هذه هي النّواة الأساسيّة للعمل الذي يمكن وصفه بأنّه ثوريّ: عملٌ في القاعدة يضيئه نظرٌ في القاعدة أيضاً. عملٌ – نظرٌ / نظرٌ – عملٌ في أفق سياسيّ – ثقافيّ – اجتماعيّ:
– المدنيّة العلمانيّة،
–حكم القانون: الحريّة، المساواة، العدالة،
– نَبْذُ العنف بجميع أشكاله النظريّة والعمليّة،
– الاستقلاليّة، والرفض الكامل لأيّ تدخّل أجنبيّ،
– المرأة شريكٌ للرجل في بناء الحياة والمجتمع، وفي جميع الميادين، من دون تمييزٍ أو فَرْقٍ إلاّ في ما يخضع للطبيعة.
هذا يعني أنّ اللقاء الذي أشير إليه يناهض «العقليّة الإخوانيّة» التي تحوّل الإسلامَ – الثقافة والحضارة، إلى مجرّد حِزْبٍ يتمثّل فيه، وحده، الإسلامُ «الصحيح»، وإذاً المجتمع «الصحيح»، والسياسة «الصحيحة». هكذا يُحَوَّل الإسلامُ إلى « مُلكٍ» خاصّ، وتُحَوَّلُ الحقيقةُ هي كذلك إلى مُلكٍ خاصّ. وهكذا يسمح امتلاكُ «الدين» بامتلاك «الدنيا»، بل يقتضيه حُكماً.
تؤدّي مناهضةُ «العقلية الإخوانية» ومناهضةُ كل تحزيب أو تسييس آخر للدين، وعلى اختلاف المذاهب، إلى التأسيس لفهمٍ جديد للإسلام. فهو على الصعيد الحضاري – الإنسانيّ مناخٌ ثقافيّ متميّزٌ وخاصّ. وهو على الصعيد الفرديّ، تجربةٌ روحيّةٌ متميّزة وخاصّة في العلاقة مع الإنسان ومع العالم، ومع الغيب، لا تُلزِم إلا صاحبَها.
هكذا يظلّ الدين في مستواه الكونيّ، ويبطُلُ أن يكون أداةً أو آلةً سياسيّةً أو سلطويّة لأيّ فرد أو أية جماعة.
وفي هذا العلوّ الذاتيّ يفيضُ تحرّرُ المسلمين عن كونه تحرّراً مما هو «خارج»، ويصبح كذلك انعتاقاً من «داخل». لا تعود «الأمّةُ» مفهوماً سياسيّاً، وإنّما تصبح كياناً روحيّاً: مجموعة الأفراد الذين يعيشون الإسلام، بوصفه تجربةً روحيّةً خاصّة، في العالم والإنسان، وفي المصير والموت وما وراء العالم. وفي هذا يتأكّد النظر إلى الدّين بوصفه غايةً لا وسيلة؛ وبوصفه تجربةً في تحرّر الإنسان وسموِّه، لا أداة لترويضه واستعباده.
*
{ أغنيات إلى الممكن
– 1 –
لا أَفاجَأُ: من أوّلٍ، من زمانٍ ، قلتُ: كلاّ،
لا اقتتالٌ. لا حروبٌ تُرجِّع أصداءَ
هولٍ مريرٍ قديمٍ.
لا أفاجَأُ، من أوّلٍ من زمانٍ أقول المدينةُ محتاجةٌ لطوفانها:
لحريّةٍ حُرّةٍ.
– 2 –
ثائرٌ، قُلْتَ؟ لكن
لماذا يُسافرُ في
قدَمَيْ آمرٍ سيّدٍ ،
وعلى وجههِ أثرٌ من ركوعٍ؟
ثائرٌ قُلتَ؟ لكن، لماذا
لا يصفّق إلاّ
للسلاطينِ يأتونَ من كلِّ فجٍّ؟
ثائرٌ، قلتَ؟ لكن لماذا يقلِّدُ جلاّدَهُ؟
– 3 –
أنتَ من أعلنَ الحربَ، مَن أشعلَ النارَ، أم آخَرٌ
يتنفّس في رئتيكَ، يُشمِّر عن ساعدَيْكَ،
ويُغويكَ؟ مَن أنتَ؟ قبّعَةٌ أم غطاءٌ؟
ربّما لستَ إلا ضحيّهْ
تتغنّى بها لغةٌ أجنبيّهْ.
– 4 –
كيف أصبَحتَ زيتاً
أيّها الرملُ، أو صرتَ رملاً
أيّها الزّيتُ؟ ماذا
وضعوا في يديْكَ؟ وماذا
أسْدَلوا فوق وجْهِك؟ نيرانُهم
صهَرَتْكَ؟ ويا أنتِ أيّتها الأبجديّهْ
كيف أصبحتِ جبّانةً؟
مَنْ أهالَ عليكِ الهباءَ وغنّى
للجريمةِ كي تتحوّل عِطراً
في سريرِكِ؟ مَن أفسَدَ النّومَ فيه؟
ومَن قتَلَ الحُلمَ والحبَّ في كلّ حرْفٍ
من حروفِك، حتّى
صِرْتِ همهَمةً طوطَميّه؟
ومتى يعرفُ النّورُ أنّى وكيف يجيِّش آفاقَهُ
ويُجري ينابيعَ أسرارِه،
في دروبِكِ أيّتُها الأبجديّه؟
– 5 –
أيُّها العربيُّ الذي يوجِزُ الأمكنهْ
مثلَما يوجِزُ الأزمنَهْ
في تمائم عرْشٍ
أو قلائدِ لفظٍ –
هنالكَ ثأرٌ أو قبائلُ
في الضّوءِ والماءِ؟ آخَيْتُ فيكَ جراحي
واحتضنْتُ تباريحَها،
وتنوّرتُ فيها المَدى والدّليلْ.
لا تَلُمني، إذاً،
لا تلُمْني إذا كنتُ مِن فرْطِ حبّيَ لا أتودّدُ إلاّ إلى المستحيلْ.