تحرير الحصان الأبيض

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شكري الميدي أجي*

“كلانا نعاني نفس المعضلة”. هكذا قال الشاب للحصان الأبيض فيما كان يشرع بالتحرك باتجاهه ثم يحجم، يرخي جسده ويحرك راسه مراراً كأنه يحاول أن يقول شيئاً ما أو أن يعبر عن أمر ما.
ابتسم له الشاب.
“تبدو رائعاً، كم أنت جميل بهذه الحركات”.
في تلك الفترة نفسها تقريباً تعرف على المسن.
“كان يبدو منهكاً، قادراً على تفجير مدينة بأسرها، لا يشبه أي شخص أعرفه، فيه شيء حميمي، يجذبني إليه مع أن فيه تلك الصفة. دائماً هناك أشياء خفية تجعلنا ننجذب للآخرين، إنها الدقائق الصغيرة التي تحمي انسانيتنا. العزلة كانت مرعبة بسبب إغرائها المقلق، بمعرفة حسان استطعت كسرها بشكل كامل ثم حين انهارت تلك العلاقة بالقتل العنيف، داخل سجون الاستخبارات والأمن العام، عدت لدائرتي الأولى. أصبحت العزلة أشبه باللعنة التي لا يمكن الفكاك منها”.
هكذا قال لفتاته بين الأرفف.
بدا ضمن هالة باهرة من الإلهام!
“الرغبة انقضتْ، التأثير انتهى، الجاذبية لم تكن متوفرة، لذا غصت عميقاً في ذاتي، بحثاً عن الصور والأحلام ودقائق المدينة، رأقبت النوارس، صرت أعرف بعضاً منها ، أميزها من حركاتها، تحليقها، واحد من النوارس يظل معلقاً في الهواء على نحو باهر، قبل أن ينقض على غذائه في المياه، يخترق المياه واسراب الأسماك الصغيرة، في لقطة حاولت مراراً تصويرها بدقة، فشلتُ في كل محاولاتي أن أفسر ما كان يحدث أمامي، فالكاميرا التي استخدمتها لا تجاري سرعة الصيد. فضلت الجلوس لأراقب العملية بهدوء شديد، وهذا ما فعلته طوال شهرين كاملين. أثناء لحظة تنوير مذهلة، رأيتُ في ما يشابه الحلم، أجنحة تخفق، جسداً يرتعش، مياهاً مضطربة وسرباً من الأسماك ضمن الأمواج بلونها البني اللامع، التيار القوي، السفن البعيدة الجاثمة بكسل شديد، الشمس التي أرسلت تلك الأشعة القوية.،استطعتُ أن أرى عيني النورس الحوام، فبدتا جشعتين ومنتبهتين، فيهما تركيز جنوني، حين انحدرتُ، كانتْ إحدى الأسماك تعلو في لحظة طائشة، قطرات المياه والزبد، الصخور البنية والطحالب التي تتكدس على رمال الشاطئ، اصطدم منقار النورس بسطح المياه، التقط الصيد، ارتفع على نحو مفاجئ تاركاً تلك القطرات التائهة تعود للبحر، وذيل السمكة يرتعش بلا هدف، كانتْ القصة قد انتهتْ”.
بهذا الهدوء وضع خيوط القصة التي أراد دوماً العمل عليها، طوال تلك الأسابيع بحث عن أفضل صور النوارس وهي تصطاد. لم يكن يجد إلا صوراً لنوارس تلتقط الأحشاء المنتزعة وأخرى على الصخور الملساء فيما البعض تهاجم الحشرات أو تدخل إلى أعماق المدن الساحلية، تحط بالقرب من السلخانات المرتجلة عند الموانئ الصغيرة، أسواق السمك عند حواف القوارب وعلى متن البواخر العظيمة، كما وجد مجموعة من صور قديمة لنوارس كانتْ تصاحب إحدى السفن الشهيرة التي غرقت في القرن الماضي. أكثر صورة اتقانا تلك التي التقطتها فنانة اسكتلندية على مرفاً اسكتلندي صغير، يقع عند نهاية رحلة قطار هاري بوتر الشهير حيث ترسو بعض القوارب الخشبية العتيقة، تحمل أعلاماً جميلة الألوان وأشكال أسطورية رائعة، إلى جوار نوارس ناصعة في خلفية فتيات بلباس الشعبي.
ذات الصور بالأبيض والأسود، مشاعر هادئة لزمن قديم، بار خشبي بلافتة تحوي أحرفاً محفورة بإتقان، تتدلى معلقة بسلاسل ذهبية رقيقة، يغزوها اللون الأخضر ببطء شديد وأخرى ملتقطة لنورسين ناصعين يتصارعان متقابلين بشكل ساحر، بعد أن سرقا سمكة من سلة فتاة أخرى، مجمدة في قفزة رائعة أظهرت الكثير من حيويتها، لم يفهم القصد من هذه الصورة مباشرة، تطلب منه هذا أكثر من سنتين لفهم ما أرادت الفنانة أن تقوله ببساطة.
“في إحدى الليالي عرفت السر بوضوح”. قال لفتاته: “اشتعل رأسي، لكنني لم أدون شيئاً عن المسألة، نسيت تلك النتيجة اللحظية التي أتذكر أنها كانتْ باهرة. ففي اللحظة التي خلقتُ فيها صورتي عن النورس الغاطس، شعرتُ بالروعة، غمرني إحساس بالنمو المفاجئ حتى إنني تشاجرت خلال ذلك الأسبوع ثلاث مرات من شدة الحماس، داخل المقهى الذي عملتُ فيه لأشهر محمومة. كان يحق لي أخذ تلك أشياء كما فكرتُ لأنني أبدعتُ تلك الصورة الكاملة، لقد أضفت إلى الطبيعة أشياء جديدة، توهمتُ أنني صححتُ ما كان ناقصاً، في الليالي كنتُ أحدق في “صورة النورس” الغاطس، أراقب التفاصيل، كل شيء من الحياة كانتْ تكمن في تلك البقعة الصغيرة، استغربت لحركة الريش، الرياح، قمم البيضاء للأمواج التي كالأوز. مواطن القوة في الصورة كانت معروفة، إنها في كل مكان من الصورة التي جعلتها رسالة شخصية مني للعالم. وضعتُ فيها أكثر المعاني التي تخص الاحترام والمداومة، إنها جزء من المبادئ التي تعلمتها طوال سنوات لخلق الصورة الكبيرة، المفعمة بالمشاعر الإيمانية الحقيقية. لأيام عشت الجانب الآخر من الجنة. الجانب المعتم داخل “تفاصيل الصورة” حتى تلك اللحظة كانتْ الصورة الأكثر كمالاً ضمن مجموعتي، إلى جانب القصص القصيرة المقتطعة من أجزاء الملاحم الكبرى من القصص التبو الشعبية، الأوديسا، سيف بن ذي يزن، السحر والضرب على الرمل، الهولندي الطائر، الرسوم الكارتونية، الأعداد الأولى من المجلات الهزلية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، ما بين الحربين، معاهدة فرساي، سارتر وسيمون دو بوفوار، ألبير كامو وباراغاس يوسا الشاب، الملك إدريس والشلحي، الحقيقة والشمس، الصادق النيهوم يكتب أمام مقبرة الصابري، إبراهيم الكوني داخل بار في إيطاليا، مكتبة التليسي، هانيبال والأفيال، حمامات شحات، بحيرة قبر عون، واحة في الصحراء، العلامات الـ 36 للتبو على مخطوط قديم من تمبكتو، برجي التجارة، جبال تورا بورا، القوى المتحركة من خمسينيات القرن الماضي، الاغتيال الأول في بنغازي، قتل الرحالة البريطاني غوردن لاينغ، لينين بجبهة عريضة وغير منتظمة الشكل والسندان السوفيتي، لحية كارل ماركس والمنجل السوفيتي، قبور الجنود المجهولين وهي خاوية إلا من صلف القادة المزيفين، القصائد الصينية الحمراء على أجساد الصغيرات كالفتاة اليابانية الرائعة عبر مواقع العارضات، الموديل اليابانية Yui Aragaki في وضعيات حالمة، وهي تصعد على مدى السنوات لتغدو النجمة الآسيوية الأكثر شهرة في مجال الترفيه، صورها كانتْ فيها تلك اللمسة من الجنة التي تفقد. طوال السنوات من 2007 حتى هذه اللحظة صوري تنمو بموازة مع الطبيعة البديعة في جسدها الفتي، المكتبات الخيالية في الزوايا المعتمة، الأسلحة التقليدية للقبائل الأفريقية، أكواب القهوة الصباحية مع الأبخرة المتصاعدة والمتلاشية في الفيض الصباحي، الرقصات الفلكلورية للشعوب الأصلية، المهاجرين على متن قارب صغير مكتظ، مغني راب على المسارح في أوقات الذروة، إسقاط كرات مشتعلة، ولبن ناصع ينساب من فم أنثوي، سحب ريشية تعبر بهدوء فوق جبل بركاني خامد، نمور تحدق من فوق أشجار ورافة الظلال، أفغانية أمام جندي من المارينز، فوهة بندقية معتمة تحت سماء صافية، رافعات ميناء صدئة، فتاة جامعية تقرأ باستغراق تحت شجرة أكاسيا، جنود طليان عند الشاطئ الليبي صيف عام 1912، أحمد القرمانلي وهو يتفحص رسالة الباشا أثناء سفره إلى شيوخ الغريان، شهاب ساقط مع أصبع موجه إليه، من إحدى صفحات الفيس بوك: طفل يرتدي ملابس رائد فضاء. ماذا تحب أن تغدو حين تكبر. اريد أن أصبح معلماً. ولماذا ترتدي بذلة رائد فضاء؟ لأني لا أعرف ما يرتديه المعلم. أراقب الصورة باهتمام، كيف يمكن شرح هذا الجنون من دون كلمات. كيف أخلص صوري السياسية والاجتماعية من الكلمات، لم أعرف قط مع ذلك قضيت الوقت في جمع الصور، مثل البولندي الذي عبر بلادنا أثناء ثلاثينيات القرن المنصرم، نوم هادئ متناسق كصورة لعنق راقصة باليه، الأوائل على جدران الكهوف في عمق الصحاري، البطاقات البريدية التي تصور المجاهدين والأساتذة الليبيين من عام 1911 يشبهون إلى حد بعيد الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو، الصادق النيهوم يركض ثملاً في شوارع هلسنكي أمام باعة الشجق، هارون الرشيد في جلسة سمر، بركة البحتري التي تشبه قصر سليمان الملك، الراقصات الأندلسيات في مراكش، نظرات الأمازيغيات كالحد الموسي بأنوفهن المعقوفة كأوروبيات تائهات، بخصلات كثيفة من الشعر الذي يغطي أنصاف عيونهن الشقية، عمر المختار في الأغلال الصدئة، سيارات رالي باريس–داكار التي عبرت صحراءنا ذات يوم، هياكل قديمة غارقة في الرمال لسيارات فقدت على غفلة من أهلها، أسلحة نارية بأيدي القرود، دوستويفسكي العظيم أمام مجمع الأدباء يتحدث عن بوشكين، القتال الأهلي في شوارع بيروت، الأيقونات الدينية والحروب الأهلية، استمررتُ على هذا المنوال”.
صمت كأنه انتشى بسبب صلاة عميقة.
أغمض عينيه لوهلة ثم فتحهما.
“لم أترك حدثاً مررت عليه إلا وضممته إلى مجموعة صوري”. قال مكملاً بذات النبرة الإيمانية: “بالأبيض والأسود وأحياناً تغدو الألوان الباهتة أمراً ضرورياً، أدركتُ مبكراً أن اللعبة تكون بالأضواء والظلال. تماماً كالكهل الأبيض عند الميناء، كالحصان الذي شاهده الرسام الهولندي فان غوخ مهملاً في زاوية معتمة، متروكاً هناك في وضع بائس وباعث على الحزن، يقود للتفكير حول السقوط وفقدان التأثير والجاذبية. وصفه فان غوخ تماماً كما رأته والتقطت فنانة أمريكية تدعى آن باري Anne Berry صورة متقنة بعنوان حصان في الظل Horse in Shadow كنت كلما أفتح الإنترنت أقرأ ضمن مدونتها تلك الكلمات المنسوبة لفان غوخ: “أنا أحلم برسوماتي ومن ثم أرسم أحلمي”. إنجيل فني خالص، أن أحلم بصوري، بتصاميمي، أن أخطط تلك الأشياء التي أراها مسبقاً في أحلامي بحثاً عن واقع الحياة، عن اهتماماتي بالحقائق المخفية وراء المشاهد الطبيعية”.
كان قد قرر أن يجعل منه أيقونة خاصة بتلك الحقبة من حياته، فطفق يبحث بهدوء في كل جزء منه، ساقيه القويتين المنهكتين مع صدره المترهل الذي ينتفض بأناقة وكفله المشدود مع أنه فقد الشعر من عليه، وأخذ الذباب يدور من حوله بالإلحاح يحاول جاهداً إبعاده بحركات دائرية من ذيله تنال من وقاره، لكنه دوماً يستعيده باقتدار بحركة واحدة وبمشية تظهر مدى قوته العضلية.
“أنت مليء بالحياة”. قال للحصان الحزين.
لم يهتم مطلقاً.
“أنت لا تسترخي، تظل مشدود الأعصاب، لا تحتمل الارتخاء كما لا تحتمل اللحظات التي تبدو فيها تافهاً، أوه يا صديقي، الأمر محزن ولا شك، لكنك لا تمتلك إلا هذا الشقاء، أنت فقط، لا تمتلك سواه لذا تعيش وحيداً”.
قال هذا مع قفزة سمكة من المياه، شاهد طرطشة القطرات لكنه لم ير إلا الظلمة التي خلفها جسد السمكة، لا بد أنها كانتْ كبيرة.
“قبل سنوات لا بد أنك كنت قوياً”. أحنى الحصان رأسه ثم اعتدل ملتفتاً ناحية المياه التي ازدادت ظلمة في الأعماق، فيما أخذت انعكاسات الضوء تهتز كأجساد محمومة. حك الحصان بحافره الرمال السوداء، عند جدار الميناء، كانت القاذورات تنسكب باتصال. عدة سمكات تهتز على بقايا الأكياس والعلب الفارغة التي تم القائها على الشواطئ ومع المويجات القصيرة الناعمة، تنجح بعض الأسماك في الإفلات إلى المياه العميقة، فيما أسماك أخرى سيئة الحظ تقع بسبب موجة قوية على البقعة الاسمنتية لتموت بعد صراع عنيف.
عندما وجد تلك الصورة للحصان الأبيض المنهك، تساءل: “ماذا تفعل هنا؟”. إحساس عميق بولادة شيء قديم، شيء ظن يوماً أنه قد مات للأبد، اقترب من الشاشة وأغمض عينيه قليلاً، غاص في الظلمة من الرؤى الشخصية ثم فتحهما.
“لم يكن الأمر إلا اهتماماً مبالغاً فيه، لكن اهتمام مبالغ فيه مبرر على كل حال، قلت لنفسي ثم وضعتُ دفتري على فخذي وبدأت أكتب ما أرى. لم أكن أعرف ما قاله فان غوخ، آنذاك. عرفت هذا بعد سنوات بالمصادفة فيما كنت أبحث عن صورة لحصان منهك، فوجدتُ حديث آن باري، المهتمة بتصوير الحيوانات المهملة، لتظهر في أوضاع نادرة ومثيرة للمشاعر، تُلغي كل شيء من حولها، ليظل الحيوان في كيان مستقل لوحده، حيث لن ترى كمتلق ضمن الصورة إلا تلك الشخصية الجديدة والفريدة للحيوان”.
حين شاهد صورتها للحصان الأبيض للمرة الأولى، أحس بالغرابة تحيط به كأنه داخل فقاعة دافئة يقف وجهاً لوجه مع الحصان الخاص به. كبر الصورة وطفق يتطلع إلى بدن الحصان لساعات متفحصاً. العينان المعتمتان. الخطم الجاف وعليه تلك الشعيرات المتناثرة، نفس الحزن المميز، ذات المسكنة والبقاء في الظل.
شعر بإحساس غريب بلقاء صديق قديم.
“ها أنت مجدداً”. قال وهو يلمس الشاشة بأصابعه.
“أحسستُ بالدموع تلتهب في عيني، لم يكن هذا اللقاء عادياً، الدموع لم تعرف طريقها إلى عيني منذ زمن. هززتُ رأسي عدة مرات ثم أخذتُ أطالع الصورة باهتمام شديد أخذ يزداد مع الوقت”.
استعاد ما حدث قبل سنوات.
بعض الأحداث لا تموت!
تائهاً ضمن عقله، شاعراً بصخب الماضي من حوله روى لها حكاية شتوية.
“كنتُ في حلم وكنتُ برفقة الحصان الموثوق عند الميناء. حين تحرك الحصان، أصدرت السلسلة الصدئة تلك الضحكة المكتومة. “وتضحك أيضاً، أتستعمل قيودك للضحك؟”.
ظل الحصان يتحرك فيما استغرق في تتبع حركاته، في تلك اللحظة قفزت سمكة ضخمة من البحيرة مخترقة المياه، غاطسة في أضواء المدينة، بجسدها المبلل، اللامع كحد سيف هندي.
“أتعرف؟”. قال للحصان الأبيض الذي توقف متطلعاً، ثم أضاف: “أتعرف أن هذه اللقطة تصلح لأن تكون رمزاً لمدينة بنغازي، السمكة القافزة من المياه! تصلح كرمز لأية مدينة على ساحل المتوسط، المتوتر دوماً بقلقه الوجودي، مرفأ بيروت مارسيليا، الساحل الأزرق، ميناء إسكندرية، كل مدن الفينيق، يمكن أن تستخدم السمكة القافزة كرمز لها. الحياة ليست سوى لقطات نعيشها، لم تعد كما في السابق”.
لم يهتم الحصان كثيراً.
“ظل يلتفت يمنة ويسرة، عندها لاحظتُ ذلك الجرح المتوحش عند نهاية القدم وبداية الحافر. نزلتُ على التربة السوداء، ببطء اقتربتُ منه. في حين تراجع الحصان قليلاً، هازاً رأسه محتجاً عدة مرات. لم أكن أعرف سبب اقترابي منه بتلك الحرقة الأبوية، كأنني خبير جنائي تطلعتُ عدة قرب إلى جرح الحصان. لم يكن جرحاً صغيراً كما تخيلتُ في البدء، بل كان يشد بوحشية على جسده. السلسلة الصدئة تأكل من قدمه. تأسفتُ بشدة، متطلعاً حولي مراراً. للمرة الأول أتساءل جدياً عن صاحبه”.
كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف، عبر السماء الرمادية أخذت الأضواء اللامعة تؤذي العينين، لكن الغروب أخذ يتلون عند الأفق، كان يمكن ملاحظة هذا بالرغم من كثافة الغيوم، التي لم تصل بشكل كامل إلى الأفق، فبدتْ حواف السحب مشتعلة مثل طرفي سكين محمى، انطلقتْ الأشعة من ورائها لتسقط مباشرة على سطح البحر، الأفق مشتعلاً وقت الغروب، تحرك بحذر ناحية الحصان، لمس كفله ببطء، فانتفض كفله مرتجاً، عندها لاحظ أن السلسلة متفككة وإن الوتد المغروس، لا شيء”.
“ما هذا أيها القوي؟”. انحنى متفحصاً السلسلة الصدئة، فوجدها متخلخلة بحيث أن أقل جذبة من الحصان ستغدو كافية لأن تهمشها تماماً، لأن تحولها إلى قطع من تاريخ المكان، لا يمكن لسلسلة كهذه أن تكون قد أعجزت حصاناً قوياً كالكهل الأبيض، لا يمكن لهذه الحقيقة أن يقبلها عقل أي انسان. قام مستغرباً من مدى ما تكون عليه أوهامنا ضمن واقعنا الخاص. حين تكون مشاكلنا محض أشياء لا تُمثل تحديات مهمة لطاقاتنا الداخلية ولقدراتنا على التقدم، لكننا نظل نرزح تحتها حتى يأتي ذلك اليوم الذي نشعر فيه بأننا فعلاً لن نظل خاضعين لتلك الظروف”.
“أيها القوي أنت مربوط بخيط من خيش”. هذا ما قاله.
“لمستُ السلسلة. الحديد الصدئ كان خشنا”. قال لفتاته شارحاً” “كان مبللاً قليلاً بالمياه السوداء وشديدة البرودة. نخر الحصان حتى تدفق البخار الحار من جوفه، من تلك الزاوية بدا كجدار آيل للسقوط، كثافته كبيرة على الرؤية، لم تكن الزاوية المناسبة لأية صورة يمكنني أن أصممها، لكنني شعرتُ بأنها زاوية جديدة لمعرفة ما يحتويه هذا الحيوان من وقار، نظرته المظلمة، عقنه الثخين وهو يلويه ليستطيع رؤيتي. حدقتُ في عينه اليسرى المعتمة”.
“ليس محكماً، بوسعك أن تكسره بسهولة”. هكذا أخبر الحصان متأسفاً.
“رويتُ له قصصاً تاريخية عن الأحصنة القومية”. قال وهما بين الأرفف شبه الخالية لقسم الأدب الغربي: “شرحتُ له أن النسور والصقور والأحصنة تداعب أحلام الديكتاتوريين. كانت عصرية مدهشة، تحدثت بحرية عن ركض الجنرال الليبي على حصان أبيض في تلك الفترة. التربة كانت مبتلة. المدرجات حاشدة بالجماهير. الحماس بلغ ذروته. كنتُ تمنيتُ من وراء الشاشات أن يجمح الجواد الأبيض حتى يُسقط المستنقع الراكد فوقه، لكنها أمنية لم تتحقق، فالخيالات هي وحدها التي تجعل من الأحصنة معارضة للجنرال المفعم بالوحدة حتى أنه يتماهى مع جسد حصانه ليركض به خلال مساحاته الخيالية الخاصة. يتخيل بهدوء أنه “هو شخصياً” من يقطع تلك المسافات المبتلة. جسده هو ما بين فخذيه. قوة العضلات. الجسد الذي يرتج تحته بكل تلك التقلصات الجنونية. لم يكن السرج أمراً موجوداً بين الجنرال والجواد الأبيض في تلك الليلة. كثير من الأقمشة والرياح. رويتُ للحصان في تلك العصرية كيف أن الحياة تحتوي مثل هذه السخريات السياسية. ماو تسي تونغ سبح مسافات هائلة في نهر يانغ تسي الصيني، لمجرد أن يثبت للأعداء أنه لا يزال قادراً على مواجهة الأمواج السياسية العاتية وأن جسده السبعيني لا يزال قادراً على ذلك. حكيتُ له أيضاً عن أحلامي حين تتحول “أمواج الأنهار” إلى أحصنة هائجة ثم أخبرته بأمانة تامة: “ولدت لتستخدم قدميك، كيف رضيت البقاء في هذه البقعة المريضة. هذا المكان الموبوء، لكنك لست كذلك، أنت أكثر من هذه الحياة”.
كانا في لحظة عميقة من الانسجام الجسدي. جالسان على المقعد في الطابق الثالث ويحتضنها من الخلف. يروي لها قصته الفنية العظيمة “تحرير الحصان الأبيض” والتي يعمل على فهمها من أجل تصميمها. حصان سباق مطلق السراح في شوارع بنغازي.
“شددتُ السلسلة مجرباً. الظلمة كانت قد هبطت. الأضواء الكابية. السيارات المسرعة مع زخات المطر التي جعلت من الإسفلت مصقولاً، تسبح عليه الأضواء وتنساب من فوقه عجلات السيارات بهياكلها. خفة كاملة. شديد الإبهار. لم أكن أعرف ما أفعله. رؤية الدماء على رجله. الحزن في عينيه. الوحدة. شددتُ السلسلة. اقتلعتُ الوتد الصدئ من الأرض، فانزاحت التربة السوداء ثم لمعتْ بطرف الوتد المدبب، قمت بفتح ولي السلسلة عند القدم. سحبتُ الرسن من فمه. خاصته. ألقيتُ به على التربة القذرة. سمعتُ المياه لكنني لم أر. كان الحصان قد أطلق لنفسه العنان، تدفقت الحياة بين ساقيه. تراجعتُ قليلاً. كنتُ أتنفس بعمق. الهواء شديد البرودة. تلك الصورة للحصان المحرر، كانتْ مذهلة. شد من نفسه. استقام ظهره. شفط بطنه. أرخاه. انفتح منخراه. قلصهما مجدداً ثم فتحهما على أقصى اتساع. مليء صدره بالهواء النقي. تطلع ناحيتي لوهلة. خمش الأرض بحافره. لطمتُ كفله الصلب، فرأيته ينطلق بخبب. برشاقة أحصنة عروض سيرك دو سوليه، كأحصنة العروض العسكرية، كأن على ظهره يجثم ديكتاتوري أخلاقي. ركض متقافزاً ببطء، بأناقة. تطلع إلى عدة جهات. هل يحيي جمهوراً خفياً؟ زمن مضى. هز رأسه محتجاً، فسمعتُ وقع قدميه على قرميد الرصيف. تكاثرت الأصوات. زاد من سرعته. خبباً على المادة لإسمنتية. حين استجمع شتات ماضيه، أخذ يعدو بشدة. بقوة. في خط مستقيم. كنتُ أتقدم صاعداً المادة الإسمنتية. قبتا الكنسية بلونهما الأخضر. الحصان الراكض. احتجاجات سعف الدوام. أضواء السيارات. بعض الصراخ للأطفال والرجال. أخيراً انعتق. تطاير شعره. الرياح تخللت كل خصلات جسده. كل شعرة في جسده تسبح. لا بد أن الدموع عينيه. كنتُ أسمع طرقات حوافره على الإسمنت. إنه السحر. رأيتُ من على المادة رجالاً يركضون في الجهة المقابلة. أحدهم خرج من مقهى صغير. أخذ يُطارد الحصان وهو يُشير بيديه. شخصان آخران يحاولان إيقاف السيارات المسرعة. انحرف الحصان لجهة الشارع الرئيسي. وفي تلك اللحظة بالذات رأيتُ عينه اليسرى، متسعة برعب انطلق ناحية الجهة التي أقف فيها، مر بالقرب مني. تناثر الهواء. الصوت. اللون. كان عملاقاً اتسع بضخامته الطارئة بشكل مثير للمشاعر. التفتُ فوجدته يحاول الانعطاف مجدداً، اصطدم بعدة سيارات، لكنه عبر من بينها كحصان من حروب العالمية الأولى عائداً إلى مساره الأول، على الإسفلت وسط الطريق، أخذ يركض بثبات وتسارع. عيناي لا تفارقانه. مر بالقرب مني مرة أخرى بنفس القوة.. وقع خطواته. دفقات البخار. في لحظة قصيرة أخرى لثوانٍ معدودة أغمضتُ عيني. انطبعتْ تلك الصورة للحصان الأبيض في ذهني. كان واقفاً على قائمتيه الخلفيتين، مستعداً ببطولة. حين فتحتهما كان صهيله يملأ الأجواء مع أصوات فرامل قوية، فقد ظهرتْ شاحنة مسرعة من المنعطف تحاول التوقف، عبثاً. جزؤها الخلفي في جهة وكابينة السائق في جهة أخرى. ثم رأيتُ الكهل الأبيض يصطدم بقوة بالجزء الخلفي منها ويُقذف مثل قطعة خشبية، بعيداً. لحظة سكتتْ خلالها الأصوات”.
قال إنه أخذ يستمتع باتصال زخات المطر عند كتفيه.
…………………………….
* فصل من رواية “توقف نمو”
*قاص وروائي ليبي
*الصورة بعنوان horse in shadow للمصورة Anne Berry

مقالات من نفس القسم