثمًا اضطراريًا، وأن هذه الكتب التي كان يشتريها ويتداولها مع زملائه وأصدقائه في المدرسة وخارجها هي روايات “غير أخلاقية” تقدم “متعة محرمة” في مقابل “الأعمال الراقية” المنتمية إلى “الأدب الحقيقي”، والتي كتبها أدباء مشهورون يجب أن يكونوا محل ثقتنا كما علمتنا الدولة عبر أذرعها ومؤسساتها وأشباحها الدينية .. الذين لابد أن تختلف ما تتضمنه أعمالهم من عواطف جنسية عن ما تمتلئ به الروايات البذيئة الأخرى من إباحية .. هذا القارئ قد يتحتم عليه لأسباب مراوغة تتعلق بتاريخه الشخصي أو بعلاقته الملتبسة بالفضاء العام أن يتطهر علنًا من فكرة “الذنب” نفسها ـ حتى لو لم يكن يشعر أنه مذنب حقًا ـ وليس من مجرد ارتكابه، أي التطهر ـ ولو شكليًا ـ من تلك الطبيعة المطلقة التي تتجاوز حدوده الذاتية، وتشمله بما أنه جزء بديهي منها .. قد يتحتم عليه أن يُلبي ـ حتى كأداء روتيني مجرّد ـ هذا الإغراء الذي يطالبه طوال الوقت باستغلال الفرص المتاحة ـ خصوصًا لو ارتبط الأمر بمجرد كتابة أدبية أو فيلم سينمائي لن يكون لتجريم أي منهما ثمنًا ينبغي دفعه ـ لإثبات قدرته ـ أمام نفسه أولًا وخارج أي نظام أخلاقي مخادع ـ على المساهمة في تثبيت ما يُعتقد أنها “الحقيقة الأخلاقية” للبشرية كلها ـ ولو لم يكن يصدقها ـ وبالضرورة تمثل جزئيًا السلطة المثالية المفترضة للمجتمع التي تضمن استمراره كسفّاح نرجسي .. قد يتحتم على هذا القارئ ـ حينما يجدر به هذا ـ أن يضلل ويتجاوز ويحاول معالجة جميع ازدواجياته حول المتعة والتحريم، وما يُسمى بالخير والشر، وأن “يقيّم” كل ما كان سببًا في “سعادته المختلسة السيئة” بتبرّؤ حاسم، وإدانة قاطعة لما ليس “أدبًا” من حيث كونه ـ ببساطة ـ ليس “مؤدبًا” سواء كان مؤمنًا بهذا القرار أم لا، أو يحتاج لتقديمه كقربان، أو يُساير به هيمنة يسعى لإعادة اكتشاف وتجديد اندماجه الجسدي بقهرها تفاديًا للشعور بالغربة الذي يمكن أن يصيبه خارجها.
هذا القارئ وهو يقوم بذلك سيختلف داخل التشابهات الواضحة عن قارئ آخر؛ إذ أنه في استجابته خلال لحظات محددة، غير متوقعة، ومتخمة بالتناقضات، لتلك المطالبة الخبيثة الدائمة بالمواجهة مع “لغة الشارع التي يجب أن تظل في الشارع”؛ في استجابته هذه تكمن خصوصية منفصلة عن الآخرين الذين يقومون بالأمر ذاته، وربما يمكن ملامستها بصورة أقوى ـ لا إدراكها على نحو تام ـ مع زيادة مساحة التورط في هذا النوع من العلاقات التبادلية بين القارئ والسلطة التي يكافح لتوطيدها ولو رغمًا عنه، وبصرف النظر عن استمتاعه الشخصي بما هو محل إدانته، أو عن تاريخ هذا الاستمتاع بما هو مدفوع لمعاقبته .. هكذا يصبح “التقييم” بتمثلاته العدائية المتعددة هو شكل أو تواصل للاستمناء القديم.
“إن طريقة تناول مقدّم البلاغ لـ (عمل أدبي)، والتي دفعته لتقديم بلاغ يحمل هذه الصيغة ضد كاتبه هي نوع من الاستراتيجيات التأويلية التي تستعمل النص الأدبي كفضاء سوسيولوجي مضمون للتخلص من الإثم الذاتي، وكتعويض سهل عن خسائر الضمير. هذا الاستخدام ليس رد فعل أخلاقي ينطلق بشكل أساسي من عقيدة شخصية، بل رغبة لا واعية في إعادة إنتاج ثقافي لما يمكن تسميته بـ (المفاهيم السائدة للفضيلة).
في هذا النمط المهيمن من المقاربات يوظف القارئ جسده شبقيًا كمستثمر سادي يستغل الضعف الاجتماعي للنص ـ أي لا أخلاقيته المعادية لما يُنظر إليه كنظام محسوم من القيم البديهية العامة ـ هذا الاستغلال يتولى تثبيت جسد القارىء كعنصر ممارس ينتمي إلى التقاليد التي تكوّن ما يتم اعتباره السلطة الأخلاقية للمجتمع، وليس مجرد تابع أو خاضع لها (عقاب الكاتب بواسطة التعذيب اللفظي كجزاء منطقي يتلائم مع انحرافه السلوكي في الكتابة .. تقويمه وضبط أفعاله بما يتوافق مع “المبادئ السائدة” عن طريق دمج التعذيب اللفظي بمحاولة إجباره على كتابة راضخة لهذه “الأسس الأخلاقية”.. التحريض ضده أي تحذير القراء الآخرين من قراءة أعماله، وتوسيع مجال العقاب ليشمل القراء والنقاد المحتفين بكتاباته، وقد يصل الأمر إلى الملاحقة القانونية .. مراقبته أي تتبع وجود نصوصه داخل الأماكن التي يمكن من خلالها توجيه العقاب والضبط والتحريض ضده على شبكة الإنترنت مثلًا، وتحديدًا مواقع القراءة، وصفحات التواصل الاجتماعي).. هذا التوظيف السادي هو بكيفية أكثر جذرية توطيد مازوخي لعلاقة جسد القارئ (الذي فاز بكبت جديد عندما تصدى ليقمع كتابة انتهاكية) مع ما يعد بالنسبة له السلطة الأخلاقية للمجتمع، بعد أن ساهم في حمايتها بتقديم جسده قربانًا مُروَّضًا لهذه السلطة (أي متخلص من دنس قرائي، ومُكفِّر عن خطاياه السابقة بمحاربة خطيئة لم يرتكبها)”.
كانت هذه السطور من مقالي عن قضية “استخدام الحياة”، وهي ـ بالعودة للاستشهاد السابق بميشال ريفاتير ـ لا تربط ما يُسمى بـ “الفضيحة اللغوية” بالأخلاق ولا بالتقليد الساخر، وإنما بالاستعمال الشخصي لهذا السراب المتناثر الذي يُطلق عليه “الفضيلة”، والذي يختلف عن استعمال آخر، خارج أي حسابات صلبة لما يُعتقد أنها قيّم إنسانية عامة في مكان ووقت ما، أو ما يتصوّر أنها قيّم جمالية هي المسؤولة بشكل كلي عن إحداث الصدمة مثل “التقليد الساخر” أو ما شابه .. هي تربط ما يُسمى بـ “الفضيحة اللغوية” بفكرة الذات في لحظة معينة، ونتيجة عوامل متشابكة، دائمة التنكر، عن هذه الظنون الغائمة العابرة للزمن، أو الوهم الخارق تجاه كلمة “الأخلاق”، التي لا توجد بالطبع داخل القارئ، ولا داخل المجتمع ـ شأن أي ميتافيزيقا ـ كحقيقة، وإنما كاعتقاد ملغز، كتصوّر متبدّل يمكن استغلاله لا شعوريًا باعتباره “مُسمى” لشيء غير موجود .. استعمال ادعاءاته المختلفة، حيّله، ومكائده، ومجازاته المتباينة لسد دين سابق من الذات نحو نفسها بصرف النظر عما يمكن أن يعنيه “تحرر” مجتمع ما أو تزمته .. لذلك فما يسميه ريفاتير بـ “الفضيحة اللغوية” لا يكون صادمًا بسبب الذوق العام أو حتى النص، وإنما لأن هذا الاستعمال اللاواعي السابق الذي أشرت إليه غير مشروط بشيء خارجه .. لا ينتظر “أخلاق المجتمع” كما أطلق عليها “ريفاتير” ولا ينتظر الكتابة نفسها، وإنما يستطيع أن “يستغل” لدوافعه الخاصة، أيًا من الخامات السهلة بدون اعتبار أين توجد ومتى .. يظل هذا الاستعمال ممكنًا دائمًا، لأنه لا يرجع إلى قواعد تتغير باختلاف العصور، بل إلى ضرورة لـ “أداء” عفوي تندرج أي محاولة للإمساك ببداية خيوطه كجزء من أوهامه.
لو افترضنا أن ثمة قارئًا “الآن” قد شعر بالصدمة وهو يقرأ أعمال فلوبير أو موباسان أو ميللر أو لورنس، والذين واجهت أعمالهم في الماضي صراعات شتى كالمحاكمة أو المصادرة أو الملاحقة الجماعية؛ فهذا لأن شيئًا ما يتعلق بالقارئ نفسه ـ قد يكون أبويًا أو محارميًا أو إخصائيًا “مثلًا ودونما احتكار للمبررات” ـ وليس بهذه الأعمال نفسها، ولا بمدى تحرر مجتمعه يجبره على توظيفها “الآن” لصالحه بهذه الطريقة .. على تمريرها تلقائيًا داخل عماء طوباوي تحكمه “مفردات”: أخلاق .. إساءة .. عقيدة .. آداب عامة .. فضيلة .. بذاءة .. خدش حياء … إلخ .. لأن شيئًا ما يتعلق بهذا القارئ ـ الذي قد يتجاهل أعمالًا أخرى يراها ميشال ريفاتير تحمل “توسيعًا أو تضخيمًا للحدود، أو صنعت خللًا في السرد” ـ يجبره على العمل للحصول على انتصار ما بواسطة تقمصه لإبهام مطلق بالضبط مثلما فعل قارئ آخر لهذه الأعمال في الماضي، والذي ربما ساهم فيما واجهته من صراعات، ولكن بحيثيات قد تكون مختلفة.