يقودنا التأويل الأوديبي لقصة (الأفعى) لـ (جون شتاينبك) إلى حلم عصابي يعيد فيه الطبيب الشاب (فيليبس) إلى أمه قضيبها الذي حُرمت منه (الثعبان المجلجل الذكر) أي ينزع أباه من مكانه في قمة السلطة البطريركية الناجم عن امتلاكه لموضوع القضيب، ويصعد هو ـ أي الابن ـ لشغل هذا الموقع بوصفه صاحب (الثعبان) أي مالك العضو الذي لم يعد قصيراً مقارنة بعضو أبيه .. لم ينجح الطبيب في قتل الماضي رغم كل الحيوانات التي يقضي عليها انتقاماً من رغبة الأم في أبيه، والرجوع بها إلى ما قبل الكبت الأساسي عند (فرويد) أي مرحلة التصور النرجسي لقدرته على منحها الاكتفاء .. لهذا كان لابد له أن يقابل ـ رمزياً ـ التوجه الأصلي للـ (الليبيدو) في صورته النقية بعد فشل مقاومته .. يلتزم (فيليبس) برغبة المرأة التزام الطفل برغبة الأم التي تأخذ شكل المدلولات الكنائية في تعويض نقصانها مما يدفعه للتماهي بموضوع هذه الرغبة ـ عبر وسيط ـ يتجاوز من خلاله التهديد بالخصاء ويتخلص من المجاز الأبوي الأبعد من مجرد امتلاك قضيب.
لكن الطبيب (فيليبس) رغم رغبته في مضاجعة أمه يشعر بالخوف من أبيه فيحاول الوصول لحل وسط مع التحريم: (يمكنك أن تأتي وتنظري إليه بدون أن تملكيه)، لكن رغبة الأم ـ التي يتماهى معها الابن ـ هي استكمال موضوع نقصانها نهائياً بالحصول على قضيب ابنها للأبد، ووضع حد لاحتياجها إلى قضيب الأب: (أريده أن يكون لي) .. يشيّد الطبيب (فيليبس) جداراً لاواعياً من التبرير الأخلاقي أمام شعوره الواعي بمقاومة المتعة والقضاء على الحياة / الرغبة / الشهوة المتبادلة بين الأب والأم / شهوة الابن في الاستئثار بالأم ـ (يمكنه قتل ألف حيوان لأجل المعرفة، ولكنه لا يقتل ولو حشرة من أجل المتعة)؛ لذا يخلق الحلم العصابي مجالاً كاشفاً يواجه من خلاله الابن (فيليبس) أمه (المرأة التي تريد امتلاك الثعبان الذكر) .. هذه المواجهة تُخرج رغبة الابن من اللاشعور إلى الوعي لتزيح التبرير الأخلاقي، وتجسّد أمامه حقيقة اللذة التي تصاحب انتقامه بقتل الحيوانات من خلال تفحص الشغف الناجم عن مراقبة التهام الثعبان للفأر، وهو شغف كان من المنطقي أن يحرص الطبيب على إخفائه بالتقزز من التأثيرات الشبقية للالتهام على ملامح المرأة .. لكن الحقيقة ينبغي في لحظة المواجهة أن تُعالج، أي يجب إخماد الدوافع (الذكريات) السيئة المسؤولة عن القتل وبكيفية آمنة، ولهذا حدث ذلك التوحد بين الابن والقضيب في صورة الثعبان (موضوع الرغبة عند الأم)، في المقابل تم إحلال الطبيب في جسد الفأر أيضاً .. هذا الانقسام للابن بين الثعبان والفأر كان من شأنه تحقيق الهدفين المتناقضين للرغبة عند (فيليبس): إنهاء حرمان الأم من القضيب، وفي نفس الوقت تلقي العقاب نتيجة شعوره بالذنب بعد استجابته المحرمة (مضاجعة الأم) .. نلاحظ أن الطبيب يشرح للمرأة ـ بطريقة روتينية ـ تجاربه العلمية التي يقتل الحيوانات من أجلها طمعاً في إثارتها بينما كان نظرها مركزاً عليه هو، وإذا كانت عيناها بدتا وكأنهما لا تريانه فذلك لأنها كانت ـ أي المرأة ـ خاضعة لتخيل المستقبل القائم على بُعد لحظات الذي سيجمعهما .. نلاحظ كذلك لغة الحوار التي استخدمتها المرأة مع (فيليبس) حول الثعبان: (“أيها الذكر الذي تحدثت عنه؟ (برقة)” .. “أنت متأكد من أنه ذكر؟” .. “سأتركه هنا ولكني أريده أن يكون لي، أريد أن أجيء إلى هنا وأنظر إليه وأطعمه، وأن أعرف أنه لي”) .. يواجه الطبيب رغبة المرأة في الثعبان الذكر بحيل دفاعية لتفادي استكمال المشهد ـ وهو يمضي قدماً في إنجاحه ـ تبدأ بالتحذير من لدغ الثعبان مروراً بالتهكم اللاذع من حرصها على مراقبة التهام الثعبان للفأر، وشعوره بالصدمة، وأنه لأول مرة يرتكب خطأً بوضع جرذ في قفص الثعبان ـ رغم أنها ليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك استجابة لطلب شخص أو آخر في رؤية هذا الموقف ـ وحتى اقتراحه الغاضب للمرأة بأن يضع قطة بدلاً من الفأر إذا كانت تريد أن تشاهد قتالاً حقيقياً، يُحتمل أن تفوز فيه القطة وتقتل الثعبان .. تمثل هذه الحيل الدفاعية طريقاً مقطوعاً سلفاً لتفادي (المضاجعة) المنتظرة، ومحاولة لطرح الصراع (قتال بين الثعبان والقطة) كبديل للاستسلام (التهام الثعبان للفأر) قد ينتهي بإفساد الخطيئة لو فازت القطة، وهذا ما يفسر شعور (فيليبس) بالأسف تجاه الجرذ لإدراكه حتمية العقاب، ولكنه في النهاية يمتثل لشرط المتعة: القتل .. أي تدفع الثمن بنفس الطريقة التي تقضي بها على الحيوانات، بما يضمن التطهر من الإثم وفي نفس الوقت استمراره ومعاودة ارتكابه حيث الفأر ـ لاحظ عدم دفاعه عن نفسه ـ هو القربان الذي يُقدم للثعبان (موضوع رغبة الأم) بدلاً من (فيليبس) نفسه .. شعر الطبيب الشاب بإثارة ممتزجة بالغثيان أثناء عملية القتل .. يقول: (إنه أجمل شيء في العالم)، ثم يقول: (إنه أكثر الأشياء فظاعة في العالم) .. المضاجعة المحرمة / الذنب .. يسأل (فيليبس) المرأة بعد استرخاءها بكسل: (كان حماماً عاطفياً، أليس كذلك؟) .. كأنه يوجّه إليها اللوم بوصفها المسؤولة عن إجباره على إشباع رغبتها وتعويض حرمانها، وفي نفس الوقت يطمئن على اكتفاءها .. يمكن الانتباه كذلك إلى ممارسة تعويضية يؤديها حضور الأب داخل الفأر بالتزامن مع وجود الابن .. هذا الحضور يمثل اقتراحاً للاعتذار عن الخطيئة بإعادة الأب (كهدف جنسي) للأم يتشارك مع الابن داخل الطقس الشهواني مع لحظة الالتهام أي التخلص منه .. قتل الأب أثناء التكفير عن الذنب المرتكب ضده .. سيبدو في السطور الأخيرة كأنما القصة تقوم بتصفية اشتباكاتها بالوصول إلى تضادها الناصع إذ يتحدث (فيلييس) بوضوح عن علاقة ما حدث بـ (رموز الجنس السيكولوجية) التي قرأ كثيراً عنها، وأنه وحيد جداً، لا يفهم، وربما عليه أن يقتل الثعبان، ثم في النهاية يتجوّل الطبيب في البلدة بحثاً عن المرأة التي لم يرها مرة أخرى إلى الأبد .. لم يعد هناك مجال للحيل الدفاعية بعد التهام الثعبان للفأر وهو ما جعل (شتاينبك) يكشف بواسطة (فيلييس) عن صلة (رموز الجنس السيكولوجية) بالطقس الشبقي الذي تم بينه وبين المرأة .. سيتطور هذا الانهيار للحيل الدفاعية مع بحث الطبيب عن المرأة مما سيعيدنا إلى كافة المحاولات التي أراد (فيليبس) أن يتحاشى من خلالها (المضاجعة) التي حدثت لتتجلى حقيقة هذه المحاولات بوضوح كوسائل فاشلة للهروب من رغبة الطبيب في المرأة .. من تواطؤه مع شهوتها، ومن استمتاعه بالخضوع لأوامرها الشبقية .. هذا ما جعله يبحث عنها ـ كنتيجة مناقضة (ظاهرياً) لنفوره منها ـ بعد أن اختفت بانتهاء الحلم العصابي .. هذا الاختفاء النهائي هو تمثيل للانفصال الحتمي بين الابن (الطبيب فيليبس) عن أمه (المرأة صاحبة الثعبان الذكر) الذي يرفضه الابن؛ إذ يحاول استرداد ذاته من (مرحلة المرآة) بحسب (جاك لاكان) أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه، ومجابهة العبور من (الخيالي) إلى (الرمزي) حيث التعرف على الفراغ في الآخر.
ما قبل الكبت الأساسي
↨
الثعبان (القضيب)/ الأم → الابن (الليبيدو) ← الفأر (الذنب)/ الأب
↨
المرآة
إن النمط المنعزل، والصارم لحياة الطبيب الشاب (فيليبس) ـ فلننتبه إلى سريره العسكري مثلاً ـ كحيز مغلق على تجارب قاتلة تحت دوافع علمية، من شأنه أن يقوم بتحويل غريزة التدمير ـ غير المقنعة في اللاشعور ـ إلى آلية لمحو الواقع (الصور الخارجية بالنسبة للذات) سعياً وراء استرجاع (الأنا الكاملة) أي العلاقة الثنائية الاندماجية مع الأم حين لم يكن هناك رمزاً مبتوراً عن الأنا .. الرجوع إلى الاستغراق في المتخيل طمعاً في هيمنة تامة على صورة الجسد.
……………………………..
الأفعى
جون شتاينبك
ترجمة : رقية كنعان
كان الوقت ظلاما تقريبا عندما قام الطبيب الشاب فيليبس بوضع كيسه على كتفه وغادر البركة في جزرها، تسلق أعلى الصخور وخاض على طول الشارع في حذائه المطاطي. أضواء الشارع كانت مضاءة وقت وصوله إلى مختبره التجاري الصغير في شارع مونتيري التعليبي. كان بناء ضيقا صغيرا يقف جزئيا على أرصفة مياه الخليج وجزئيا على الأرض، في الجانبين تزاحمت معامل تعليب السردين.
الدكتور فيليبس تسلق الدرجات الخشبية وفتح الباب، الجرذان البيضاء في أقفاصها ركضت أعلى وأسفل السلك والقطط الأسيرة في سجنها ماءت تطلب الحليب. أشعل الضوء فوق طاولة التشريح ووضع كيسه الرطب على الأرض، مشى تجاه الأقفاص الزجاجية بجانب النافذة حيث تعيش الأفاعي المجلجلة، انحنى ونظر إلى الداخل. الأفاعي كانت متكومة على نفسها ترتاح في زوايا القفص ولكن كل رأس بدا واضحا، العيون المغبرة بدت وكأنها تنظر إلى لا شيء، ولكن حالما انحنى الشاب فوق القفص، بدأت الألسنة المتشعبة السوداء في الأطراف والوردية في الخلف ترتعش خارجا وتتحرك ببطء أعلى وأسفل إلى أن ميزت الأفاعي الرجل وسحبت ألسنتها داخلا.
خلع الدكتور فيليبس معطفه الجلدي وأضرم نارا في الموقد الضيق، وضع قدرا من الماء على الموقد وأسقط علبة فاصولياء في الماء ثم وقف محدقا في الكيس على الأرض. كان رجلا شابا مهملا بعينين لطيفتين مشغولتين كعيني من اعتاد النظر خلال المجهر لفترة طويلة، كان لديه لحية شقراء خفيفة.
التيار الهوائي ركض يتنفس عبر المدخنة ولمحة من الدفء قدمت من الموقد، الموجات الصغيرة غسلت الأرصفة تحت البناية. مرتبة في رفوف في الغرفة، كانت هناك طبقة فوق أخرى من جرار المتحف التي تحوي العينات البحرية المحمولة التي يتعامل بها المختبر.
فتح الدكتور فيليبس بابا جانبيا ودخل إلى غرفة نومه، خلية تحتوي على سرير عسكري، ضوء قراءة وكرسي خشبي غير مريح. سحب حذائه المطاطي وارتدى خفين مصنوعين من جلد الغنم وعندما قفل عائدا إلى الغرفة الثانية كان الماء في الإبريق قد بدأ يهمهم.
رفع كيسه إلى الطاولة تحت الضوء الأبيض وأفرغ دزينتين من نجوم البحراستلقت بجانب بعضها البعض على الطاولة. عيناه المشغولتان استدارتا تجاه الجرذان المشغولة في الأقفاص السلكية. أخذ حبوبا من كيس ورقي و صبها في معالف الطعام و حالا انزلقت الفئران عن الأسلاك ونزلت على الطعام. زجاجة حليب على رف زجاجي بين إخطبوط صغير محنط وسمكة هلامية، رفعها الدكتور فيليبس وسار باتجاه قفص القطة ولكنه قبل أن يملأ الآنية وصل القفص وبلطف التقط قطة صغيرة ممشوقة مبقعة، شد عليها للحظة ثم أسقطها في صندوق صغير مطلي بالأسود، أحكم الغطاء وأغلق المزلاج ثم أشعل المشعل الذي نفث الغاز في غرفة القتل، و بينما الكفاح الناعم القصير مستمر داخل الصندوق الأسود، ملأ الصحون بالحليب، إحدى القطط تسلقت يده فابتسم وداعب عنقها. الصندوق كان هادئا الآن فأطفأ المشعل لأن الصندوق امتلأ بالغاز.
على الموقد، كان قدر الماء يغلي باهتياج حول علبة الفاصوليا، رفع الدكتور فيليبس العلبة بواسطة زوج من الكلابات، فتحها وأفرغ الفاصوليا في صحن زجاجي. راقب نجم البحر على الطاولة بينما كان يأكل. من بين أشعته، قطرات قليلة من سائل حليبي كانت تنتشر في كل اتجاه.
عندما فرغ من تناول الفاصوليا وضع الصحن في الحوض وخطا إلى خزانة المعدات، تناول منها مجهرا ومجموعة من أطباق العدسات الصغيرة، ملأ الأطباق واحدا تلو الآخر من أنبوب نزع سدادته يحتوي على ماء البحر ثم رتبها في صف بجانب نجم البحر، أخذ ساعته وألقاها على الطاولة تحت الضوء الأبيض المنسكب. الأمواج تحركت بتنهدات صغيرة تجاه الدعائم تحت الأرضية.
تناول قطارة من أحد الأدراج وانحنى على نجم البحر، في تلك اللحظة كان هناك خطوات ناعمة على الدرجات الخشبية وطرق قوي على الباب. تجهم وانطباع من الضيق عبر وجه الشاب وهو ذاهب ليفتح. امرأة طويلة منحنية كانت تقف في طريق الباب، كانت ترتدي بدلة معتمة جدا، شعرها المسترسل الطويل المتدلي على جبهة منبسطة تعمّه الفوضى ذاك أن الريح كانت تهب عليه وتعبث به، عيناها السوداوان لمعت في الضوء القوي.
تكلمت بصوت ناعم حلقي : “هل يمكنني الدخول؟، أريد أن أتحدث معك”.
“إني مشغول تماما الآن” – قال بنصف قلب ـ “علي أن أقوم بأشياء في موعدها”، ولكنه وقف بعيدا عن الباب، فدلفت المرأة الطويلة إلى الداخل.
– “سأظل هادئة إلى أن تستطيع الحديث معي”.
أغلق الباب وأحضر الكرسي غير المريح من غرفة النوم، وقال معتذرا :”كما ترين، العملية قد بدأت وعلي أن أنهيها”، كان قد اعتاد أن يأتيه كثير من الناس يدخلون يسألون. فيلجأ للقليل من روتين الشروحات للعمليات الجارية. كان يمكنه قولها دون تفكير: “اجلسي هنا، خلال دقائق سأكون قادرا على الإصغاء لك”.
انحنت المرأة الطويلة على الطاولة، بواسطة القطارة جمع الشاب السائل من بين أذرع نجم البحر لتبخ في وعاء من الماء وحرك الماء بلطف بواسطة القطارة و بدأ يتمتم في شروحاته:
“عندما تكون نجوم البحر ناضجة جنسيا فإنها تفرز المني والبويضات في حالة الجزر، باختيار عينات ناضجة وأخذها خارج الماء أهيأ لها ظرفا من المد المنخفض والآن خلطت المني بالبويضات ووضعت بعضا من المزيج في كل واحدة من زجاجات الساعة العشرة هذه. في غضون عشرة دقائق سأقتل تلك التي في الزجاجة الأولى بالمنثول، وبعد ذلك بعشرين دقيقة سأقتل المجموعة الثانية، ومجموعة أخرى كل عشرين دقيقة. ثم سأسيطرعلى العملية في مراحل وسأعرض السلسلة على شرائح المجهر للدراسة البيولوجية”، توقف قليلا وأضاف: “هل تحبين أن تتفرجي على المجموعة الأولى تحت المجهر؟”.
– “لا ، شكرا لك”.
استدار بسرعة تجاهها، الناس عادة يحبون النظر خلال الزجاج، ولكن هي لم تكن تنظر إلى الطاولة نهائيا بل إليه هو. عيناها السوداوان كانتا عليه ولكنهما بدتا و كأنهما لا تريانه. لقد أدرك لم، فالقزحية كانت غامقة مثل البؤبؤ، وما من فاصل لوني بينهما، الدكتور فيليبس جرحت كبرياؤه من جوابها، فرغم أن إجابة الأسئلة تسبب له الشعور بالضجر، إلا أن قلة الاهتمام بما يفعل تستفزه، ورغبة في إثارتها كانت تتنامى بداخله.
“بينما أنتظر الدقائق العشرة الأولى لدي ما أفعله، بعض الناس لا يحبون رؤيته وربما من الأفضل لك أن تدخلي تلك الغرفة ريثما أنتهي”.
– “لا”، قالت بنغمتها الناعمة المنبسطة، “افعل ما شئت، سأنتظر إلى أن تستطيع الحديث معي”
يداها استراحت بجانب بعضها البعض على حجرها، كانت مسترخية تماما. عيناها كانتا لامعتين ولكن باقي جسدها كان في حالة حركة مؤجلة. فكّر:” معدل أيض متدن كذلك الذي لدى الضفدع، من النظرات!”، الرغبة في هزها خارج جمودها تملكته ثانية.
أحضر إناء خشبيا هزازا إلى الطاولة، وضع المشارط والمقصّات وركب إبرة كبيرة مجوفة على أنبوب ضغط ، ثم من غرفة القتل أحضر القطة المترهلة الميتة ووضعها في الإناء وربط أقدامها إلى خطافات في الجوانب، ألقى نظرة جانبية تجاه المرأة، لم تتحرك، ولم تزل في راحتها.
القطة كشخت في الضوء و لسانها الوردي كان عالقا بين أسنانها المدببة كالإبر. قص الدكتور فيلبس الجلد حول حلقها برشاقة، بواسطة مشرط أحدث شقا طوليا ووجد شريانا بواسطة تقنية لا تتطلب الصدع، وضع الإبرة في الوريد وربطها بالأحشاء.
“سائل تحنيط” ، و شرح :”لاحقا سأحقن كتلة صفراء في النظام الوريدي وأخرى حمراء في النظام الشرياني من أجل تحليل الدورة الدموية – دروس بيولوجيا”.
نظر جانبا تجاهها، عيناها بدت مملوءة غبارا، نظرت بدون أي تعبير على وجهها إلى حلق القطة المفتوح، ولا قطرة من الدم فرت والشق كان نظيفا. قال الدكتور فيليبس ناظرا إلى ساعة يده: “وقت المجموعة الأولى”، وهز مجموعة من كريستالات المنثول في زجاج الساعة الأولى. المرأة كانت تجعله عصبيا، الجرذان تسلقت أسلاك أقفاصها ثانية وصرت بصوت خافت، الأمواج تحت البناية ضربت الدعائم ضربات خفيفة، ارتعش الشاب، وضع قطعا من الفحم في الموقد وجلس، “الآن، ليس لدي ما أفعله لمدة عشرين دقيقة”،
لاحظ كم كانت المسافة قصيرة بين شفتها السفلى وطرف ذقنها، بدت كمن يستيقظ على مهل ليأتي من بركة عميقة من الوعي. حركت رأسها وعينيها الغبراوين خلال الغرفة ثم عادت إليه.
– “كنت انتظر”، قالت ويداها ممددتان واحدة بجنب الأخرى على حجرها، ” لديك أفاعي؟”
“لماذا، نعم”، قالها بصوت مرتفع، “لدي دزينتان من أفاعي الجرس، أستخرج منها السم وأرسله إلى مختبرات العقاقير ضد السموم”.
استمرت بالنظر إليه ولكن لم تركز عليه، شملته بنظرها وبدت كمن ينظر في دائرة كبيرة حوله،
– “ألديك ثعبان ذكر؟ ثعبان مجلجل ذكر؟”.
“حسنا يبدو أنه اتفق أني أعرف أنه لدي. جئت في أحد الصباحات ووجدت أفعى في الداخل– في حالة جماع مع أخرى أصغر، ذلك نادر جدا في الأسر، أترين، وهكذا أعرف أن لدي ثعبان ذكر”.
– “أين هو ؟”
“لماذا، في القفص الزجاجي بجانب النافذة هناك”، تأرجح رأسها حولها قليلا لكن يديها الهادئتين لم تتحركا، استدارت ثانية نحوه: – “هل يمكن أن أراه؟”
نهض ومشى إلى القفص بمحاذاة النافذة، على القاع الرملي كانت عقدة الأفاعي تستلقي مجدلة ولكن رؤوسها كانت تبدو واضحة، الألسنة خرجت واضطربت للحظة ثم لوحت أعلى وأسفل تتحسس الجو والذبذبات فيه. أدار الدكتور فيليبس رأسه بعصبية، كانت المرأة تقف بمحاذاته ، لم يسمع صوتها وهي تنهض من الكرسي، كل ما أحس به كان جلد المياه للدعائم وصرير الفئران على المنخل السلكي. قالت برقة:
– “أيها الذكر الذي تحدثت عنه؟”
أشار إلى ثعبان سميك بلون رمادي مغبر يستلقي بمفرده في إحدى زوايا القفص، “ذاك، طوله حوالي خمسة أقدام، أفاعينا في ساحل المحيط الهادي تكون أصغر عادة، وقد اعتاد أن يأخذ كل الجرذان أيضا، ولذا عندما أريد الآخرين أن يأكلوا يكون علي أن أخرجه بعيدا”
حدقت المرأة في الرأس الجاف عديم الحس، اللسان المتشعب انزلق خارجا وظل يرتعش للحظة طويلة، – “أنت متأكد من أنه ذكر؟”
“الأفاعي المجلجلة مسلية جدا”، قالها بعفوية، “فكل تعميم تثبت خطأه، لا أحب أن أقول شيئا قاطعا حول أفعى جرس، ولكن، نعم أستطيع أن أؤكد لك أنه أفعى ذكر”.
عيناها لم تتحرك من الرأس المسطح، – ” هل تبيعه لي؟”
“أبيعه؟”، صرخ، “أبيعك إياه!”
– “أنت تبيع العينات، اليس كذلك؟”
“أوه نعم، بالطبع أبيعها”.
– “كم سعره؟ خمسة دولارات؟ عشرة؟”
“أوه ، ليس أكثر من خمسة دولارات، ولكن هل تعرفين شيئا عن أفاعي الجرس؟، ربما تلدغين؟”
نظرت إليه للحظة: -“لا أنوي أخذه معي، سأتركه هنا ولكني أريده أن يكون لي، أريد أن أجيء إلى هنا وأنظر إليه وأطعمه، وأن أعرف أنه لي”، وفتحت جزدانا صغيرا وأخرجت ورقة خمسة دولارات، “هاك، الآن إنه ملكي”.
بدأ الدكتور فيليبس يشعر بالخوف، “يمكنك أن تأتي وتنظري إليه بدون أن تملكيه”
– “أريده أن يكون لي”
“أوه يا الهي”، صرخ، “لقد نسيت الوقت”، وركض نحو الطاولة،”تأخرت ثلاثة دقائق، لن أبالي كثيرا”، هز كريستالات المنثول في زجاجة الساعة الثانية ثم انسحب عائدا إلى القفص حيث كانت المرأة لا تزال تحدق في الثعبان. سألت: – “ماذا يأكل؟”
“أنا أطعمهم جرذانا بيضاء، من القفص الذي هناك في الأعلى”.
– “هلا وضعته في القفص الآخر، أريد أن أطعمه”.
“ولكنه لا يحتاج طعاما، لقد تناول جرذا هذا الأسبوع، والأفاعي قد لا تأكل لمدة ثلاثة أو أربعة شهور، كان لدي واحدة لم تأكل لما يزيد عن السنة”، بنغمتها المنفردة سألت: – “هل تبيعني جرذا؟” ، هز كتفيه بلا مبالاة: “فهمت، تريدين أن تراقبي كيفية أكل الأفاعي المجلجلة، حسنا، سأريك، الجرذ سيكلفك خمسة وعشرين سنتا، ذاك أفضل من مصارعة ثيران إن نظرت إليه بطريقة ما، وهو ببساطة ثعبان يتناول عشاءه إن نظرت إليه بطريقة أخرى”
لهجته أصبحت لاذعة، هو يكره الناس الذين يجدون الرياضة في صراع المخلوقات الحية. لم يكن رجل رياضة وإنما عالما بيولوجيا يمكنه قتل ألف حيوان لأجل المعرفة ولكنه لا يقتل ولو حشرة من أجل المتعة. هذا ما كان قد استقر في ذهنه منذ أمد.
أدارت وجهها ببطء نحوه وبداية ابتسامة تشكلت على شفتيها الرقيقتين، – “أريد أن أطعم ثعباني، سأضعه في القفص الآخر” و فتحت غطاء القفص العلوي وأنزلت يدها لداخله قبل أن يدرك ما كانت على وشك أن تفعل، قفز إلى الأمام وسحبها إلى الخلف فارتطم غطاء القفص وأغلق.
“ألا تعقلين؟”، سأل بشراسة، “ربما ما كان ليقتلك ولكنه كان سيصيبك بالمرض رغم كل ما يمكنني أن أفعل من أجلك” .
– “ضعه أنت في القفص الآخر”، قالت بهدوء. الدكتور فيليبس كان مصدوما، اكتشف أنه كان يحاول تجنب العينين المظلمتين اللتين لم تكونا تنظران إلى شيء. شعر بأن وضع جرذ في القفص خطأ بيّن، بل وإثم كبير، ولم يعرف لماذا. عادة كان يضع الجرذان في القفص عندما يريد شخص أو آخر رؤية ذلك، ولكن هذه الرغبة اليوم أشعرته بالمرض، حاول أن لا يعلل السبب كثيرا.
“إنه أمر جيد للرؤية، يريك كيف تعمل الأفعى، ويجعلك تقدرين أفعى الجرس، وهكذا أيضا كثيرون يصابون برعب الأفاعي القاتلة لأن الجرذ ذاتي، بمعنى أن الشخص هو الجرذ، أما عندما تنظرين إلى الأمر كله بموضوعية فالجرذ مجرد جرذ والرعب يختفي”.
أخذ عصا طويلة مزودة بأنشوطة جلدية من على الجدار، فتح الشرك وأسقط الأنشوطة حول رأس الثعبان وضيق السير الجلدي، أفعى جرس جافة حادة ملأت الحيز، الجسد السميك تلوى وتمسك حول مقبض العصا، رفع الثعبان وألقاه في قفص التغذية، وقف جاهزا للهجوم للحظة ولكن الطنين خبا شيئا فشيئا، زحف الثعبان إلى زاوية، كون رقم ثمانية كبير (8) بجسده واستلقى بسكون. “كما ترين، هذه الأفاعي أليفة تماما، إني أملكها منذ وقت طويل، و افترض أني قادر على مسكها إذا أردت ولكن كل من يمسك أفاعي الجرس يلدغ آجلا أو عاجلا، ولا أريد أن آخذ هذه الفرصة”، التفت تجاه المرأة للحظة كارها أن يضع الجرذ في الداخل، تحركت مقابل القفص الجديد، عيناها السوداوان كانت على الرأس الحجري الصقيل للثعبان مرة أخرى، قالت:-” ضع جرذا في الداخل”.
على مضض اتجه إلى قفص الجرذان، لسبب ما كان يشعر بالأسف من أجل الجرذ، وهو ما لم يشعر به من قبل، عيناه مرت فوق كتلة الأجساد البيضاء المحتشدة التي تتسلق المنخل المعدني باتجاهه. “أي واحد؟”، فكّر، “أي واحد منها سيكون؟”، وفجأة استدار غاضبا تجاه المرأة، “ألا تفضلين أن أضع قطة في الداخل؟ عندها ستشاهدين قتالا حقيقيا، بل وربما تفوز القطة ولكن إن فعلت فقد تقتل الثعبان، سأبيعك قطة إن رغبت!”
دون أن تنظر إليه قالت: -“ضع جرذا في الداخل، أريده أن يأكل”.
فتح قفص الجرذان وغرز يده في الداخل، أصابعه أمسكت بذيل فرفع جرذا ممتلئ الجسم أحمر العينين من القفص كافح محاولا عض أصابعه إلى أن فشل و تدلى بلا حراك من ذيله. مشى بسرعة عبر الغرفة، فتح قفص التغذية وأسقط الجرذ على رمل القفص. صاح: “الآن راقبيه”.
لم تجبه المرأة، عيناها على الثعبان الذي كان مستلقيا ساكنا ولسانه يرتعش داخلا خارجا بسرعة يتذوق هواء القفص. هبط الجرذ على أقدامه، استدار وتشمم حول ذيله العاري الوردي وباطمئنان هرول عبر الرمل متشمما، الغرفة كانت صامتة. والدكتور فيليبس لم يعرف إن كانت المياه هي من تنهد أم المرأة، وبزاوية عينه رأى جسدها ينحني ويتيبس.
الثعبان تحرك خارجا بنعومة، اللسان تحرك داخلا وخارجا، الحركة كانت متسارعة، ناعمة لدرجة أنه لا يبدو أن هناك حركة على الإطلاق. في الطرف الآخر من القفص كان الجرذ يتزين في وضع جلوس ويلعق الشعر الناعم الأبيض على صدره، تحرك الثعبان محافظا على انحناء مثل حرف “S” في عنقه. الصمت أثار الشاب فشعر بالدم يتدفق في جسده، وقال بصوت عال:”أنظري إنه يحافظ على الانحناء الضارب جاهزا، أفاعي الجرس حذرة وأقرب للجبن، الآلية أنيقة جدا، عشاء الثعبان يتم تناوله بعملية رشيقة كعمل الجراح، لا يأخذ الاحتمالات في حسبانه”.
انساب الثعبان نحو منتصف القفص حتى الآن، وقف الجرذ ورأى الثعبان وبلا مبالاة عاد للعق صدره. “إنه أجمل شيء في العالم”، قال الشاب وعروقه تنبض بقوة “إنه أكثر الأشياء فظاعة العالم”.
الثعبان كان قريبا الآن، رأسه مرفوع بضع بوصات عن الأرض، رأسه يتموج ببطء إلى الوراء والأمام، كان يسدد و يأخذ مسافة، لمح الدكتور فيليبس المرأة، شعر بالغثيان، كانت تتموج هي الأخرى، ليس كثيرا، وإنما بشكل ضئيل.
الجرذ نظر إلى الأعلى ورأى الثعبان، سقط على أربعة أقدام واقفا ثم كانت الضربة، الرؤية تعذرت فقد كانت مجرد ومضة، ارتج الجرذ تحت ضربة غير مرئية وعاد الثعبان مسرعا إلى الزاوية التي قدم منها واستقر ولسانه يلعب بشكل مستمر.
“مدهش”، صرخ الدكتور فيليبس،” تماما بين عظام الكتف، المخالب لا بد وصلت القلب”
سكن الجرذ، متنفسا كرئة بيضاء صغيرة، وفجأة خفق في الهواء ووقع على جانبه، أقدامه ركلت بتشنج لثانية ثم مات. المرأة استرخت، استرخت بكسل.
“حسنا”، تساءل الشاب، ” كان حماما عاطفيا، أليس كذلك؟”
أدارت عينيها الضبابيتين تجاهه، وسألت: “هل سيأكله الآن؟”.
“بالطبع سيأكله. لم يقتله من اجل النشوة، قتله لأنه جائع”.
زوايا فم المرأة انقلبت إلى الأعلى هازئة، نظرت ثانية إلى الثعبان وقالت: -“أريد أن يراه يأكله”.
للتو خرج الثعبان من زاويته مرة أخرى، لم يكن هناك اعوجاج هجوم في رقبته هذه المرة، ولكنه اقترب من الجرذ بحذر شديد، جاهزا للارتداد إلى الوراء في حالة هاجمه الجرذ، مس الجسد برفق بواسطة أنفه الكليل وانسحب شاعرا بالرضا لأنه ميت، قام الثعبان بتحسس الجرذ من الرأس إلى الذيل بواسطة ذقنه، بدا وكأنه يقيس الجسد ويقبله، أخيرا فتح فمه ووسع فكه على مفاصل الزوايا. الدكتور فيليبس وضع نصب عينيه ألا يلتفت تجاه المرأة، فكر، إن كانت تفتح فمها فسأشعر بالمرض والخوف، ونجح في إبقاء عينيه بعيدا.
ثبت الثعبان فكه حول رأس الجرذ وبتؤدة بدأ بابتلاع الجرذ، الفكين تحركا وكامل الحلق زحف ببطء واتسعت مفاصل الفك ثانية، الدكتور فيليبس استدار وذهب إلى طاولته ثانية، “لقد جعلت واحدة من السلسلة تفوتني”، قال بقسوة، “المجموعة لن تكون كاملة”، وضع واحدة من زجاجات ساعة اليد تحت مجهر قليل القوة ونظر إليها، ثم سكب كل محتويات الزجاجات بغضب في الحوض.
الأمواج انخفضت إلى همس رطب قادم من النافذة، الرجل الشاب أمسك بيت الفخ إلى قدميه وأسقط نجم البحر في المياه السوداء، توقف عند القطة التي انحنت وتجهمت بسخرية في الضوء،جسدها كان منتفخا بدم محنط، أوقف الضغط، سحب الإبرة وربط الأوردة.
“هل تشربين بعض القهوة؟”
– “لا، شكرا لك سأذهب حالا”.
مشى إليها حيث وقفت أمام قفص الثعبان، الجرذ كان مبتلعا كله عدا بوصة من الذيل الوردي علقت خارجه كلسان ساخر. الحلق اتسع ثانية واختفى الذيل، مفاصل الفك عادت لمواقعها والثعبان زحف بتثاقل إلى زاويته، شكل رقم ثمانية كبير وألقى برأسه على الرمال.
– “إنه نائم الآن”، قالت المرأة، “إني ذاهبة، ولكني سأعود وأطعم ثعباني كل حين وسأدفع ثمن الجرذان، أريده أن ينال وفرة منها وفي بعض الأحيان سآخذه معي بعيدا”، عيناها رجعت من حلمها المغبر للحظة: “تذكر أنه لي، لا تأخذ سمّه، أريده أن يحتفظ به، ليلة سعيدة” و مشت بنعومة إلى الباب وخرجت، سمع وقع أقدامها على الدرج ولكن لم يسمع خطوها على حجارة الرصيف.
الدكتور فيليبس أدار كرسيا وجلس مقابل قفص الأفعى، حاول أن يمسد زوره وهو ينظر إلى الثعبان المخدر. “قرأت الكثير عن رموز الجنس السيكولوجية”، فكّر، “ولكني لا أفهم، ربما أني وحيد جدا، ربما علي أن أقتل الثعبان، لو أني أعلم، لا، لا.. لا يمكنني أن أصلي لأي شيء”.
لأسابيع توقع عودتها، “سأخرج وأتركها وحدها هنا عندما تعود، لا أريد أن أرى الشيء اللعين ثانية”. لم تعد ثانية أبدا، ولأشهر بحث عنها وهو يتجول في البلدة، مرارا ركض خلف امرأة طويلة ظانّا أنها هي، ولكنه لم يرها مرة أخرى إلى الأبد.
……………………
هامش : كتبت القصة عام 1938 ،
:The Long Valley
John Steinbeck
Viking Press, 1938